ما هي قصة ليو تولستوي مع زحلة؟
ميرنا دلول
في كتابه “من بيروت..وعنها- أوراق أوراسية في التفاعل الحضاري” الصادر عن “دار المصور العربي”، يسعى مؤلف الكتاب عماد الدين رائف كما في كتب وأعمال سابقة له، إلى إعادة تعريف جوانب من ماضينا، بعد طمسها في حاضرنا، إما ل”إهمال” الباحثين و”كسلهم” أو لأسباب سياسية وثقافية تسلك الاختزال في تصنيع الهويات الاجتماعية والوطنية طبقا لموازين القوى المحلية والدولية.
في مؤلفه الجديد، يتحدث رائف عن أن الرحالة والسياح والحجاج الروس في مطلع القرن الماضي، كانوا يشاهدون في زحلة “صور الكاتب الرروسي الكبیر لیو تولستوي، في إطارات خشبیة، وتحتھا على الأرف، كانت تصطف كتبه.
وقد أثارت هذه الظاهرة التي انفردت بها مدينة زحلة المستشرقين والمتخصصين بالدراسات السورية، وقد أثارت فضولهم، لكن لم يتوصلوا إلى السر الذي يربط بين عملاق الأدب الروسي تولستوي والمدينة اللبنانية القابعة على سفوح السلسلة الغربية لجهة الداخل والقريبة لدمشق.
وعلى ما يقول رائف في كتابه الجديد بقي هذا اللغز، إلى أن كشفه اللغوي والناقد الأدبي ألكسندر شیفمان (1907 – 1992) ، وهو باحث روسي متخصص في أعمال تولستوي وعلاقاته الدولية مع دول الشرق،فأدرج قصة هذا السر، في كتابه “تولستوي والشرق”، ثم خصص له حیزاً لا بأس فی في كتاب آخر له هو “تولستوي: عالم كامل”، في العام 1976) .
وعلى ما جاء في كتاب رأئف، أن شيفمان عثر على جواب اللغز الزحلاوي، من خلال دراسة أرشیف مراسلات سكان المشرق العربي، مع الكاتب لیو تولستوي. ففي السادس والعشرین من تشرین الأول/ أكتوبر 1904 ،وصلت رسالة من سوریا إلى
یاسنایا بولیانا حیث قطن تولستوي، كتبتھا باللغة الروسیة فتاة شابة اسمھا رامزة ھواویني.
جاء في تلك الرسالة:
“زحلة، 10 أكتوبر 1904.
البالغ الاحترام لیو نیكولایفیتش،
قد یبدو لك خطي غیر المألوف غریباً، لكني في ھذه اللحظة سأعرفك إلى السبب.. أنا عربیة المولد من سوریا، من مدینة دمشق، اسمي رامزة ھواویني. تخرجت من دورة “معھد فیلاریت الأبرشي المسكوبي للنساء”، وعدت إلى الوطن، حیث أقیم مع والدتي في بلدة زحلة، القریبة من مدینة دمشق.
سكان ھذه البلدة یفخرون بتعلیمھم الجید، ویصل عددھم إلى 2700 نسمة، وكلھم معجبون بكم أشد الإعجاب، ومتشوقون لرؤیتكم ولو لدقیقة واحدة. وقد قصدوني غیر مرة، طالبین مني الكتابة إلیكم، لكني لم أجرؤ على اتخاذ القرار في ذلك. وأخیراً طلبوا مني أن أرسل إلیكم بطلب واحدة فقط، وھو أن تتفضلوا بإرسال صورتكم الشخصیة الغالیة، وسیكونون في غایة الامتنان، حیث إنھم غالباً ما یجدونھا تظھر على صفحات الجرائد العربیة بشكل رھیب وغیر واضح.
لذلك، أیھا البالغ الاحترام لیو نیكولایفیتش، اغفر لي أن أتوجه إلیكم بھذا الطلب، الذي آمل ألا ترفضه وھو أن ترسل بصورتكم العزیزة علینا كي نعلقھا في بیوتنا التي تكن إلیكم المودة، وكذلك لنشرھا في الصحف والمجلات المحتاجة إلیھا.
مرة أخرى أرجو منكم التساھل، وعدم الالتفات، إلى كتابتي السیئة المتلعثمة.
أطیب المنى في الحیاة.
من خادمتكم المطیعة. رامزة ھواویني”.
تأخر رد تولستوي على رسالة رامزة لأكثر من سنة، نظرا لكثافة بريده، حیث كان یتلقى رسائل من جمیع أنحاء العالم، فلم یجد الوقت المناسب للرد فوراً على طلب الفتاة السوریة. لكن طلبھا لم یكن طي النسیان.
ففي الحادي عشر من شباط 1905 ،وبعد اختیارة واحدة من الصور الملتقطة له، أدرجھا طي رسالة أرسلھا إلى سوریا البعیدة. وكتب فیھا:
“أنا شدید الأسف سیدتي العزیزة، حیث لم أحقق حتى الآن رغبتك ورغبة طالباتك، المنصوص علیھا. أبعث ألیك بصورتي المتوفرة لدي، وأرجو منك قبول عذري على عدم فعل ذلك سابقاً”.
ويقول رائف “صورة تولستوي المرسلة من روسیا، كانت ھدیة عظیمة لسكان بلدة زحلة. فقد تم استنساخھا، وظھرت على صفحات الجرائد والمجلات العربیة. وذلك كله بفضل الشابة رامزة ھواویني، كما یقول شیفمان”.
وقد شكرت ھواویني تولستوي في رسالة جوابیة بحرارة، تقول فیھا: “من القلب، نتقدم منكم بامتنانا الكبیر لتحقیق رغبتنا المشتركة، ونتمنى لكم وافر الصحة وسنوات عدیدة من الحیاة. رسالتكم المرفقة بصورتكم وصلت إلى عنواني في غیابي، وانتظرتني على الطاولة إلى حین وصولي. وما إن رأیتھا حتى طرت من الفرحة، تقبلوا عذري مرة أخرى، مع خالص الامتنان لذكراكم الطیبة وللطفكم”، وقد كتبت الفقرة الأولى منھا نیابة عن جمیع سكان البلدة.
وجاء في كتاب “من بيروت ..وعنها” أن رامزة هواويني، ذكرت في حاشیة رسالتھا “أنھا مستعدة لإرسال أي مواد عن حیاة شعبھا، قد یحتاج إليها الكاتب في عمله الإبداعي. وسألت لیو نیكولایفیتش ألا ینسى العرب وأن یتجه إلیھم بأفكاره “ولو مرة في السنة”.
ويشر رائف أن شيفمان أهمل “في كتابیه تاریخ تلك الرسالة، ولا تظھر تفاصیل مھمة عن طبیعة عمل ھواویني، على الرغم من كون تولستوي یشیر إلى “الطالبات”، وقد یكون ذلك عائدا إلى طبیعة المعھد الذي تعلمت فیه ھواویني في موسكو”.
ويعتقد رائف أن هواويني قد تكون قد علّمت في مدرسة البنات في زحلة بعد عودتها من الدراسة في موسكو نقلا عن الباحثة الروسیة اللبنانیة تاتیانا كوفاشیفا، في كتابھا “المدارس المسكوبیة في لبنان”. الجدیر ذكره أن مدرستین للبنین والبنات كانتا في عھدة “الجمعیة الأمبراطوریة الارثوذكسیة الفلسطینیة” في زحلة – المعلقة في تلك الحقبة.
يشكو رائف من قلة المعلومات المتوافرة عن رامزة هواويني، ويقول عنها أنها قليلة جدا، ويضيف “ربما هي المرأة العربية الوحيدة في زحلة، التي كانت تجيد الكتابة بالروسية في تلك الفترة”.
وينقل عن شيفمان أن هواويني “مارست التعليم في بلدتها لمدة طويلة، حيث كانت تعلّم طالباتها، إلى جانب المواد التعليمية الأساسية، حبها الحار للأدب الروسي، ثم سافرت إلى دمشق،وبعدها إلى القاهرة، ومن غير المستبعد، أنه كانت لها مساهمة في نشر بعض أعمال تولستوي بالعربية”.