مآل دارة حبيب باشا مطران من عهد بيوت بعلبك التراثيّة (3)
“ما زال عالقًا في ذهني ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه جدّي، رحمه الله، في مطلع سبعينيّات القرن الماضي إلى حسينية السوق، كما كانت تسمّى حينذاك، وربّما ما زالت التسمية سارية المفعول حتّى يومنا هذا. لم أعد أذكر طبيعة المناسبة، لكنّها كانت ذات طابع ديني، في طبيعة الحال”، والكلام للكاتب الدكتور محمّد شرف الذي تابع يقول: “كان ثمّة جمعٌ غفير يتوزّع في أنحاء المكان، وخصوصًا في الباحة الخارجيّة. وبما أنّ كثيرين، بحسب ما أذكر، أشادوا بجماليّة المكان واتّساعه، وأبدوا بعض الدهشة، يمكن الإستنتاج أنّ هذا الاحتفال أقيم بعد فترة وجيزة من افتتاح المكان الذي غدا مركزًا دينيًّا يخصّ الطائفة الشيعيّة”.
لم تتضمّن المدينة، حينذاك، أمكنة بهذا الحجم والاتّساع تصلح لتجمّعات من هذا النوع، سوى المساجد ذات مساحات شبه ضيّقة ومغلقة. أمّا المكان الذي نحن في صدده فقد جمع ما بين القاعات الداخليّة، والخارج المفتوح على السماء، مع شجرة ظلّلت قسمًا منه، ما زالت في مكانها إلى اليوم، لكنّها امتدّت حتّى شملت نصف سماء الباحة الخارجيّة.
حسينيّة في القصر
وعندما أنشأت “الحسينية” كانت الأقدم في المدينة كلّها، وقد أفادنا أحد السكّان، ممّن عايشوا تلك الحقبة، أنّ عديدًا من رجال الدين تعاقبوا على الخطابة فيها، ومنهم “الشيخ” عبدالله العلايلي، والمفتي حسن خالد ومفتي بعلبك، إضافة إلى أنّ بعض خطباء أهل السنّة كانوا يشاركون في إحياء ذكرى عاشوراء أكثر من الشيعة، و كان يتردّد اليها دومًا الشيخ العراقي عبد الوهاب الكاشي.
في تلك الفترة من مطلع سبعينيّات القرن الماضي، لم نكن نعلم شيئًا عن تاريخ البناء الذي تحوّل طابقه الأرضيّ إلى حسينيّة (هذه التسمية ليست دقيقة، كما سيتبيّن لاحقًا). كذلك لسنا على اطّلاع وثيق، حاليًّا، عمّا كانت حاله بعد وفاة صاحبه حبيب باشا مطران، في مطلع القرن العشرين. وقد حاولنا قدر المستطاع تتبّع أحوال المنزل، الذي ذكرنا في الحلقة الماضية بعنوان (دارة حبيب باشا مطران من عهد بيوت بعلبك التراثيّة 2) أنّ سيرته أشبه برواية من طابع خاص، اختلطت فيها أمور عدّة، مختلفة من حيث طابعها وحيثيّاتها.
عاش ورثة حبيب باشا مطران في المنزل عقودًا عدّة، كما نفترض تبعًا للمنطق، إلى أن اشتراه بركات والياس السكاف، نحو العام 1940، ليرثه من بعدهما أبناؤهما، ومنهم ميشال وجوزف، وهذا الأخير ما زال يسكن مدينة بعلبك حتىّ يومنا الحاضر. مع العلم أنّ آل السكاف سكنوا مدينة زحلة في الأساس، وتعود نفوسهم إليها، إلاّ عن سبب مجيئهم إلى بعلبك وسكنهم فيها، فلأن المدينتين كانتا تعتبران ضمن محافظة واحدة في ذلك الوقت، التي هي محافظة البقاع.
دارة “جمعيّة التوجبه الإسلاميّ”
وبما أنّ أبناء العم كان يملك كلّ منهم نصف البيت، فقد اضطرّ أحدهم، إثر إفلاسه وتدهور أحواله المادّيّة، إلى بيع حصّته إلى آل مرتضى والجوهري، وذلك نحو العام 1960. هذا الأمر لقي اعتراض بقيّة الورثة، وبقيت المشكلة معلّقة حتّى العام 1970، حين تدخّل الإمام موسى الصدر، محاولًا إيجاد حلّ من خلال ما يسمّى “حقّ الشفعة”.
استضاف الإمام الصدر جوزف السكاف على مائدة الغداء، في بلدة جباع الجنوبيّة، وطلب منه حلّ النزاع في شكل ودّيّ. استجاب السكاف لهذا الطلب، واقتضى الحلّ بأن يُباع الطابق الأرضيّ من البناء إلى جمعيّة التوجيه الإسلاميّ، مع العلم أنّ الحصص العائدة إلى عائلتيّ مرتضى والجوهري كانت صغيرة، لذا قامت جمعيّة التوجيه بشراء الحصص، لتصبح المالك الحصريّ للدارة بكاملها.
الدارة تحت خلافات الملكيّة
أفادنا أحد المحامين، العارفين بدقائق الأمور في ما يخصّ هذه المسألة، أنّ البيت كان في البداية، وبعد مبيع طبقته الأرضيّة، عبارة عن نادٍ ثقافيّ يجتمع فيه أبناء بعلبك كلّهم من دون استثناء. ولكن، وفي فترة لاحقة، رفعت الجمعيّة دعوى قسمة جبريّة، أو ما يسمّى بإزالة الشيوع، حتّى تتمكّن من التصرّف في البيت كما تشاء، بالرغم من وجود مقاسمة مثبتة بحكم قضائيّ، كانت قد تمّت بسعي شخصيّ من السيد موسى الصدر.
