ماهر غندور صانع كنوز النبطية الفوتوغرافية منذ الأربعينيات

لم يكن ماهر علي جواد غندور (1920- 1983) مجرّد فوتوغرافيّ يمتلك إستوديو تصوير في النبطيّة، التقط فيه صورًا لوجوه أبناء المدينة كي تزيّن تذاكر هويّاتهم ومعاملاتهم الإداريّة وألبومات مناسباتهم السعيدة وتذكاراتهم، بل كان حافظًا لذاكرتها الجغرافيّة وأسواقها التجاريّة وحياتها اليوميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والانتخابيّة، طوّع عينيه إتقانُه وإبداعُه التشكيليّ، إذ كان رسّامًا من درجة ممتاز، ما مكّنه من إدخال فنّ التلوين على التصوير الفوتوغرافي وبدأ قبل تسرّب الأفلام والصور الملوّنة يخلق بورتريهات شخصيّة ملوّنة تجمع بين الفنّين، الفوتوغرافيّ والتشكيليّ.

قست الحياة وظروفها على الشاب ماهر المولود في النبطيّة الفوقا سنة 1920 ما دفعه إلى أن ينتقل مع أمّه وأشقائه الصغار (مصباح وطارق وعلي وهيّام وسهام وماهرة) باكرًا إلى العاصمة بيروت بحثًا عن العمل والدراسة، ولم يكن قد بلغ السابعة عشرة، بعدما أودت جلطة دماغيّة بوالده الطبيب الأوّل في منطقة النبطيّة الدكتور علي جواد أسعد غندور (1890- 1937) المتخرّج من جامعة دمشق العام 1918. وراح الشاب ماهر يرعى أمّه وإخوته، فتعلّم إلى جانب دراسته، فنّ التصوير الفوتوغرافيّ على يدّ مصوّر يدعى حسن فضّة، إلى جانب براعته التشكيليّة.

تشكيليّ بالفطرة

من الواضح أنّ موهبة الرسم سبقت موهبة التصوير عند ماهر غندور، إذ تُظهر بعض اللوحات التي بقيت من إرثه متناثرة في بيت عائلته ولدى أصدقاء من النبطيّة، كان قد أهدى إليهم بعض لوحاته، أنّ الإبداع التشكيليّ عنده جاء في مرتبة متفوّقة تنمّ عن موهبة عريقة وقديمة. وتُثبت لوحة “الطفلة والكلب” (المستوحاة من لوحة من العصر الفيكتوريّ، تعود إلى العام 1872 لفتاة نائمة مع كلب، للفنّان جون جاستJohn Gast ) كان أهداها إلى صديقه الراحل محمّد أسعد شميساني “أبو أسعد” أنّه وقّعها في العام 1941، وهو لم يتجاوز الواحد والعشرين من عمره. وربّما تكون هناك لوحات ضاعت أو محجوبة تعود إلى تاريخ قبل الأربعينيّات تظهر موهبته الفطريّة المبكرة في الرسم.

المصوّر الفوتوغرافي والرسّام ماهر غندور

ربّما رحيل الفوتوغرافيّ ماهر غندور مغتربًا لم يقيّض لكثيرين من أبناء النبطيّة ومسقط رأسه النبطيّة الفوقا تتبّع أثر إبداعه وأصوله وكيف تعلّم التصوير، ما ساعده في فتح إستوديو في مدينة النبطيّة باسم “إستوديو ماهر”، وأتاح له التعرّف على أبناء جيله وأبنائهم، لا سيّما الشيوعيّين منهم، إذ كان صديق عادل صبّاح وجواد صيداوي وحبيب جابر وسعيد سكاف (القاضي) وفؤاد كحيل ومحمّد شريف ظاهر والمربّي الأستاذ علي ظاهر ومحمود أبو زيد (أبو خلدون) والفنّان الرسّام إدمون سكاف، وله وإيّاهم لقطات في رحلات التنزّه وحضور المهرجانات الدوليّة والتجوال في المناطق السياحيّة اللبنانيّة، فكان شيوعيَّ الهوى مع أنّه لم ينتسب رسميًّا إلى الحزب الذي جعل مركزه لاحقًا في مبنى الفنّان غندور نحو العام 1974 قبل أن يبيعه صاحبه ويسافر من دون عودة.

