ماجدة داغر: أحيا كقصيدة داخل قصيدة
يستطيعُ الشعرُ أن يتمرّدَ على مفاهيم اللغة وجغرافيا المجاز ولعنةُ الكناية والاستعارات، ليصبحَ يدًا تنبشُ وتُفتّش عن مواجعَ الإنسان وعذاباته، ولسانًا يتلو للعدم تراتيلَ الحبّ والوحدة والأحلام .. يستطيعُ الشعرُ أيضًا أن ينقلبَ على كلّ موروثٍ عقيم، وعلى كلّ سائدٍ مقطوع من دهشة، ليصيرَ غيمةً تهطلُ متى تشاء، وربيعًا يفاجئ باخضراره كلّ شتاء .. يستطيعُ الشعرُ أن يمارسَ ذلك كلّه حينَ ينقادُ بكاملِ غوايته لامرأةٍ تعرفُ جيدًا كيفَ تُعرّي اللغة من كلّ رداءٍ يسترُ مفاتنها، لامرأة تشربُ شايها المعتق وهي تُقلّبُ وجوه القصيدة على كلّ احتمال، لامرأةٍ وحيدة جدًا، رقراقة أكثرَ من الماء، لامرأة لبنانية قدرها أن تحمل اسم : ماجدة داغر ..
ليس سهلًا أن تحوطَ “ماجدة” في هذا الحوار الذي خصّت به “مناطق نت”، لأنكَ تحتاجُ إلى ذراعين بـ “وسع المدى”، فالحوار معها يشلحُكَ في “غربة” عن نفسكَ، في عزلةٍ موحشةٍ تنهشًكَ من أعماقك في ميدانٍ مكشوفٍ ومزروعٍ بالورود والأشواك و .. “الألغام”.. سألتُها:
أن تشكو لسكين شهوة الجروح لمعانقة جسدك دون خوف من مرايا الجريمة في نصلها، فهذا يدعى في فلسفة الدماء: قصيدة تضمّدُ وحشة الضلوع بالرقص والغناء. كم امرأة تستفيق من بين أضلعك عندما تفوح في دمك رائحة مجاز يتقن فن الغواية؟ وهل تعتقدين أن سرب ألوان بإمكانه رسم امرأة تبحث عن المرايا في ملامحها الجميلة؟
هذه الحرب تستعرُ طيلة الوقت، هذه الدماءُ تغلي طيلة الوقت، هذه الصرخةُ مستمرة، هذي القصائد تعيش أبداً، إذ ننتهي لا تنتهي، تحت جلدي تعيش أنا وأنا وأنا، لا أحد غيري في هذا الوعاء الزجاجي.
الابتعادُ عن التقليد هو الغاية القصوى، والبحثُ دومًا عن الابتكار، رحلة بحثي مستمرة عن قصائد وليس عن نساء، المرأة هي مجموعة من النساء، ليست كائنًا واحدًا بل هي كائنات متمايزة، منسجمة ومتناقضة، داخل هذا الجسد (المعبد)، والمتغلغلات بروح هذه السيدات المتراكمات على جبل روح واحدة، وكل امرأة هي قصيدة حتى وإن كانت لا تتقنُ كتابتها، لأنها تقومُ بفعل القصيدة من خلال دورها في الحياة، ولا بأس إن كانت المرأة تُتقن حَبكَ القصيدة وصوغ الشغر فهي تضفي عليه شيئًا من “ضوعها”، فهذا الكائنُ هو “المصطفى” والنعمة الإلهية، لذلك فإن كان يُتقن الشعر فهو وكما يقول هايدغر: يقول المقدّس..
المرأة كينونة تتجلّى في عظمتِها الروحية والبيولوجية، وهي “ربة الشعر العاشرة” التي أبحثُ عنها عند كل صباح، ليست المسألة في العثور عليها من عدمه، بل في مواصلةِ البحث، نسألُ من دون انتظار الإجابات، لأن الشعرَ هو “غزو النفس بالنفس” لأننا نعيش حربًا قاسية بيننا وبين أنفسنا..
