مبادرات إنسانيّة في القرى الحدوديّة لإطعام الحيوانات الشاردة
الإنسانيّة لا يمكن أن تتجزّأ، ولا أن تتغير بحسب الظروف. فعلى هدير المسيّرات والـ “MK” وأصوات “الدبع” التي لا تفارق القرى الحدوديّة، قرّر عدد من الشبّان والشابّات في عدة قرى جنوبيّة أن يكونوا حرّاس الإنسانيّة في ظلّ غياب الأهالي عن منازلهم، فجمعوا ما توافر من بقايا الطعام والأطعمة المخصّصة، وجالوا في الشوارع بحثًا عن الحيوانات الجائعة.
مئات أرواح الحيوانات بقيت في القرى والبلدات الجنوبيّة، تبحث عن كسرة خبز تسدّ جوعها، بعدما كان يأتيها الطعام من كلّ حدب وصوب، حينما كانت البيوت والموائد عامرة بأصحابها. بعضها كان يعيش في المنازل أو بمجاورتها، فكانت حصصهم من الطعام مؤمّنة على الدوام؛ لكن، وبسبب المغادرة القسريّة لأصحاب البيوت وأهلها، تعثّرت سبل العيش وتعذّرت أمام هذه الحيوانات الأليفة.
حيوانات بلا طعام
أمّا الحيز الآخر من تلك الحيوانات، فكانت تعيش في الشوارع والطرقات، ولكنّ نصيبها من الغذاء كان جاهزًا في كلّ زاوية من زوايا البلاد. وربّما يشهد سوق الجزّارين (اللحّامين) في بنت جبيل على الكلاب التي كانت لا تجوع أبدًا حينما كان يعج بأبناء المدينة.
نفق بعض هذه الحيوانات، إمّا بسبب الجوع أو القصف. وهناك أيادٍ أنقذت بعض الحيوانات من منازل دمّرها القصف. ففي حولا أنقذ عدد من المسعفين قطّة قد علقت في منزل استهدفه الطيران الحربيّ الإسرائيليّ في بداية الشهر الأول من هذه السنة، حيث تجلّت الرحمة هناك في أبهى صورها.
باتت القطط والكلاب والطيور تتآخى اليوم في رحلة البحث عن البقاء، وتأكل بعضها حينما لا تجد حلًّا آخر. كما أنّ بعض الحيوانات غير الأليفة كالثعالب وغيرها هجرت الأحراج جراء القصف الذي يطالها واستوطنت في بعض القرى. إلّا أنّ أيدي الرحمة لا تنساها، فبرزت في الآونة الأخيرة عدّة مبادرات فرديّة من شبان صامدين في القرى الحدوديّة، أخذت على عاتقها مهمّة الحفاظ على جزء لا يتجزّأ من هذه البلاد، تلك الحيوانات التي لا شك أنّها أيضًا أحبّت تلك الأرض بأنسها وناسها.
من شقرا انطلق بمبادرة فرديّة
في مبادرة تكاد تكون استثنائيّة في وضع كهذا، قرّر قاسم حيدر ابن بلدة شقرا الجنوبيّة أن يقصد كلّ يوم بلدة من القرى التي نزح عنها أهلها، ليطعم حيواناتها الجائعة، غير آبه بالطيران الحربيّ الذي لا يفارق سماء المنطقة للحظة.
وفي التفاصيل، أنّه وبسبب عمله الذي يلزمه التنقّل بشكل دائم بين القرى الجنوبيّة من جهة ومحبّته للحيوانات من جهة أخرى، وخصوصًا أنّ لها “أرواح متلها متلنا” بحسب قوله، وقد قرّر أن يأخذ هذه المبادرة على عاتقه. وفي حديثه لـ “مناطق نت” يشير إلى “أنّني وبحكم عملي كنت أترّدد إلى المناطق الجنوبية، فقرّرت منذ بداية الحرب أن أحمل ما يتبقّى من طعام في منزلنا وفي منازل الجيران لأطعم بهم الحيوانات الجائعة”.
