مبادرات نسائيّة تضمّد جراح النازحين في زمن الحرب

خلال الحرب الإسرائيليّة على لبنان بين تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 وأواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، وما شهدته من توسُّع لتلك الحرب وما نتج عنها من موجة نزوح كبرى، برزت مبادرات فرديّة نسائيّة على المستوى الإغاثيّ والإنسانيّ والتعليميّ، شكّلت جميعها مساهمة أساسيّة في بلسمة جراح النازحين، وفي التخفيف من قسوة التهجير والتشرّد.

ففي غضون الـ 66 يومًا من الاعتداءات الوحشيّة، بادرت نساء وشابّات إلى لعب دورٍ رياديّ لتوفير أبسط مقوّمات الحياة للعائلات النازحة، لكن سرعان ما واجهت هذه المبادرات صعوبات عدّة بعد الحرب، الأمر الذي يشير إلى أهمّيّة تفعيل دور المرأة وتمكينها سياسيّا واجتماعيًّا خلال فترة السلم والحرب.

دور فعّال للمرأة في الحرب

من بين هذه المبادرات جمعيّة “بيثاغورس” الثقافيّة التعليميّة التي تحوّلت مع بداية الحرب إلى العمل الإغاثيّ، واستطاعت أن تلبّي احتياجات 400 لبنانيّ نزحوا قسراً من الجنوب إلى جبل لبنان، على حدّ قول رئيسة الجمعيّة عُلا سري الدين.

في حديثها لـ “مناطق نت” تضيف سري الدين: “بعد الحرب واجهنا صعوبات عدّة، منها على سبيل المثال كيفيّة زيادة المساعدات للنازحين الذين خسروا منازلهم، كونها لا تلبّي جميع احتياجاتهم، إذ كان يتمّ التركيز من قبل الداعمين على المستوى الإغاثيّ فقط، ما جعلنا نشعر بعقدة ذنب، لكنّنا استطعنا بلورة رؤية الجمعيّة من خلال تجاربنا خلال فترة الحرب، بالتركيز على الجانب التعليميّ للفئات المهمّشة من النساء وتمكينهنّ، على المستوى التعليميّ والمهنيّ والثقافيّ”.

أعمال إغاثية قامت بها جمعية بيثاغورس أثناء الحرب

تتابع سري الدين “خلال فترة الحرب لا يوجد هناك فرق بين الرجل والمرأة، فكلاهما متساويان مع اختلاف الأدوار، ولكن للمرأة خلال الحرب دافع إنسانيّ أكبر، كون احتياجاتها أكثر من احتياجات الرجل، وهذا ينعكس أيضًا على مستوى القيادة لدى الجنسين، من حيث وضع الخطط الإستراتيجيّة والتدبير، ولكن كلّ فرد يمارس ذلك على طريقته”.

طموحات وأهداف أكبر

ليس العمل الإغاثيّ الحلم الوحيد لسري الدين، فهي تطمح إلى تفعيل دورها على الصعيد السياسيّ، والترشّح إلى الانتخابات البلديّة والاختياريّة، وفي هذا الإطار تشير إلى أنّ “المرأة لديها دور سياسيّ وهي قادرة على الإدارة في هذا المجال وتحمّل المسؤوليّة، كذلك فإنّ أيّ سيدة لها الحقّ بالترشّح على المستوى السياسيّ”.

وتلفت سري الدين إلى “ضرورة التمثيل السياسيّ للنساء على المستوى البلديّ والنيابيّ، إذ لا يجب احتسابهنّ بالأعداد، لأنهنّ كما الرجل يملكن الجنسيّة ذاتها ولديهنّ حقّ الترشّح ذاته”، ولهذا السبب ترفض سري الدين الكوتا النسائيّة، وتعتبر أنّ الترشّح يجب أن يكون بناءً على الخبرة والمسؤوليّة بين الجنسين”.