أرشيف ضاع “بين حانا ومانا”

تظهر الصور الفوتوغرافيّة التي ما فتئت تشكّل رصيدًا تراثيًّا بالأسود والأبيض النبطيّة من أعلاها أو أسفلها أجمل المدن، لا سيّما في تلك الحقبة أو الفترة التي كانت تنتشر فيها القصور والبيوت التراثيّة المبنيّة بتعب أبنائها واغترابهم المبكّر، بعدما زيّنت مجمل أحياء المدينة قبل سطوة الإسمنت والاستثمار التجاريّ في أبنية غابت عنها الأنماط التراثيّة، وأبدت النبطيّة بمظهر غوغائيّ بعيد من الأصالة المعماريّة؛ ناهيك بما دمّره العدوان الإسرائيليّ المباشر الذي بدأت تتعرّض له عاصمة جبل عامل في العام 1974، وكان سببًا في دفع صديقنا المصوّر إلى مغادرة المدينة مع عائلته في العام 1976 تحت وقع استهدافها المتكرّر الذي أدّى في سنوات متفاوتة إلى تهجير أبناء النبطيّة ومنطقتها في أكثر من اتّجاه محلّيّ أو سفرهم إلى الخارج بحثًا عن الأمان.

ضاعت صور الفنان غندور بين إستوديو ترك فيه معدّاته وأدواته وكثيرًا من أرشيفه، لم يُعرف من استحوذ عليها أو خبّأها لاحقًا، أو مجموعة من صور كان يملكها شقيقه المربّي، والفنّان التشكيليّ هو الآخر، طارق علي جواد غندور “استعارها منه أحد الباحثين في تراث النبطيّة على أمل أن يعيدها إليه ولم يرجعها. قال لي أبي أكثر من مرّة إنّه طالب من استعار الصور كثيرًا كي يعيدها لكنّه لم يفعل. المهمّ أنّ هذه الصور استُثمرت في طباعة الكتب أو المنشورات المختلفة. لكن من أسف شديد، لم نكن نرى من يعرّف على صاحبها أو يذيلها بإشارة تنسبها إلى مصوّرها، أو أن يُلفت اهتمام أبناء النبطيّة إلى حقيقة الصور التي التقطها عمّي صاحب العين الساحرة، بين الأربعينيّات والخمسينيّات والستينيّات وحفظ من خلالها ذاكرة مدينة كانت في عزّ ألقها الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ” بحسب ابن شقيقه المهندس حسن طارق غندور.

طارق غندور وجواد صيداوي وشقيقه حسن بعدسة ماهر غندور

ويشير المهندس حسن لـ “مناطق نت” إلى أنّ والده (طارق) كان يرغب في شبابه أن يكون طبيبًا، بيد أن الظروف المعيشيّة لم تمكّنه من ذلك فدرَس الرسم والموسيقى حتّى حصل على إجازة تربويّة تعليمّية في المادّتين، ودرّسهما في الثانوية وفي دار المعلّمين والمعلّمات في النبطيّة.

ويضيف المهندس غندور “في الوقت عينه تدرّب والدي عند عمّي على فنّ التصوير ومتشعّباته، كان يشتغل معه في الإستوديو، في أوقات فراغه، ومنه عزّز موهبة الرسم، إذ كان عمّي رسّامًا من الدرجة الأولى وشجّع أبي الموهوب مثله منذ الطفولة على أن يهتمّ بالفنون وأن يتعلّمها، فصار يساعده في الرتوش وتكبير الصور وتلوينها؛ حتّى إنّ أبي جعل زاوية من حمّام بيتنا ركنًا لمعالجة الصور. يضاف إلى أنّ عمي علّم أشقاء زوجته الثلاثة من آل حوماني، حسن وحسين وإبراهيم التصوير وافتتحوا لهم إستوديوهات تصوير في بيروت، وعلّم كذلك عددًا من مصوّري النبطيّة ممّن أتوا بعده؛ منهم المصوّر حسن طفيلي الذي اشتغل عنده مدّة طويلة وتسلّم أمور الإستوديو بعد سفر عمّي، لكنّه لم يعمّر طويلًا”.