النساء اللواتي ركضن طويلاً خلف شبح الأمومة الذابل في منتصفِ الدورة الشهرية، النساء الوحيدات اللواتي ركضَّن خلف باقات زهرٍ في حفلات زفاف صديقاتهن.. ركضنَّ وراء رجال لم يفهموا يوماً لماذا تركض امرأة وراء شيء بسيط كالحب.. خلف أي مشهد ما تزال ماجدة تركض حتى اللحظة؟
ما ذكرتَ من مشاهد ثلاث طواها الزمن عندي، هذا أمرٌ طبيعي لدى كل امرأة وجريها خلف هذه الأوهام، الحب، الرجل والأمومة هي مجرّد أوهام لدي، ما يعنيني هو اليقين، الحقيقة، رغم أن مدارَ الكون والحياة يدورُ خلف الركائز التي ذكرتها، وعندما يختمرُ فيكَ العمرُ تكتشفُ أن الكثيرَ من العناوين الأساسية هي أوهام، حينها فقط تطرق باب اليقين..
في الحبّ مثلا، عندما يصلُ الحبيب إلى “الانتحار” من أجل المحبوب يمرّ الزمن حتى نكادُ ننسى ملامحَ الحبيب، أليسَ هذا وهمًا؟، الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة هي الموت، ولهذا أجلّه لأنه الوحيدُ القادر على هزيمتنا، حتى الحزن المتأتي من الموت يُمارس عليه الزمن سطوته ويخفّف من وطأته، فالموت يُعيدنا إلى ذواتنا بشكل عميق، أما الأمومة فهي غريزة فيها الكثير من الأنانية لحاجة المرأة لهذا الإحساس الواهم “ولد لآخرتك”، الولد كيانٌ مستقل لنفسه ولحياته وليس ملكًا للآخرين..
كما جرت العادة في الحوارات مع الشعراء يُشمّر عن ساعديه سؤال باهت جداً “ما هو الشعر بالنسبة إليك”؟ لكني سأحاول ألا أكون ساذجا في إعادة تشكيل السؤال بل سأختصر الكثير، لأعرف كيف يولد من عناق الغيم والعواصف مطر يجرح أصابع القارئ بمجاز ندي في قصائدك؟
الشعر منظور ورؤية، صِيغت كصرخة مهذبة، من زاوية ضيقة، أو من عين سحرية، أو حتى أحبال صوت القلب، منطلقها هو الشاعر من تعبه، وعبء الحياة، بما فيها من جميل قبل سيء، ومن عادي رتيب قبل مثير مدهش.
التعريف الكلاسيكي هو كلام منمّق وموزون وقافية، بالنسبة لي الشعر لا قالبَ له، اليوم بلغنا أرفع درجات الشعر الحداثي من خلال قصيدة النثر، ونمر بأعظم تجلّيات الشعر، لستُ ضد الشعر العمودي لكن علينا التغلب على عقدته لنبلغ مرتبة الشعر، أن تكسر قيود هذا القالب وتتحرر من السلاسل التي تسيّجه مع التمسك بالضوابط والقواعد، قصيدة النثر ليست كلامًا منثورا فحسب خصوصًا إن كانت على درجة عالية من التوهّج ..
يقول لوركا: “أكثر الأفراح حزنًا أن تكون شاعرًا، كل الأحزان الأخرى لا قيمة لها حتى الموت”، الشعر حرية لا سيما خلال ممارسة هذا “الطقس” الإلهي القدسي الوثني، فعند كتابة الشعر تجتاحنا اختلاجات عنيفة بشكلٍ صاخبٍ وشرسٍ ووحشي، هذه الاختلاجات إن لم تخرج تقتلنا، فأنا أشعرُ أني سأموت إن لم أكتب، فالشعر الحقيقي عندما يأتي استحالة أن تقف في وجه طوفانه أو أن تصمّ أذنيك عن هديره.
ما هي الهيئة التي تنكّر بها الشعرُ أوّل مرّة حينَ قرّر الجلوسَ معكِ على طاولةٍ واحدة؟ وفي أيّ مرّة نَصبتِ له كمينًا جعلَهُ يزورُكِ من دون أقنعةٍ وملامحَ مستعارة؟
“الثمر المحرّم” تلك الدهشة الأولى والبراءة الأولى، أما بعد ذلك فالزمن والعمر والنضوج الفكري والإجتماعي تركوا بصماتهم في دواخلنا، صحيح أن ذلك يُحسّن صورة الشعر لكننا حينها نكون قد أُصبنا بملوّثات الحياة..