في مبادرة تكاد تكون استثنائيّة في وضع كهذا، قرّر قاسم حيدر ابن بلدة شقرا الجنوبيّة أن يقصد كلّ يوم بلدة من القرى التي نزح عنها أهلها، ليطعم حيواناتها الجائعة، غير آبه بالطيران الحربيّ الذي لا يفارق سماء المنطقة للحظة.
ويلفت إلى أنّه حينما طال القصف قرى أخرى وتوسّعت دائرة الحرب، نشر عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي أنّه بحاجة إلى فضلات الطعام، وحينما لبّى العديد نداءه، “شعرت أنّني ملزمٌ أمام الله وأمام أصحاب الأيادي البيضاء بهذه المهمّة”، يقول حيدر لـ “مناطق نت”.
وعن القرى التي قصدها حتّى اليوم، يعدّد الشاب مجموعة منها على نحو عيتا الشعب، بنت جبيل، ميس الجبل وحولا، مشيرًا إلى أنّه ينوي التوجه إلى قرى أخرى في الأيام المقبلة بينها عين إبل وكفركلا. وعن المخاطرة وصعوبة التنقل في الظروف الحالية، يؤكد أنّ “الله الحامي”.
تكاد تكون مبادرة هذا الشاب، الأخطر والأصعب، فهو لا يكتفي بدائرته إنما يقصد البلاد بحثًا عن فعل الخير ولو على وقع القصف والاستهدافات التي لا تفرق بين مدني وآخر. يمشي متسلحًا بالخير الذي ينثره على شكل طعام لحيوانات لا تستطيع أن تشتكي أو تطلب حاجتها، يسمعها هو دون أن تحكي، ويلبي النداء دون طلب.
“إم العز” لن تجوع حيواناتها
ربما تكون عيتا الشعب من أكثر القرى التي تتعرّض يوميًّا للقصف، حتّى صارت شوارعها عبارة عن نار ورماد، وبات التنقّل في داخلها مغامرة من المغامرات. إلّا أنّ إنسانيّة البعض لا يمكن اغتيالها أو استهدافها، فتبقى صامدة رغمًا عن أنف المدافع. وهذا ما جسّده ابن عيتا الشعب رفيق حسن قاسم، الذي يهتمّ بحيوانات البلدة في ظلّ غياب الناس.
“الحيوانات بتشعر بالأمان بس تشوف حدا عم يطعميها”، يقول قاسم لـ “مناطق نت”. ولم يكتفِ بالقطط والكلاب، بل أمّن للطيور حصصًا من فعل الإنسانيّة الذي يحمله على كتفيه.
هذا الشاب الجنوبيّ الصامد في منزله، قرّر ألّا يجلس مكتوف الأيدي، وهو الشاهد كيف تعاني الحيوانات في تلك القرى التي غادرها قاطنوها رغمًا عنهم، تاركين وراءهم كلّ ما لديهم. ويشير قاسم لـ “مناطق نت” أنّه يملك بقرة وأربعة رؤوس من الماعز، ويعلم جيدًا قيمة الحيوان، لذا قرّر المضي بمبادرته.
وعن كيفية تأمين الطعام، يشير إلى أنّ عائلته نزحت إلى منطقة صور، وحينما يقوم بزيارتهم كلّ بضعة أيّام، يجلب الطعام لتلك الحيوانات من المسالخ وغيرها ويعود أدراجه، فهناك من ينتظره. يلتقط الصور معهم، يطعمهم بيديه، يحوطونه من كلّ ميل، قطط وكلاب وطيور، وكأنّ لسان حالهم يردّد “إنّ هذا الرجل الجنوبيّ لنا، ونحن صامدون بصموده”.
في بنت جبيل تنتظره ليطعمها
تكاد تتشابه أحوال القرى الجنوبيّة بشكل متطابق، فغالبيّتها خالية من حركة ناسها وبيوتها، تأنّ في غياب أحبّتها. هنا لا شيء يُسمع سوى القصف وهدير الطائرات، ومواء القطط الجائعة.