ويتذكّر عن والده أن عمّه ماهر “كان يتنقّل على درّاجة ناريّة في بادئ عمله، وهو أوّل من اقتنى درّاجة فيسبّا Vespa (صنعت للمرّة الأولى في بونتديرا بإيطاليا العام 1946) وكانت في حينه جديدة الصنع وعلى درجة من الأهمّيّة، ولاقت اهتمامًا واستهجانًا من أبناء النبطيّة الفوقا”.

ضاعت صور الفنان غندور بين إستوديو ترك فيه معدّاته وأدواته وكثيرًا من أرشيفه، لم يُعرف من استحوذ عليها أو خبّأها لاحقًا

يوم تميّزت النبطيّة بتراثها

صوّر ماهر غندور بحرفيّته العالية لقطة بانوراميّة لمدينة النبطيّة، من أعلاها الجنوبيّ، من تلّة الرويس (أعلى تلال النبطية) في العام 1951، وكانت النبطيّة بأبهى حللها التراثيّة الأقرب إلى القرويّة، المزيّنة بقصور ذات تصاميم جميلة فاخرة يكلّلها القرميد الإيطاليّ. بدى فيها حيّ السراي الأوّل والقديم ملتمًّا كثيف العمارة والبيوت، يحوطه سور من حجر صخريّ، بقيت أجزاء واضحة منه بعدما تسرّبت من فتحاته دروب نحو الحقول والجيران.

وفي قلب الحيّ ظهرت بوضوح عال السرايا العثمانيّة، ذات الدرج المرتفع، متوّجة بالقرميد، المبنيّة نحو العام 1885 بإيعاز من الوالي العثمانيّ حمدي باشا، من أجل زيادة نفوذ حكمه وتوسيع نطاق جباية الأموال في عاصمة القائمقاميّة والجوار، إذ أمرَ رضا بك الصلح وكان مدير قائمقاميّة النبطيّة بأن يشيّد دارًا للسلطة في النبطيّة، وبات الحيّ ينسب إليها ‘حي السراي‘ قبل أن تُهدم السرايا عن سابق تصميم وإهمال بين العامين 1972 و1974.

لقطة بانورامية لمدينة النبطية بعدسة ماهر غندور
تبغٌ ودُورٌ وأسواق

في أسفل الصورة انتشرت الحقول الزراعيّة مربّعات ومثلّثات ودوائر قريبة من ينابيع الماء، كان يعيش من خيراتها عدد كبيرة من أبناء النبطيّة والجوار، إلى بعض البساتين التي توزّعت هنا وهناك بعدما ساعد وصول مياه الشفة إلى المدينة (من نبع الطاسة) العام 1925 في انتشارها قبل أن تُقطع ويُستعاض عنها بزراعة التبغ التي أنشئ لأجلها معملان في النبطيّة، يعودان لآل بدرالدين وفخرالدين. إلى قصور آل الفضل وشاهين قرب ساحة المدينة وفي حيّ الميدان ودور حيّ البياض. وفي التحديق يتبيّن أنّ الصورة التقطت ذات نهار إثنين، موعد قيام السوق المشهورة “سوق الإثنين” إذ بدت فيها “عجقة” سوق الغلّة وسوق الماشية على بيدر النبطيّة، ويظهر كذلك المدى الجغرافيّ للنبطيّة بما يحيطها من قرى تمتدّ نحو إقليم التفّاح.

في زمن الصورة، سنة 1951، لم تكن الطريق ممهّدة إلى تلّة الرويس أو موجودة، بل كانت قادوميّة نحو تلّ مرتفع (460 مترًا)، ومع ذلك قصدها المصوّر الماهر وتسلّقها بمعداته الثقيلة كي يحبس في إطار عدسته النقيّة صورة نادرة سرعان ما أطلق سراحها بعد تحميض النيكاتيف وطباعتها. والكلام عينه يشمل صورة لسوق “الحصير” وازدحامه في العام 1947 وأخرى في العام التالي لسوق الإثنين تغصّ بالناس، في زمن سيّارة الـ “فورد أبو دعسة”، وربّما تكون الصورة في السنة عينها، إذ بقيت تواريخ هذه الصور متأرجحة قليلًا؛ إلى صورة ثالثة سنة 1952 تظهر سوق “الغلّة” للحبوب والمنتوجات الزراعيّة، وإليها انضمّت سوق الفخّار وأباريقه.

