ليس كبَيتٍ في الجنوب

“في البيت”، أجيب أصدقائي قاصدةً بذلك غرفتي المستأجرة في فرن الشبّاك، أربعة جدران وشرفة وأثاث لا أملكه، لكنّني أدفع ثمن استخدامه، وشركاء سكن لا أعرفهم، ولا أحبّهم بالضرورة، لكنّ أحدًا منهم لم يتجاوز عتبة بابها منذ قدومي إليها، ولم يقاسمني حتّى هواءها العابق برائحة السجائر والصمت.

أسميت الغرفة “بيتًا” للمرّة الأولى بعد أسبوع على بداية الحرب، ولم أكن قبلها قد أشرت إليها بهذا المسمّى، كانت مجرد مكان يمنحني خصوصيّة البقاء وحدي، وفعل ما لا أرغب بإطلاعه على أحد، أيّ أحد، ولكنّها، ومع إندلاع الحرب، وتصاعد مشاهد المغادرين بيوتهم عنوةً، وخوف من يعيشون في بيوت تحت مرمى النيران المستعرة، صارت على ضآلتها بيتًا، رفاهيّةً لا يمتلكها كثيرون، سقفًا لا يوجد احتماليّة لسقوطه، وصرت أتحسّس مفاتيحها في جيبي طوال الوقت، كأنّ ضياعها يعني ضياع الملجأ الأخير لي في هذا العالم، وتمنّيت في أوقات كثيرة لو أنّها تسعني وكلّ الذين أحبّهم وأخاف عليهم من الموت في هذه الحرب، وجميع من لا يمتلكون بيتًا في هذا العالم.

أسئلة الشقاء

لم يكن هذا الشعور بالطمأنينة، خاليًا من مسحة الذنب الذي حملته معي في كلّ مرّةٍ التقيت فيها أحد أصدقائي ممّن غادروا بيوتهم في الجنوب، وممّن يفتقدون، أشدّ ما يفتقدون، العودة إلى البيت، وفي كلّ مرّةٍ رأيت فيها أناسًا يرثون- بكلّ ما للكلمة من معنى- بيوتهم التي دمّرتها الحرب، بيوتهم التي صارت مجرّد ركام وذكريات لا مجال لاستعادتها، وفي كلّ مرّة شاهدت شقاءً افتراضيًّا، لأناس باتت الخيم والمشافي والمدارس بيوتهم الموقّتة، في حين لا أعلم ولا يعلمون هم أيضًا، إن كان ما زال لديهم بيوت ليعودوا إليها عندما تنتهي الحرب، ولم يجد العالم حتى الساعة طرحًا واحدًا معقولًا، يخبرنا به، إلى أين سيعود كلّ هؤلاء الذين فقدوا بيوتهم؟ وكم سنة ينبغي أن ننتظر، لنرى تلك البيوت عامرةً من جديد، يسكنها أهلها، ويعودون إليها متى يحلو لهم، ويفعلون بين جدرانها، ما هم عاجزون عنه اليوم، من أبسط الأشياء حتّى أكثرها خصوصيّة وحميميّة؟ ومتى سيجتمع أفراد العائلة على مائدة واحدة، نظيفة ومرتّبة بعناية؟ ومتى سيخلد الأطفال إلى نومهم، دون أن تراودهم، كوابيس السحب الرماديّة التي كانت كما وصفتها الشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، بالأمس، بيوتهم.

أسميت الغرفة “بيتًا” للمرّة الأولى بعد أسبوع على بداية الحرب، ولم أكن قبلها قد أشرت إليها بهذا المسمّى، وصرت أتحسّس مفاتيحها في جيبي طوال الوقت، كأنّ ضياعها يعني ضياع الملجأ الأخير لي في هذا العالم

الحب.. البيت

لطالما آمنت، قبل الحرب، أنّ أعلى درجات الشفافيّة والوضوح والألفة، أن نجلس مع من نحبّهم في بيت واحد، حيث يتاح للمرء أن يرى الآخر على سجيّته، مجرّدًا من تحفّظات الخارج، ومن الأقنعة التي يرتديها أمام الآخرين، في الشوارع وفي المقاهي وفي كلّ الأماكن التي تفرض عليه رؤية زائدة، انكشافًا أمام من لا يختارهم بكامل رغبته.