البيت كان في البداية، وبعد مبيع طبقته الأرضيّة، عبارة عن نادٍ ثقافيّ يجتمع فيه أبناء بعلبك كلّهم من دون استثناء. ولكن، وفي فترة لاحقة، رفعت الجمعيّة دعوى قسمة جبريّة، أو ما يسمّى بإزالة الشيوع
أمّا الأحياء من آل السكاف، المتقدّمون في السنّ، أصحاب الحصّة في الطبقة الثانية من البناء، فيعيشون اليوم في شقّة مستأجرة في بعلبك، قريبة من البيت، في ما يشبه الحضور المادّيّ الرمزيّ، إذ أبَوا مغادرة المدينة، على الرغم من المرض والحاجة الدائمة إلى عناية صحّيّة. أمّا السبب الرئيس في بقائهم في بعلبك، فهو أنّ الملكيّة واقعة تحت جملة من المشكلات القانونيّة، وتتمحور حول رفضهم بيع حصصهم في البناء، لأسباب تخصّهم دون سواهم.
بقايا زخارف السقوف
من ناحية أخرى، ذات علاقة بالناحية المعماريّة- الزخرفيّة، فقد كانت غرف البيت، كما جاء في القسم الأوّل من هذا التحقيق، مزخرفة بشتّى أنواع الزخرفة، العائدة إلى التقاليد الأوروبّيّة المتوارثة من عصر الـ”باروك”، إذ كان من الشائع أن تعمّ الزخرفة السقوف أكثر من سواها من عناصر البناء، فقد بقيت بعض هذه الزخارف في مكانها على أسقف الغرف الداخليّة، ولكن ليست كلّها.
تنوّعت هذه الزخارف بين الطابع المسمّى “نباتيًّا”، أيّ ما معناه استعمال “موتيفات” مشتقّة من أشكال الزهور والنباتات، إضافة إلى رسوم أخرى ذات طابع تمثيليّ تشخيصيّ، تمثّل، كما تقتضي التقاليد “الباروكيّة”، وحتّى ما قبلها أو بعدها، ملائكة سابحة في السماء، وهو ما نصادفة في كثير من البيوت الأثريّة التي ما زالت قائمة في وقتنا الحاضر.
تمّ الحفاظ على الرسوم النباتيّة، وربّما جرى ترميمها جزئيًّا، أو تنظيفها في وقت من الأوقات. أمّا الرسوم التشخيصيّة، التي ترافقت أيضًا مع بعض التماثيل الجصّيّة الصغيرة، فلم تحظَ بالاهتمام، بل كان مصيرها الإتلاف، إذ أزيلت بلا رحمة، إنسجامًا مع النظرة الدينيّة الإسلاميّة لمسألة التشخيص.
هذه المسألة دار حولها، ولا يزال، جدال مستفيض لم يُحسم تمامًا، وخصوصًا بعدما صرنا نرى “بورتريهات” أيّ ملامح الوجوه مرسومة لرجال دين وأتقياء وأئمّة. لكنّ الحظر لا يزال ساري المفعول، لدى مذاهب أكثر من أخرى، عندما يتعلّق الأمر بالأعمال النحتيّة أكثر من سواها، كما هو معروف. على أيّ حال، تمّت إزالة الرسوم والأعمال النحتيّة ذات الطابع التشخيصيّ، وأبقي على الزخارف الأخرى، كما ذكرنا.
سوء حظّ دارة مطران
إمعانًا في “سوء حظّ” هذا المنزل الدارة، جاءت حرب 2006 لتطاوله بدورها. إذ تعرّضت بعلبك حينذاك إلى ضربات إسرائليّة عدة، واستهدف مركز صحّيّ على بعد عشرات الأمتار من البيت، ممّا أدّى إلى ضرر كبير في سقف القرميد، وتضعضع أجزاء أخرى من البناء. تمّ ترميم السقف من قبل “حزب الله” وبلديّة المدينة، لكن الجدران المتصدّعة التي تحمل وزنه، وخصوصًا من الجهة الجنوبيّة، لم يجرِ ترميمها، نظرًا إلى صعوبة هذه المهمّة، التي تتطلّب موارد مادّيّة لم تكن متوافرة، ولم يتمّ تأمينها حتّى اللحظة الحاضرة. وعلينا أن نتصوّر كيف يكون عليه وضع الغرف الداخليّة للطبقة الثانية، ما يجعلها غير قابلة للسكن، أو لأيّ غاية أخرى.
وفي حين ما زالت تقام بعض النشاطات الدينيّة القليلة في الطابق الأرضيّ، كمجالس العزاء وسواها، فقد جرت محاولات من أجل ضمّ البيت على لائحة المديريّة العامّة للآثار، كي لا يُصار إلى إجراء أيّ تعديلات فيه، كما أفادنا عديد من العاملين في الحقل الثقافيّ، ممّن سعوا إلى ذلك. لكن هذا الهدف لم يتحقّق، كما لم تتحقق مشاريع مماثلة في المدينة، وفي الوطن بأسره.
هكذا، بقي المنزل على حاله الحاضرة؛ ربما لن يصمد أمام عوامل طبيعيّة، أو غير طبيعيّة، متطرّفة. لكن في جميع الأحوال، ثمّة قلة من الأفراد يعيرون انتباهًا إلى هذه المسائل، أمّا الأكثرية الساحقة من الخليقة فتمرّ من قرب دارة آل مطران في بعلبك من دون أن ترمقها بنظرة، وهذا الأمر ينطبق، في شكل أساس، على أولئك الذين لا يعلمون شيئًا كثيرًا عن تاريخ هذه المدينة، وليست لديهم أيّ نيّة من أجل الاطّلاع عليه.