النبطية-بعدسة ماهر غندور
ذاكرة الثورات والتظاهرات

ثمّة صور عديدة تمثّل ثورة أهل النبطيّة وسكّانها وتظاهرهم بقيادة قوى اليسار، وفي طليعتهم المناضل الكبير عادل صبّاح، مرّات ومرّات، تضامنًا مع الثورات والقضايا العربيّة والعالميّة والإنسانيّة، وبخاصّة في أعوام الخمسين وصولًا إلى الستينيّات، وتمثّلت بخروج طلّاب المدارس خلف أساتذتهم وقيادات سياسيّة واجتماعيّة وشعبيّة وحشود من أبناء النبطيّة والجوار إلى الشارع؛ مرّة دعمًا للثورة الجزائريّة (1954 – 1962)، ومرّة احتجاجًا على حلف بغداد وغاياته الاستعماريّة التوسّعيّة (1955)، ومرّة مع الثورة الكوبيّة (1950 – 1955) أو إلى جانب مصر والرئيس جمال عبد الناصر في “أزمة السويس” وضدّ مؤتمر لندن (1956).

ومرّات ومرّات لأجل فلسطين التي نزل أبناؤها النازحون في ساحات النبطيّة وعند تلالها “لاجئين” هربًا من عدوّ قاتل مغتصب للأرض، وصولًا إلى المشاركة الفعليّة والمؤيّدة لثورة “الـ 58” أو “أزمة 1958” في مواجهة الرئيس كميل شمعون وتحالفاته والتدخّل الأميركيّ في الشأن اللبنانيّ، وتدرّب الشباب على السلاح، إلى أضراب المعلّمين، وغيرها من القضايا.

ومن الطبيعي أن تكون الصور الحيّة من فترة الخمسينيّات وحتّى اليوم، المحفوظة بألبومات وأدراج وعلب عدد من أبناء المدينة هي من صنع عين ماهر غندور ويديه وأنفاسه الثائرة اليساريّة الإدراك والهوى، إذ كان مشاركًا ومراقبًا ومسجّلًا لمشاهد المدينة بآلة التصوير، ومواكبًا لرفاقه الشيوعيّين في مشاويرهم وجلساتهم.

تظاهرة في النبطية دعمًا لثورة الجزائر في العام 1956 بعدسة ماهر غندور
مراسل الريجي والتبغ

لم يقتصر عمل الفنّان ماهر غندور على التصوير وهواية الرسم، بل توظّف باكرًا في إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي”، واشتغل بفضل موهبته في الحسابات والمقاييس “مراسلًا” لها يقيس الحقول المخصّصة والمسموح بها ويحدّدها، ويخمّن الإنتاج ويراقب الزرع، وساعد عددًا كبيرًا من مزارعي النبطيّة والنبطيّة الفوقا وجوارهما، منهم أصدقاء وأقارب، في الحصول على رخص زراعيّة وتوسيع إنتاجهم، قبل أن ينتقل إلى مهام إداريّة وماليّة بقي فيها حتّى تاريخ مغادرته النبطيّة.

تزوّج المصوّر ماهر من ابنة بلدته فاطمة محمّد علي حوماني وأنجبا: الطبيب علي (توّفي في أيلول/ سبتمبر 2024 ودفن في فرنسا)، المرحومة دلال (حنان) وسلام (مقيمة في لبنان) وهدنة (في الولايات المتّحدة الأميركيّة).

تقول ابنته الدكتورة سلام: “قبل أن يبني أبي عمارتنا ومسكننا قرب المدرسة الإنجيليّة الوطنيّة عند الجهة الشماليّة الشرقيّة لحيّ السراي، سكنّا مدّة من الوقت لدى الطبيب والنائب السابق علي بدر الدين وسط ساحة النبطيّة في الطبقة الأرضيّة. وتنامت بين أبي والطبيب بدر الدين علاقة وطيدة، ما جعل أبي يهديه مجموعة من لوحاته التشكيليّة. كنت طفلة في حينه، لم أكن لأركّز على أعماله الإبداعيّة التشكيليّة؛ وعندما بلغتُ سنّ الوعي توقّف أبي عن الرسم مدّة لا بأس بها إذ تفرّغ لمتابعة بناء عمارته التي أسّس فيها إستوديو تصوير بعدما تحسّنت أحواله المادّيّة، وسكنت العائلة في الطبقة الأولى فوق عدد من المحال التجاريّة ثم لاحقًا في الطبقة الثانية منها”.