لذلك حرصت، مذ صارت هذه الغرفة بيتي، ألّا يدخلها سوى من أشعر أمامهم أنّه بمقدوري أن أكون أنا، وحرصت ألّا أدخل البيوت التي لا أستطيع مع سكّانها، أن أكون أنا، وأن يكونوا هم هم، وكان مشهد الناجين من الحرب، الملزمين بأن يعيشوا مع الغرباء في مساحة واحدة، المحرومين من قدرتهم على أن يعيشوا لحظة واحدة يكونون فيها هم أنفسهم، مشهدًا لاذعًا يثير حفيظتي بطريقة لا أستطيع في كثير من الأحيان شرحها، ولم تكن فكرة أنّ هذه هي سبل النجاة الوحيدة المطروحة والممكنة لهم، كافية لنبذ هذه الحقيقة القاسية، فهؤلاء، حتّى في هروبهم من الموت، يعيشون شكلًا من أشكاله، باضطرارهم كلّ يوم وكلّ ساعة، إلى أن يكونوا أشخاصًا آخرين، أشخاصًا لا يشبهون الأشخاص الذين كانوهم في البيت.

من البيوت القديمة في الجنوب
صمود حتّى الموت

وهناك، في مقلبٍ آخر، حيث الجنوب وأهله، وعلاقتهم السخيّة مع البيت والأرض، ثمّة من اختاروا الموت بدلًا من مغادرة البيت، لأنّهم عرفوا منذ الرصاصة الأولى في هذه الحرب، ألّا مكانًا لهم سوى هذه البيوت، وأنّ كلّ مكان آخر خارجها، لا يصلح للعيش، فشاهدنا، في عداد الشهداء المدنيّين، نموذجًا متكرّرًا لعجوز وزوجته المسنّة، ممّن صمدوا في بيوتهم القابعة في القرى الحدودّية، متمسّكين بشكل الحياة التي اعتادوا عليها عقودًا من الزمن. الحياة التي تعنيهما فقط في بيتٍ واحد، لا أنيس آخر، ولا غريب يعكّر صفو الإلفة الطويلة بينهما، ومستسلمين في الوقت عينه للموت المحتمل، لأنّه أهون ربّما، من محاولة التأقلم مع طريقة جديدة للعيش، فرضتها الحرب على أبناء وسكّان المناطق الحدوديّة كافّة مع إسرائيل.

ماهيّة البيت

سنة كاملة في الغرفة، وعشرة أشهر طويلة من حربٍ حصدت مع آلاف الشهداء، آلاف البيوت، ودفعت الآلاف إلى أن يعيشوا في أماكن، لا تشبه البيوت، جعلتني أدرك- متأخرةً ربّما- أنّ البيت، هو في نهاية المطاف، مكان يرغب المرء دائمًا في العودة إليه، ومساحة تمنحه شعورًا حقيقيًّا بالأمان، وحجارة صلبة شاهدة على أصدق الذكريات وأكثرها إلفة ودفئًا، وسقف لا خوف من سقوطه في أيّ لحظة، وملجأ المرء من مخاطر العالم الخارجيّ، وفرصته الوحيدة لأن يكون هو نفسه، بعيدًا عمّا تفرضه عليه أعين الآخرين.

والبيت، بعيدًا عن المفهوم المجرد للشيء الملموس، هو العائلة بكامل أفرادها واشياءها، وطفل يعانق شقيقته ويضحكان، ووجبة عشاء ساخنة وكافية، وحضنٌ دافىء للأحبة للأقرباء والأصدقاء، ونومٌ هادئ لا يؤرقه ضجيج الحرب، ولا صخب الموت المحتوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى