مبادرات نسائية في البقاع الشمالي.. فرص واعدة في مواجهة الأزمات
عُقدت مؤتمرات عديدة، أُطلقت شعارات كثيرة، أُقيمت أنشطة متداخلة، وصُرفت أموال طائلة على دراسات وأبحاث قامت بها عشرات الجمعيّات والجهات الدوليّة والمحلّيّة، عنوانها مشاركة النساء في صنع السياسات الماليّة وبرامج الحكم وآليّاته.
شكّل الثاني من تموز/ يوليو سنة 2010 تحوّلًا مهمًّا في سعي المرأة لتحصيل حقوقها الطبيعيّة، فقد أقرّت الأمم المتّحدة قيام هيئة الأمم المتّحدة للمرأة، وباتت عضوًا في مجموعة الأمم المتّحدة للتنمية المستدامة، كذلك الحال في صندوق الأمم المتّحدة الإنمائيّ للمرأة.
يتصدّر التمكين الاقتصاديّ الكثير من مبادرات وخطط الجهات المتخصّصة بشؤون المرأة في لبنان، فهل شكلّت هذه المبادرات فرصًا فعليّة للمرأة في البقاع الشماليّ، أم بقيت كلامًا عابرًا وخططًا مؤجّلة تبقى وعودًا في القادم من الأيّام؟ في رحلة البحث عن إجابات على هذا التساؤل، كان لـ”مناطق نت” جولة في قرى وبلدات البقاع الشماليّ، ولقاءات مع سيّدات شاركن في دورات التمكين الاقتصاديّ للمرأة وأنشأن أعمالهنّ الخاصّة.
“خبزنا كفاف يومنا”
تعمل ماري نعّوم ابنة بلدة رأس بعلبك البقاعيّة مربّية لأكثر من ثلاثين عامًا في التعليم الخاص، تقول لـ”مناطق نت”: “ما حصل معنا لم يكن ببال أحد، ولم أتصوّر يومًا أن يتقلّص راتبي من ألف دولار إلى أقلّ من مئة دولار”.
وتضيف: “لقد فرضت علينا الأزمة نمط حياة جديد، كان لا بدّ من التأقلم إزاءه والبحث عن بدائل، فأتت جمعيّة نوايا، وهي إحدى المنظّمات التي تنشط في منطقتنا من خلال مشروعها “أرض” للتمكين الاقتصاديّ للسيدات والشباب، فانطلقت معها بمشروعي زراعة وتصنيع الصعتر (الزعتر) البلدي، طبعًا كان هدفي مثل كلّ الناس أن أجد “خبزنا كفاف يومنا” إذ لم يعد أحد يحلم بالتوفير والادّخار والرفاهيّة”.
توجّه السيّدة نعّوم دعوة إلى “كلّ سيّدة للتفتيش عن فرص التمكين الاقتصاديّ للمرأة، لمساندة زوجها وإعالة بيتها وأولادها، فمتطلّبات الحياة كثيرة والفرص قليلة، والدلع الستّاتيّ لا يُطعم طفلًا ولا يوفّر قسط مدرسة لتلميذ، بدأت بالزعتر والله لم يضيّع تعبي، وبكلّ إصرار سأبدأ بتصنيع المؤونة البيتيّة وبيعها”.
الاستقلاليّة ليست خراب بيوت
كثيرون وضعوا علامات استفهام وعايشوا القلق والريبة. بعضهم حذّر من خطر الجمعيّات والمنظّمات على المجتمع والأسرة، فهل من شبهات فعليّة أم إنّ في الأمر غايات شخصيّة وفئويّة وحزبيّة؟
تقول دلال الحجيري، وهي ربّة منزل وأمّ لخمسة أولاد متفوّقين دراسيًّا في حديث مع “مناطق نت”: “تشكّل مشاريع التمكين الاقتصاديّ فرصة فعليّة لمن يبتغي مساعدة نفسه. شاركت في العام2019 مع جمعية “تعاون بلا حدود”، وربحت منحة مموّلة من الوكالة الأميركيّة للتنمية، هي عبارة عن معدّات لمطعم زوجي، كان بحاجة إليها لتطوير عمله”.
وتضيف: “في أواخر العام الماضي حصلت على فرصة مع جمعيّة نوايا، خطتي كانت إضافة أصناف جديدة لا نقدّمها في مطعمنا، فوقع الخيار على العصائر والكوكتيل. باشرت بها فور تسلّم المنحة من الجمعيّة، فشكّلت إضافة نوعيّة لعملنا، وخلقت مداخيل إضافيّة، وفّرت فرصة عمل لأحد الشباب”.
وتمنّت الحجيري “على كلّ سيّدة عاملة أو باحثة عن عمل، أنْ تدرك أنّ الاستقلاليّة لا تعني خراب بيتك وتشريد أولادك، وزوجك ليس خصمًا لك ولا عدوًّا، بل شريك حياتك، داعم لك ومساند لنجاحك، فالمرأة عندما تستطيع الإجادة في بيتها وعملها ومع زوجها وأولادها، والله أعطاها هذه القدرة فلماذا تتخلّى عنها؟”.
دلال الحجيري: على كلّ سيّدة عاملة أو باحثة عن عمل، أنْ تدرك أنّ الاستقلاليّة لا تعني خراب بيتك وتشريد أولادك، وزوجك ليس خصمًا لك ولا عدوًّا، بل شريك حياتك، داعم لك ومساند لنجاحك.