قرّر غندور الهجرة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، فباع على عجل البناية التي يملكها، مع الإستوديو، بنصف ما تستحقّ من ثمن

خفيف الظلّ إنسانيّ

وتضيف لـ “مناطق نت”: “كان والدي ذا طبع هادئ إلى درجة كبيرة، خفيف الظلّ والوجود، يحضّر عصر كلّ يوم عدّة المتّي ويحتسيها فيما كان يطالع ويقرأ كثيرًا. أسمعه لا يتوقّف عن الدندنة وهو يعالج صورة مكبّرة أو يلوّنها. هو إنسانيّ إلى حدّ كبير، بيد أنّه قليل الكلام. لن أنسى يوم جاءه أحد أبناء المدينة يشكو إليه ضيقًا مادّيًّا وحاجته، عندها أخرج أبي كلّ ما في جيبه من مال ومنحه إيّاه وقال له: اذهب ويسّر أمورك، وإذا ما احتجت إليّ فأنا لن أقصّر. تحلّت علاقاته مع الآخرين بكثير من الودّ والإنسانيّة والتعاطف والاحترام، لذا فإنّ من عايش أبي يعرف أخلاقه ويذكره بالخير والكلام الطيّب”.

تحزن سلام على لوحات لأبيها كانت تقتنيها في شقّتها في النبطيّة قبل أن تدمّر المبنى (مبنى زويل على جادة بري) غارة عليه في الـ 16 من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 وتفتّت كلّ ما كان فيه “فثمّة رسائل منه، ولوحات رسمها في إيطاليا عندما بقي عندنا هناك مدّة قبل أن يغادر وأمّي إلى أمريكا، إلى تذكارات وغيرها” تقول.

لوحة لماهر غندور
“الطفلة والكلب” 85 عامًا

كي تعيش لوحة “الطفلة والكلب” للفنان المبتدئ آنذاك ماهر غندور 85 عامًا متواصلة (قياس 70×85 سم)، منذ توقيعها في العام 1941، عانت مثلما عانى أبناء النبطيّة، من القصف والتهجير والتنقّل بين أمكنة ظنّوا أنّها آمنة.

فاللوحة المهداة إلى صديقه محمّد أسعد شميساني (1917- 2002) الذي صار لاحقًا رئيسًا لبلديّة النبطيّة؛ لم تبقَ على وضعها المثاليّ حتّى اليوم “إذ أنقذناها من تحت الردم أكثر من مرّة بعد تعرّض منزلنا للقصف والتفجير في العام 1978، فنزحنا في حينه إلى جبشيت (النبطيّة) وحملنا اللوحة معنا، لأنّها كانت عزيزة وغالية على أبي، ثمّ إلى جباع العام 1980، وجارتها عين بوسوار 1982 (إقليم التفّاح) إذ عدنا في ذلك العام إلى النبطيّة بعد احتلال إسرائيل معظم الأراضي اللبنانيّة وصولًا إلى العاصمة بيروت. وتعرّض منزلنا لأضرار في حرب تموز (يونيو) 2006 وأخيرًا في عدوان 2024، بعد أن غطّى الردم معظم مقتنياتنا القديمة والحديثة، لذلك تعرّضت اللوحة إلى بعض الشقوق والثقوب، لكنّها عاشت وصمدت إلى اليوم” يقول علي محمّد أسعد شميساني مالك اللوحة حاليًّا.

هجران النبطيّة والحبّ

بعد نزوح بين هنا وهناك، على أثر تعرض النبطيّة للقصف الإسرائيليّ منذ العام 1974، وتدمير مخيّم النبطيّة لللاجئين الفلسطينيّين قبلها بسنة، وتمدّد المنظّمات الفلسطينيّة والنازحين من المخيّم إلى قلب المدينة، اضطرّ المقتدرون من أبناء النبطيّة وسكّانها إلى النزوح نحو إقليم التفاح وصيدا وجوارها، منهم ماهر غندور وعائلته، قرّر الهجرة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، فباع على عجل البناية التي يملكها، مع الإستوديو، بنصف ما تستحقّ من ثمن (90 ألف ليرة لبنانية آنذاك) وأنهى جميع أعماله وارتباطاته، ثمّ ودّع أصدقاءه ورفاقه وأترابه، وغادر النبطيّة إلى غير عودة، كان ذلك سنة 1976.