كم مرة شيّعتكِ الحروف، وأنت تحاولين كتابة موتكِ في قصيدة؟ وهل أمكنكِ الوقوفَ على نبضكِ من جديد؟
الموت المتكرر في ساحات الكتابة جرّاء التعب والإرهاق، تكتشف أن الحياة مقفلة بإحكام، لا منافذ ولا نوافذ ولا أبواب، وأنت أسير اللحظة تفتقد أي قدرة للخروج منها، التحرر من عبودية سطوة القصيدة، تواجه وتموت ثم تنهض من جديد، تخرج من القصيدة لتجد نفسك تدخلها من جديد، هذه المواقف تهزمني بشكل كبير، فأن تعاود الكرة يعني أنك بطل (وكل شاعر بطل) كي يكون بوسعك تلقّف هذه الإرهاصات والآتيات من عمق الكون..
متى تداهمُك القصيدة وبأيّ شكل تخلعُ أبوابَ عزلتك؟.. وأين تحبُّ ماجدة كتابة القصيدة، وأعني هنا جغرافية المكان؟.. هل تُفضّلين مدىً مفتوحًا أم حيزاً ضيقًا؟.. وما الذي تعنيه الفصول – والتي لا عدد لها – بالنسبة لك حين تداهمك القصيدة؟
أنا أحيا كقصيدة داخل قصيدة، كلّ شيءٍ بالنسبةِ لي جزءٌ من هذه المعزوفة المستمرّة، هذا الصداعُ لا يقف،
أكتبُ في كل مكان، وفي أي وقت، ووقتما أريد وكيفما أشاء، لا شيء يمنعني سوى نفسي، وعزلتي بداخلي، عليها لافتة “ممنوع الاقتراب”.
لا وقت محددًا لمداهمة القصيدة بل علينا أن نكونَ بانتظارها متى حضرت بكامل “هيبتها”، علينا استقبالها كما يليقُ بجلال حضورها ومعانقتها، لأننا نعجز عن مناداتها في كل زمان ومكان، رغم أنه هناك بعض القضايا التي تجتاحنا لـ “خلق القصيدة” مثل قضايا الإنسان العميقة، هل راقبت معي الأحداث المأساوية في العقد الأخير سواء في وطننا أو في المحيط؟، ألم تعصر قلبكَ مشاهد العنفِ والدماءِ والوحشية والتهجير والتلذذ بالقتل؟، أكتبُ اليوم ملتزمة بهذه القضايا بكل تجلّياتها لأن مناهضة الظلم قضية جوهرية بالنسبة لي كشاعرة وإعلامية وإنسانة، فالشاعرُ هو أكثر الكائنات عرضّة للإهتزاز العنيف في جوارحه.
أما في بقية الأمور فالقصيدة تأتي ولا تُصنع وهي وحدُها من يقرّر لحظة الوصول فهي “الملكة” وهي كـ “المطر” وحدها من يقرر حدوث الهطول، أما عن تفاصيل المكان فأنا لا أحبّذ الأماكن المفتوحة ورغم هذا الإنخطاف الذي يجتاحني، فأنا أخرج من جغرافية المكان كي “أعلو عن الأرض وعن التراب بزنبقة” لأن الشاعر ينتمي لهذه الفسحة الفريدة..
هل الشعر يشبه الرعشة في أول بلوغه؟.. وكيف تتعرّى القصيدة أمامك وما هي المفاتن التي تغريك بها؟
الشعر يُشبه الرعشة.. نعم، لحظة الإنقضاض ولحظة الإنقياد ترخي على الشاعر نشوة جارفة يستمتع بلحظة التغلّب عليها، يشعر بـ “الشبق” لافتراسها ونهشها بـ “نواجزه”، وتحتله هذه الرعشة لوقت طويل وتتملّك روحه وجسده في آن، فالعلاقة بين الشاعر والقصيدة ليست روحية فحسب بل هي علاقة جسدية، لأننا نشعر بثقل القصيدة على تفاصيل أجسادنا..
أخبرك أمرًا، في أحد نصوصي ولدى وصولي لنقطة معينة فيه توقفت، بقيتُ لمدة خمس ساعات عاجزة عن الوقوف شعرتُ بقوىً خفية تسيطر عليّ بالكامل ولم أستطع وضع حدٍّ له، شعرتُ بألم جارف يُهيمن عليّ، في الروح والقلب والجسد، توقفتُ عن إكماله حتى اليوم، لذلك وضعت في نهايته (يتبع).
هذه العلاقة الجدلية بين الشاعر والقصيدة هي علاقة حميمية كبلوغ “الرعشة”، لهذا أؤمن أن ما من قصيدة منتهية، القصيدة دائما مفتوحة المدى لا نهايات فيها، فكل نهاية هي بداية جديدة أو خاتمة لم تكتمل، لكنه بالفعل عند بلوغنا الخاتمة نشعر بـ “هزة” تجتاحنا شبيهة بـ “النشوة”..