لكن ثمّة من صمد حتّى اليوم، وفي صموده يحوك المحبّة على شكل طعام ينثره في الشوارع للأرواح التي لا تعرف ماذا يحصل ولماذا فجأة حمل الناس ذكرياتهم ومضوا، فأين أصحاب الدار الذين شاركوهم يومًا خبزهم وتحنناهم؟
تكاد تتشابه أحوال القرى الجنوبيّة بشكل متطابق، فغالبيّتها خالية من حركة ناسها وبيوتها، تأنّ في غياب أحبّتها. هنا لا شيء يُسمع سوى القصف وهدير الطائرات، ومواء القطط الجائعة. لكن ثمّة من صمد حتّى اليوم، وفي صموده يحوك المحبّة على شكل طعام ينثره في الشوارع.
من أصحاب الأيادي الدافئة تلك، الشابّة زينب سعد ابنة بنت جبيل، التي ما زالت وعائلتها صامدين بعد أكثر من مئة يوم من الحرب. إلّا أنّ زينب والتي تربّي القطط والكلاب، تعرف قيمة تلك الأرواح جيّدًا، فقرّرت أن تبحث في الشوارع عنهم لتسدّ جوعها وتخبرها “أنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”.
وتشير في حديثها لـ “مناطق نت” أنّه “منذ بداية الحرب قصد منزلنا عدد كبير من القطط بحثًا عن الطعام، فحتّى في النفايات لم يعد هناك ما يؤكل”. وتتحدّث عن أنّها كانت تضع دائمًا في سيارتها أطعمة مخصّصة للحيوانات في حال مصادفتها، إلّا أنّها قرّرت أخيرًا أن تجول في الشوارع قاصدة البحث عنها بغية إطعامها، بعدما توافرت لديها كمّيّة من “الدراي فود” أمنّها لها أحد أقربائها.
وفي سبيل توسعة مبادرتها، أشارت إلى أنّها ستقصد بعض القرى للغايةعينها. كما تواصلت مع بعض الأشخاص في عدّة بلدات كي تمدّهم بالأطعمة المخصّصة للحيوانات بعدما قدّمها عبرها أشخاص عديدون.
وفي التوجّه عينه، فعل ابن بنت جبيل إبراهيم دباجة، إلّا أنّ المصادفة حثّته على هذا الفعل. ويروي دباجة لـ”مناطق نت” أنّه نزح وعائلته إلى بلدة تبنين الجنوبيّة، “وفي أحد الأيام وأثناء تفقّدي لمنزلنا في بنت جبيل، فوجئت بعدد كبير من القطط والكلاب التي أحاطت بي. مشهد لا يمكن تصوره، حتّى أنّ بعض الكلاب التي كانت شرسة، تودّدت إليّ بطريقة تقشعرّ لها الأبدان فقط كي أطعمها”. يصف إبراهيم هذه اللحظات ويردف: “حينها شعرت أنّ تلك المهمّة قد وضعها الله على عاتقي، فصرت يوميًّا وبرغم الخطر، أتردّد إلى بنت جبيل، حاملًا ما توافر من أطعمة، قد تسدّ جوع تلك المخلوقات التي لا حيلة لها”.
ولفت دباجة إلى أنّه وحينما يصل بسيارته إلى حارته في بنت جبيل، تتجمع فورًا حوله القطط والكلاب “التي حتمًا كانت تنتظرني، حتّى أنّ بعض تلك الكلاب باتت تسير خلفي في طريق العودة وصولًا إلى تبنين”.
كذب من قال إنّ الحيوانات لا تشعر ولا تعرف قيمة من يحنّ عليها، فليتوجّه نحو القرى الحدوديّة وليرَ من يبحث عن الرحمة بالقليل القليل.
ربّما أرخت الحرب بظلالها على البشر والحجر وحتّى الحيوانات، إلّا أنّ في أرض جبل عامل أيادٍ تربّت على نثر الخير، ولم تقصّر يومًا في سبيل كلّ الأرواح، مهما كانت. تقاسموا الأدوار، ومضوا. فكانت إحدى المهمّات البارزة، مهمّة الحفاظ على أرواح تشاطرت معنا يومًا الأرض والخبز فصلًا تلو فصل، فكانت الرحمة دربًا لا بدّ منه، ولو كان معبّدًا بالقذائف والقصف ومحاطًا بعدوّ همجيّ، فالمحبّة تحمي والرحمة تقي من كلّ شر.