تختم الحجيري قائلة: “من الواضح أنّ أزمة لبنان طويلة وصعبة، والرجل وحده لا يستطيع القيام بمتطلّبات المنزل، لذلك على الزوجة مساعدته وإعانته بما تربّت عليه من قيم وأخلاق دينيّة واجتماعيّة، علينا كسيّدات اغتنام هكذا فرص من دون تردّد، للحفاظ على بيوتنا وأولادنا من التفكّك والضياع. وأغتنم هذه الفرصة لأشكر زوجي وأهلي على دعمهم الكامل لي في هكذا مشاريع ومبادرات. يقينًا لولا دعمهم وثقتهم لم أكن لأنجح”.
تقاعد بلا أمل فأين البديل؟
إنّ موظّفي القطاع العام، هم أكثر من دفع ثمن أزمة لبنان، سواء من خلال فقدان قيمة الرواتب، أو بسبب تبخّر المدّخرات في المصارف.
أمضت ابنة بلدة القاع المربّية جورجيت طعمة مجمل عمرها في تعليم أبناء بلدتها وتنويرهم، وصل بها قطار العمل إلى محطّة التقاعد، نزلت منه كتائه ضائع في صحراء، فسألت نفسها: “ما العمل لإعالة نفسي وكفاية منزلي؟”. وتابعت تردّد بقرارة نفسها ثم بصوت عال: “هيك صار بكلّ البلد شو بنعمل؟ نقعد نتفرّج أو نرثي الواقع؟ وما الفائدة من ذلك؟”.
فعلًا، كانت المعلّمة جورجيت قد أنهت رحلة عمر في وظيفة كانت تظنّها ستصل بها إلى برّ الأمان، وتحيلها إلى التقاعد معزّزة مكرّمة في بيتها، فإذا بها مثل المئات من زملائها وغيرهم من موظّفي القطاع العام، “بتنا على الهامش في دولة بلا أمل، تعيش كلّ يوم بيومه” تقول طعمة وتجيب على أسئلتها: “من خلال متابعتي للأنشطة العامّة في بلدتي القاع، علمت بمشروع جمعيّة “نوايا” الهادف إلى تمكين النساء والشباب اقتصاديًّا، وها أنّهم جاؤوا الينا بدل أن نذهب إليهم”.
شاركتْ في دورتهم التحضيريّة ثمّ تقدمتْ بطلب منحة للحصول على آلات تصنيع “بودرة البصل والثوم وتجفيف البندورة”. وتتابع في حديثها إلى “مناطق نت”: ” كوني ابنة بلدة زراعيّة، أطلقت مشروعي في أواخر الصيف، إنّ مؤشّراته ممتازة من ناحية المردود بعدما دخل مربّع النجاح مباشرة، وبإذن الله قريبًا يصبح دخله كافيًا لي، استطيع الركون إليه والاستفادة من تطويره”.
أنهت المعلّمة جورجيت رحلة عمر في وظيفة كانت تظنّها ستصل بها إلى برّ الأمان، وتحيلها إلى التقاعد معزّزة مكرّمة في بيتها، فإذا بها مثل المئات من زملائها وغيرهم من موظّفي القطاع العام، باتوا على الهامش في دولة بلا أمل.
وتختم المربّية طعمة: “إنّ التمكين الاقتصاديّ للمرأة والشباب يساعدنا على البقاء في بلدتنا والتجذّر في ترابها، بيروت لا تتّسع لكلّ أبناء الريف. مؤسف جدًّا أن تكون الهجرة هي الخيار الأوّل لكثيرين من أبناء القاع، ودعوتي لهم جميعهم أن تمسّكوا بالبقاء في أرضكم، وهكذا فرص تشكّل دعامة أساسيّة لنا ولأبنائنا في حال استغلالها بطريقة مفيدة”.
يدًا بيد تتنوّع المشاريع والخيارات
لا تقتصر برامج التمكين هذه على إعداد المؤونة والزراعة، بل تتعدّاها إلى حرف كثيرة، كتصنيع وتزيين الشوكولا، “الكروشّير”، التصوير الفوتوغرافيّ، الخياطة، زينة الأعراس، اللغات والكومبيوتر، وخبز التنّور.
أصبحت ميساء الأطرش، وهي ربّة منزل وأمّ لثلاثة أطفال صاحبة محلّ تزيين وتجهيز حفلات الأعراس، مع إحدى صديقاتها، من رأس مال متواضع، تقول لـ”مناطق نت”: “فكرة المحلّ بدأت مع إحدى صديقاتي بمبلغ 1500 دولار، الحمدالله، كان إنتاج المحلّ طوال الموسم أكثر من ممتاز، فأسعارنا المراعية لوضع الناس جذبت لنا الزبائن”.
وتضيف: “معظم فترات الصيف كان عمل زوجي في الحجر الصخريّ خفيفًا، فشكّل عملي موردًا ماليًّا غطّى معظم احتياجات البيت. كذلك أضفنا إلى المحلّ مقتنيات جديدة ستشكّل زيادة في رأس المال”.
وعن توقّعاتها للموسم المقبل، تتابع الأطرش: “ربحت من مشاركتي مع جمعيّة تعاون بلا حدود ماكينة خياطة ومكواة، سأعمل قريبًا على دمجهما في المحلّ، ما سيوفّر لنا موردًا إضافيًّا، ويؤمّن فرصة عمل لسيّدة ثالثة أيضًا”.
في المحصّلة، تنتصر دائمًا فطرة الله في خلقه، فعلاقة الرجل بالمرأة شراكة تكامليّة، وليست صراعًا بين الخير والشّر أو النار والماء، بل شعلة نور في عتمة أيّامنا الحالكة، تنير للأجيال القادمة دروبهم المظلمة وتقيهم العوز والحرمان. يدًا بيد نتغلّب على الصعاب، ونتجاوز المحن، آملين ألّا يطول درب الجلجلة بوطننا وأهلنا.