هل تستطيعُ المرأة أن تكتبَ قصيدتَها بسكينٍ حاد أو رماد سجائرها التي ترمم بعضًا من وحدتها في الليل؟ وما الذي تعنيه الكتابة بتلك الطريقة الحبلى بالجنون؟.. وهل فكرت يومًا أن تكسري القلم، وتكتبي قصيدتكِ بقلمِ الكحلِ أو بأحمر الشفاه أو بطلاء الأظافر، أن تكتبيها على أحدِ فساتينك أو على حائط متعب أو على المسافة التي تفصل بين الرسغ والمعصم؟
كل ما ذكرتَ مررتُ به وأصابني في الصميم، فكّرتُ وحلمتُ وحاولتُ أن أكتبَ بكلّ هذه الأدوات الوحشية والبدائية والناعمة والتجميلية، عند حضور القصيدة من الغربة ومن أعماق النفس والروح الوحيدة أودّ أن أنهشَ جسدَ القصيدة بأيّ أداة معي، وكم أودّ إلتقاطها بالشكل الملائم، بسكين، بسيف، بخنجر، لأنني أعشق كل ما هو حاد، وأحب أيضًا القلم الحاد، ونعم، كتبت بأحمر الشفاه وبطلاء الأظافر وكتبت على ثيابي وسبق لي أن قدمت أمسية بثوب مطرز بكلماتي.
أنا محض مجاز، لم تُكتب له النجاة من لعنةِ البكاء في حضن هذه اللغة التي تعرف جيدًا كيف توقظ في الضلوع وحشًا جميلًا اسمه القصيدة.
أضعُ رأسي على الخارطة الكبيرة لهذا الوطن المعذب، أضعُ رأسي داخل الثلاجة المتخمة بالجثث، أضعُ رأسي أمام التلفاز الممطر تشاؤمًا، أضعُ رأسي خلفَ البابِ الموصد في وجه الأحلام الوردية، أضع رأسي فوق قبر صغير دفنتُ فيه قلبي ذات خيبة.. أين تضع ماجدة رأسها؟
رأسي آه منه .. أحار أين أضعه لحظة النوم لأستكين، نعم وضعته كثيرًا في الأماكن التي ذكرتَها، لكن ما أنا فاعلة بهذا الرأس “المثخن” بالشعر؟، القابع تحت أثقال الهموم؟ فالشعرُ همٌّ وكل الناس يعيشون وهم الحب، لكن “الشاعر” يعرف كيف يُحب، لذلك في أيّ مكانٍ أضعُ رأسي فيه لن يكون شافيًا لأنه سيضيق، أما أكثر الأماكن أمانًا بالنسبة لي هو “الذاكرة” من هنا نعمدُ في بعض الأحيان لتلقف تلك “الممحاة” لنمسحَ بعضًا مما تعلّق بها كي نستمر..
ما الذي تشتهي ماجدة سلخه من ذاكرتها؟
لماذا تعبث بذاكرتي؟ .. السؤال الأدق “ما هي الأمور التي أودّ الحفاظ عليها في ذاكرتي”؟، كثيرة هي الأمور التي أتمنى سلخَها وبلا تردد، نتمسّكُ بالنادرات من لحظات الفرح لأنها قليلة الارتطام بسفح أعماقنا، وما تبقّى لا لزوم له، النضوجُ الروحي الذي يتقدّم بأشواط على النضوج الفكري والجسدي والاجتماعي يدفعُ بك إلى مرحلة “اللاجدوى”، وكثيرًا ما سألت نفسي “لماذا أكتبُ ولِمَن أكتبُ”؟ وهذا الذي أكتبُه ماذا يعني؟ ولماذا معاقرة هذا “العذاب”؟ يضجّ رأسي من دون هداية لأيّ إجابات ثم أعاود الكرّة، هذه اللحظات هي أصعبُ ما نعيشه، لأنها تقتاتُ على ما في أعماقنا..
فقدان الدهشة يتسبّبُ بالكثير من الألم، فتغدو الأشياء بلا قيمة، كلّ الأحزان تصبح بلا قيمة حتى الموت، أعاني هذا الأمر عندما أتجرأ وأنبشُ في ذاكرتي، لا سيما تلك المتعلقة بحيثيات “الحرب”، فقدان السلام والقلق الدائم والخوف مما هو آت، نعم كثيرة جدًا تلك التي أودّ مسحها من ذاكرتي، لكن “هيهات” خصوصًا تلك المرتبطة بشكل وثيق بجملة من “التجارب الشخصية الفاشلة” ..