سوق الغلّة في العام 1952 بعدسة ماهر غندور

في بيوت النبطيّة التي تعرّض عدد كبير منها للقصف والتدمير أو التخريب ترك ماهر غندور صورًا لأربابها وأولادهم، وللنبطيّة، ساحاتها وتظاهراتها وأسواقها ومناسباتها في زمن الحبّ والثورة والثقافة والسينما وذكريات لا تنسى، طالما أنّ صوره ما دامت حيّة.

عنه يقول الدكتور إبراهيم كحيل (88 عامًا): “جاوَرَنا وجاورْناه مدّة طويلة، كان في البداية يستأجر استوديوهًا لدى طبيب الأسنان محمّد صبّاح، ثم انتقل لاحقًا إلى مكان مجاور في مبناه الخاصّ. كان ماهرًا، وصوّرني كثيرًا، والتقط لأبي الذي توفي منذ 75 عامًا صورة لم تزل لديّ، وكان وحده سيّد المصوّرين في النبطية وأهمّهم في تلك الفترة، وعلى يديه تدرّب عدد كبير من الشبّان قبل أن يفرّخوا استوديوهات بعد مغادرته النبطية ولبنان”. ويذكر أنّه “كان شيوعيًّا، من دون أن ينتسب رسميًّا، وكان صديق الرضي وعادل صبّاح وحبيب طه وحسن محي الدين وأحمد فخر الدين”.

الرحلة الأخيرة

بعد سفره، افتتح ماهر غندور متجرًا في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبعد مدّة من إقامته هناك، أصيب بمرض السرطان، و”خضع للعلاج حتّى شفي منه، لكنّه ذات نهار صيفيّ، نسي مفتاح سيارته في داخلها وراح يحاول فتحها، وكانت الشمس حادّة جدًّا ولم يكن يضع شيئًا فوق رأسه، فداخ فجأة وسقط، وضرب رأسه بجانب رفراف السيارة، ما تسبّب له في نزيف داخلي، فنُقل إلى المستشفى ليرحل إلى جوار ربّه بعد ثلاثة أيّام عن 62 عامًا. كان ذلك في 21 أيلول (سبتمبر) العام 1983؛ كنت أنا هنا في لبنان، وقد آلمني كثيرًا أنّني لم أره منذ مدّة، ودُفن في مقبرة هناك من دون أن أشارك في مأتمه. ويحزنني أكثر أنّه كان ينوي العودة إلى لبنان، لكنّ المنيّة حرمته من أمنيته الأخيرة” تقول ابنته سلام.

أخيرًا، قرّر “المجلس الثقافي للبنان الجنوبيّ” ومجموعة “النبطيّة ذاكرة وتراث” و”جمعيّة تقدّم المرأة في النبطيّة” و”جمعيّة بيت المصوّر في لبنان”، بالتعاون مع بلديّتي النبطيّة والنبطيّة الفوقا، وفي الذكرى الخامسة بعد المئة لولادة المبدع ماهر علي غندور، والخمسين لمغادرته النبطية، تكريمه في احتفال يتضمّن معرضًا لبعض صوره ولوحاته وأعماله فضلًا عن إصدار مطويّة تضمّ بانوراما للنبطيّة في العام 1951 من تصويره، ستوزّع مع بطاقات بريديّة على المشاركين ضمن فعاليّة “النبطيّة نحمي تراثها”.

الدكتور علي جواد غندور وعائلته وبدا ماهر أكبرهم
مجموعة من رفاق وأصدقاء ماهر غندور بعدسته
مراسلو التبغ في حي السراي في النبطية في العام 1953 بعدسة ماهر غندور
النبطية في العام 1954 بعدسة ماهر غندور
لوحة الطفلة والكلب بريشة ماهر غندور سنة 1941

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى