مايكل جاكسون في النبطية.. عن تجارب الفنان حسين معّاز “خارج المكان”
ها هو الفنان حسين معّاز، يقوم بتحطيم اسطوانة موسيقية سوداء! ليس غضباً، ولا تبرّؤاً، إنما يفعل ذلك ليعيد تشكيل كسرات تلك الأسطوانة، فيلصقها جنباً إلى جنب، ليصنع منها عملاً فنياً، يجسّد مايكل جاكسون في حركة راقصة.
ما أن صدرت اسطوانة “هيستوري” في العام 1995 لمغنّي البوب الأميركي الأشهر، حتى بدأت انعطافة كبرى في حياة حسين معّاز، الذي كان مراهقاً في الخامسة عشر من عمره. حينذاك تبدّلت تفاصيل كثيرة في كينونته، كما في شكله، فبدأ بإطالة شعره، ليشبه نجمه، الذي راح يقلّده أيضاً في رقصاته، وبدأ بجمع أشرطة جاكسون، والبوسترات التي تحمل صورته، إلى أن وقع الخلاف بين معّاز ووالده، الذي كان حاسماً في تهديده: “إمّا أنت، وإمّا مايكل في هذا البيت. إذا كنت تريد البقاء ها هنا، فعليك التخلّص من جميع متعلّقات ذلك الشخص”. فكان رد ابنه حسين، أكثر حزماً: “حسناً، سوف اختار مايكل جاكسون”.
وقتذاك كان الأب متأثّراً بكل الأقاويل التي كانت تنسج حول جاكسون، بصفته مشروعاً تخريبياً لعقول الشباب، بل وهادماً لجيل بأكمله. بعد تلك الحادثة بأيام، تمّ حل المسألة بين حسين ووالده على زغل. كان يهزّ رأسه، بينما يفوح منه عطراً مميزاً، كان قد رشّه من تلك الزجاجة السوداء، التي تضمّ في وسطها مربّعاً ذهبياً، محفور عليه اسم “مايكل جاكسون”. العطر الذي كان قد أطلقه ملك البوب قبل سنوات.
طقوس المعبد
منذ سنوات عدّة، يعيش معّاز (وهو في الأصل من بلدة الطيبة، قضاء مرجعيون) في الناحية الشمالية من مدينة النبطية. بانياً فضاءه الخاص، باسطوانات وأقراص ممغنطة، وأشرطة كاسيت، وملصقات، ولوحات هو راسمها، لفنانين يحبّهم، بل يعتنق ما ينادون به، ويتماهى في عوالمهم، كأن تلك الأصوات، بحيرات أسيد تذوّب سامعها، لتعيد تأليفه، وترتيب قناعاته: بوب مارلي، زياد الرحباني، توباك، الشيخ إمام، مارسيل خليفة، فيروز وجوليا… وبالطبع مايكل جاكسون.
من عادة حسين معّاز أن يرسم هؤلاء الذين يحبّهم، كأنه يعيد انجابهم من بين أصابعه، فيشكّل تلك الأيقونات التي تشكّله.
في النبطية أيضاً افتتح حسين مكاناً سمّاه “هافانا”، يتضمّن كل ما عنده من صور وكتب ولوحات وقلادات ومقتنيات نادرة، فيها ما فيها أيضاً من رموز اليسار العالمي، وعلى رأسهم غيفارا الذي نفّذ له بورتريه، عبارة عن كولاج شكّله من العملات الورقية. هناك، بين كل تلك التماثيل والصور والموسيقى الصادحة من المسجّل، ستخال انك تعيش طقوساً في معبد. بالطبع، في النبطية، سنعتبره معبداً “خارج المكان”، مثل عنوان سيرة ادوارد سعيد، الذي لم يشبه يوماً الفقاعات الاجتماعية والثقافية، والزمكانية التي قاربها وعاشرها فلم تشبهه، ولم يشبهها.
.. وغيفارا في ليبيا
في العام 1980، ولد حسين معاز في ليبيا، التي بقي فيها لثمان سنوات، شاهد خلالها صورة غيفارا لأول مرّة في منزل عائلة لبنانية تعيش هناك. سأل عن صاحب هذا الوجه، فكانت الاجابة مختصرة: “إنه ثائر، وستتعرف عليه أكثر حين تكبر”. حين عاد معاز إلى لبنان، انتمى الى اتحاد الشباب الديموقراطي، ليكون الشارع مركز تجاربه، فيسمع الشعارات، والاغنيات، ثم يعود إلى المنزل ليتوسع، ويتبحر، فكان زياد الرحباني، بوابةً تعمّقه باليسار، وكان الشيخ امام، مدخلاً لفهم التباين بين الطبقات.
دخل معاز الجامعة اللبنانية، ليدرس الهندسة الداخلية، فكانت الأجواء هناك، مستكملة للمختبر الثقافي والسياسي الذي ينجبل فيه. ثم كان الزواج، وثمرته “سيليا” وحيدته التي تعيش مع والدتها في أوروبا منذ سنوات، ذلك ان الانفصال كان قد حصل بعد عشر سنوات.
الغاية من كل هذا؟ منذ نعومة أظفاره، اهتمّ معّاز بجمع العملات، لتتطور هوايته تلك، حتى تصبح شغفاً، واحترافاً، ليتقفّى أثر كل العملات النادرة، حتى بلغ به الامر بأن أنجز عنها كتاباً ضخماً، بمشاركة صديقه أسامة شمس الدين، وكان التوقيع في العام 2021.
حكاية “سيليا”
الآن يمتلك حسين عملات مطبوعة بشكل خاطئ، ومسحوبة من التداول، وعملات عليها سيرة حياة الملك، ملخصة في رسوم متداخلة، وكأننا أمام صفحة من مجلة كوميكس!، أيضاً يمتلك عملات صغيرة، ومتقشفة، تشبه بطاقات السينما التي تدلنا على أرقام مقاعدنا… بالتوازي، يجمع معّاز كل الاسطوانات، والاشرطة، والصور، والبطاقات، المتعلقة بزياد الرحباني، الذي شكل الكثير من شخصيته، وطريقته في النظر إلى العالم، والذات. بعض تلك النوادر لها أثمان، يضطر معاز إلى دفعها لأنها عبارة عن فرص، قد لا تتكرّر.
يهتم معاز بالتصوير الفوتوغرافي، حتى انه قد وثّق يوميات ثورة 17 تشرين، في خيمتيّ النبطية، وكفر رمان.
يعيش هذا الفنان اليوم في النبطية، ليشتغل في كل هذا، برغبة جامحة خلف كل جديد، وقديم، ومختلف، وإذا سألته عن الدافع الضمني للسعي خلف كل هذا، يقول: “أنا أصنع إرثاً لإبنتي، وأريده أن يكون هامّأً، وعظيماً. كل شيء أفعله، كرمى لعينيّ “سيليا”، الاسم الذي أطلقته عليها “إليدا” إبنة غيفارا، حين كانت في زيارة إلى لبنان في العام 2014. حينذاك كانت زوجتي حامل، فسألنا ابنة الثائر الارجنتيني عن الاسم الذي تختاره بين هذه الاسماء الثلاثة: تانيا (اسم رفيقة تشي)، كلارا (المدينة التي تحتضن رفاة تشي)، إليدا (اسم ابنة تشي)؟ فكان ردّها: لا أختار أيّ من تلك الاسماء. أقترح اسم “سيليا”، هو اسم والدة تشي، واسم ابنتي”.
اعجب الزوجين بالاسم، فقدّم حسين عملة كوبية تحمل صورة غيفارا، سائلاً إياها بأن تكتب أوتوغرافاً، هو بمثابة تحيّة إلى “سيليا” التي لم تولد بعد. فحملت القلم، وكتبت، ووقّعت، لتصبح تلك العملة نادرة، لما تحمله من قيمة، وحكاية.