في حوزتك خمسون مفتاحًا لبابٍ واحد يبدو أمامكِ وهي فرصةٌ أولى أخيرة، لا بدَّ أن تختاري مفتاحًا صحيحًا، أي المفاتيح تراودُ شغفك.. وما الذي تنتظرينه خلف الباب؟
لماذا تصرّ على ملامسة المستحيل؟ هذا سؤال فيه استحالة الإجابة، بالرغم أننا نعيشُ حيوات مختلفة وصعبة وثقيلة، فيها من التباينات الشيء الكثير، إلا أن أكثر ما أحتاجه “مفتاح الصبر” الذي لا أملكه بالمطلق، فكيف لي أن أملك “الجلد” للبحث في هذه المفاتيح؟، نعم أحتاج إلى الصبر، لأننا في مرحلة عمرية تتطلب السكينة والهدوء، لم أصل بعد لهذه النقطة، فـ”الشغف” بداخلي لم يبهُت وما زال ملتهبًا.
أما ما أنتظره خلف “الباب” ربّما “حب” لم يأت بعد، ليس حبًا تقليديًا أو ربما يكون، لكن لغاية اللحظة هذا “الوهم الجميل” لم يأت بعد، أما ما أنتظره فهو الطمأنينة والسلام والسكينة، ربما تجتمع هذه المزايا بـ “شخص” أو بـ “موقف”، لكن بالمختصر ما خلف الباب يبقى خلفه..
هل تعتقد ماجدة أن اللغة التي تعبث بالروح والعقل قد خلقت للشعر وحده، أم أن هناك حدائق تزهر بعيدًا دون ضجيج في فضاء اللغة؟ متى يخبئ الشاعر مجازاته في خوابي اللغة، وفي أي فصل تصير قصيدته صالحة للهذيان؟
فصلُ الشاعر الرئيسي لا علاقة له بكلّ فصول الحياة، هذا الفصلُ ربّما يأتي مع فصول كثيرة، يخرقها، يمزقها، يزيحُها كي يمر، هو فصل “الدهشة” الكامن في مناحي الجمال الهائل وتعريفه الدقيق “فصل الشعر”، أما “اللغة” وهي توأم القصيدة فهي لغة لا تشبه اللغات الأخرى، فحين نكتب تجتاحنا المجازات بتدفقاتها التي لا تهدأ، نعمد إلى فك “طلاسمها”..
اللغة هي صمتٌ طويل، هي قطرةُ الماءِ الفائضة، القطرة التي تسقط من صنبور الماء، وترتطمُ بحوض ممتلئ ببقايا الطعام والاسبرين، هي السؤال الذي يخرجُ في كلّ مرة أراقبُ فيها صور الموائد الأنيقة، ترى كيف تستطيع النساء طهي قلوبهن بكل هذه الرقة، ووضعها في صحون ملونة؟
اللغة مثلُنا روحٌ هائلة محبوسة في جسدٍ نُطلقُ عليه اسم قصيدة أو رواية أو امرأة جميلة تريدُ الهروب من اللوحة، اللغة فستان ضاق على جسد امرأة ما تزال تحتفظ به لترتديه في حياة أخرى، هو حاجتها لشيء أكثر من الحب، ليوقف الضوء الذي يسيل من ثدييها كلّ صباح، لشيءٍ أكثر من الحبّ يُحاوط الأشجار التي ترتجفُ في بطنها اللحظة، لشيءٍ أقسى من السعادة، أرقّ أرقّ بكثير من الحزن الذي يتركُهُ الشعر على جلدها، وأجملُ من مجرّد فخٍ ترسمه على كف الآلهة، وهي تحدثها عن رجل ما أحبته ذلك المساء.
اللغة هي شعوري أني بخير، لأصدّق أني لن أنطفئ كما في كل مرة خلفَ النافذة، لأصدّق أن المرأة لا تيبس بعد الأربعين أو الخمسين ولا تتحوّل إلى فزاعة، هي ذلك المفتاحُ الصغير الذي يتدلّى من ثقب خزانةٍ قديمة لتفتحَ بابَها عليك أن تتمايل بقسوة وقلبك كي لا تحدث جلجلة في روح الكون.
“النصّ” الذي قد أكتبُه عاريةً في ساعاتِ الليل الأولى، هو ذاك الذي يشبهني، نتساقط معًا ضريرين في فراش واحد، كأن يُجرّب خدعته الأخيرة فوقي فيقطع يدي ويجرّ حلقي ولساني للكتابة، في ليلة أخرى قد أنامُ محاطة بكل أثوابي لأجعلَ نصّي ذاك بسيقان طويلة ولأكتب عن الشعر والنثر قصصًا عرجاء ينفتح عليها الصباح نصوصا هيفاء، أما في ثلثه الأخير سأتعرّى أمام روحي وسأسكبُ من حبر الصباحات والمساءات فوق جلدي الناعم، وأكتب نصَا واحدًا يجثو على ركبتيه.. إنه فقط نصي..
لماذا اخترت هذا الوشم (جوازًا تقديره هو) عنوانًا لمجموعتك الشعرية؟ ومن هو هذا الـ ” هو ” مجازًا وما الذي يربطكِ به؟
من المرّات النادرات أن يأتي كتابٌ متناغم بشكل “هستيري” من العنوان حتى آخر كلمة فيه، هذا “الوشم” أو “الوسم” هو مظلة لكل ما جاءَ في سياقه، مظلة تتوارى تحتها كائناتي الشعرية والنفسية والروحية، سحبتُ من الـ “هو” عقدة لسانه الطويلة، في المضمون هناك الكثير من الـ “هو” بذاكرات ثقيلة ومثقلة بالحياة والشعر، “هو” تعني أشخاص كثيرين وليس بالضرورة شخصًا محدّدًا، رغم أنه يعبر في بحره “ميْتًا” على متن باخرة، “هو” أمامي من دون أن أعرف أنه “هو” المسجّى في نعشه.
في “هو” مواقع كثيرة للتهجد والعبادة، تتركُ القارىء في حالةِ “صلاة” يبكي الحرفَ الأوّل لدى بلوغه الحرف الأخير فيصرخ قائلًا: الله الله.. في الطريق أثارُ دماءٍ، قصيدةٌ تائهة هجرت كلّ ما “هو” ناعم لتستقرّ في كل ما “هو” حاد كسكينٍ تلمعُ من بقايا بكاء طويل..
غرفةٌ نائية في أقصى الحياة، تطلي جدرانها بالأزرق السماوي، وتغطي زجاج نافذتها الوحيدة بجرائد قديمة، إصبع وسطى في وجه الحياة يرفعها قلبك كسلاحٍ وحيدٍ وأخير .. إلى أي دهشة أنت راضية عن ذاتك؟
يمنعُني “تهذيبي” من التصرّف بحرية وإلا لكنت فعلتُها كلّ يومٍ وكلّ دقيقة في وجهِ هذه الحياة اللئيمة والعاهرة، وحقيقة نحنُ نحتاجُ في سبيلِ ارضاءِ غرورنا أن نرفعَ “الإصبع الوسطى” “نكاية” بكل ما نصادفه يوميًا، نحن مقاومون دائمون في وجه الاستسلام، نعاقرُ الصمود في وجه الحياة، بل نقاتل لنحيا.
الرضا عن الذات نستمدّه من رضا الآخرين، لعلّ الغياب هو الأشدّ تأثيرًا لأنه مكثّف بالنسبة للآخرين لكن ليس هناك آخرون، وهذا بحدّ ذاته كنزٌ حقيقي رغمَ الصخبِ والإزدحام اللذان يلفّان واقعنا، فنختار الوحدة والعزلة الدائمة، ولستُ ممن يبحثون عن رضا الذات لأن بلوغه أشبهُ بالمستحيل وهو الحافز للاستمرار، ولا أراني قد بلغتُ هذه المرتبة لا اليوم ولا لاحقًا، خصوصًا لمن يمتلك في ذهنه مشروعه، قد نلمسُ الرضا البسيط عن قصيدةٍ أو نصٍّ طافح بالأفكار أو القناعات، لكن الرضا بالمطلق أمرٌ مستحيل ولم أصل إليه حتى اللحظة..
تنهي الحديث مع “ماجدة” لكنك تشعر بأن أمرًا ما لازال عالقًا بين عقارب الوقت، وكثيرًا ما شعرت بالندم في كل مرة أحاور فراشة، للقيود التي تكبلني في عمق الحدود، لكن “طائر الروح” الذي تركته هذه المرأة يحلق في هذا الفضاء المرعب تشلحك على حافة “الهذيان”، تشعر بـ “الامتلاء”، تطوي روحك كـ “طي الصحف” وتغادر على هزة ما بداخلك تجعلك ترتجف بعنف..