وعلى الرغم من الدور الفاعل للمرأة خلال فترة الحرب، إلّا أنّ النساء والفتيات يتأثّرن في كلّ الحروب، بنسبٍ أكبر من الرجال، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها هيئة الأمم المتّحدة للمرأة، وتواجه النساء في الأزمات مخاطر متزايدة على صحّتهنّ النفسيّة والجسديّة، إذ قُتل حتّى تاريخ الـ 30 من أيلول (سبتمبر) 2024 نحو 1575 شخصًا، بينهم 297 امرأة. وبلغ عدد الإصابات 10,835 من بينهم 2100 امرأة.

تقدّر هيئة الأمم المتّحدة للمرأة أنّ ما يقارب الـ 12 ألف من الأسر النازحة اتّخذت المرأة معيلةً وحيدةً لها، خلال الفترة الممتدّة ما بين الثامن من تشرين الأوّل 2023 والأوّل من تشرين الأوّل 2024.

وإلى التاريخ المشار إليه أعلاه نزح نحو مليون شخص، من بينهم تقديريًّا حوالي 520 ألف امرأة. وتقدّر هيئة الأمم المتّحدة للمرأة أنّ ما يقارب الـ 12 ألف من الأسر النازحة اتّخذت المرأة معيلةً وحيدةً لها، خلال الفترة الممتدّة ما بين الثامن من تشرين الأوّل 2023 والأوّل من تشرين الأوّل 2024.

تحفّظ على مصطلح “تمكين المرأة”

في المقابل، يتحفّظ البعض على مصطلح تمكين المرأة، بحسب المحاميّة ديالا شحادة، التي ترى أنّ “المجتمع الذي يفقد التوازن بالتمثيل السياسيّ بين النساء والرجال هو مجتمع ليس لديه أيّ أمل بالازدهار، وهذا ما أثبتته الدراسات العلميّة خلال آخر 25 سنة على الأقل، ففي دول كالهند مثلاً حقّقت الكوتا النسائيّة بالتمثيل السياسيّ في المجالس المنتخبة زيادة بالناتج الإجماليّ وصلت إلى 27 في المئة و10 في المئة في جنوب أفريقيا خمسة في المئة في بريطانيا”.

على صعيد لبنان، طُرحت الكوتا النسائيّة في البرلمان ولكن ليس في إطار وجودها الحتميّ. حتّى إنّ الكتل السياسيّة رفضت مشروع تمثيل النساء انتخابيًّا وإلزام القوائم الانتخابيّة بنسب محدّدة، ولا يوجد أيّ تبرير لذلك سوى أنّ المرأة ليست مواطنة بالنسبة للأحزاب التقليديّة أو أنّها فئة لا تستحقّ أن تكون ممثّلة سياسيًّا، مع التذكير أنّ المرأة في لبنان تمثّل 53 في المئة من السكّان، ولكنّ تمثيلها في المجالس السياسيّة المنتخبة يقلّ عن خمسة في المئة أو ثلاثة في المئة.

تتابع شحادة لـ “مناطق نت”: “القانون الأهمّ يتمثّل بفرض الكوتا النسائيّة للمرأة في المجالس المنتخبة، أيّ المجلس النيابيّ والمجالس البلديّة. ويجب البدء بنسبة 30 في المئة على الأقل. وهذا الإجراء سيثبت زيادة بالإنتاج المحلّيّ وحصر الفساد وتعزيز فرص السلام، لأنّ وجود النساء في مفاوضات السلام يزيد من فرص تحقّقه بـ 24 في المئة، في وقت لا يزيد تمثيل النساء في مفاوضات السلام حول العالم الآن عن خمسة في المئة”.

وتضيف شحادة أنّ “المشاركة السياسيّة للمرأة طبعًا مهمّة في مراكز القرار، لكن لا تعني فقط المجال السياسيّ، بل المقصود مشاركتها في صناعة القرار بمختلف الميادين، على مستوى التشريع والتنفيذ، وفي البرامج الاجتماعيّة والتربويّة والإنمائيّة. وكذلك تكريس كوتا في المنح التي تُقدّم من الحكومة إلى هذه المبادرات وأصحابها من النساء”.

“مدرسة العازاريّة” معلّمات نازحات يُنقذن العام الدراسي

ومن المبادرات التي ضمّدت عذابات الفئات المحتاجة والمهمّشة خلال الحرب، ورسّخت أهمّيّة إشراك المرأة في مفاصل الحياة، كانت مبادرة رياديّة ساهمت في خلق حلولٍ بعيدة المدى.

ففي خلال النزوح، بادرت المعلّمة هناء المسلماني إلى توظيف خبرتها وإمكانيّاتها، من أجل ضمان حقّ التعليم للأطفال والتلامذة النازحين على رغم الحرب والمآسي اليوميّة، فكان أن أطلقت مبادرة تربويّة تطوّعيّة خلال فترة النزوح في مبنى العازاريّة، وسط بيروت تحت شعار “خلف كلّ دافع عزيمة، وخلف كلّ عزيمة هناك دافع”. شارك في هذه المبادرة تسع معلّمات نازحات في المبنى ذاته، ثابرن على تعليم اللغتين العربيّة والإنجليزيّة ومادّة الرياضيّات وعلى تدريس تلامذة آخرين خارج المبنى عبر تقنيّة “أونلاين”.

تروي المسلماني كيف وُلدت هذه المبادرة ترسيخاً لحقيقة العزيمة في الاستمرار على الرغم من كلّ الظروف، ولضمان حقّ التعليم للأطفال وحثّهم دائمًا على عدم الخوف أو تجميد مستقبلهم على رغم التحدّيات. تقول المسلماني لـ “مناطق نت”: “بعد خمسة أيّام من نزوحي برفقة عائلتي إلى مبنى العازاريّة، ووسط حالة نفسيّة سيّئة وإرهاق وتعب وعدم استقرار الأوضاع الأمنيّة، لاحظت أنّ غالبيّة الأطفال النازحين يلعبون في ساحة المبنى ويصرخون والأمّهات يتذمّرن، لا سيّما وأنّ المبنى كان يضمّ نحو 4000 عائلة نازحة. وكوني معلّمة، راودتني الفكرة ولاقت ترحيب المسؤول عن شؤون العائلات النازحة في مبنى العازاريّة”.

مبادرة “مدرسة العازارية”
متطوّعات يطلقن المبادرة

تتابع المعلّمة النازحة تفاصيل انطلاقة المبادرة فتشير إلى أنّه “من خلال إحصاء عدد الأطفال النازحين أوّلاً تبيّن لنا وجود 600 طفل من أصل 4000 عائلة، يتوزّعون بين صفوف الروضة والابتدائيّ والمرحلة المتوسّطة”. بعدها سعت المسلماني إلى تأمين الدعم والقرطاسيّة من الجمعيّات الخيريّة والمنظّمات الدوليّة. وفي هذا الإطار تشير إلى أنّ “جمعيّة بريطانيّة زوّدتنا بقرطاسيّة كاملة لكلّ المراحل التعليميّة، وتمكّنا من تأمين الكتب وتسجيل أسماء الأطفال في وزارة التربية والتعليم العالي، كوننا لم نكن نعرف تاريخ انتهاء الحرب”.

وبمساعدّة المعلّمات المتطوّعات ثابرت المسلماني على تخصيص دوام محدّد لكلّ مرحلة تعليميّة، بدءًا من صفوف الروضات وحتّى صف التاسع أساسيّ. وتردف بالقول: “لم نترك الأطفال حتّى آخر يوم في الحرب، وما زلنا لغاية اليوم نتابع مع بعضهم عبر تقنية أونلاين، لا سيّما أولئك الذين لم يتمكّن أهلهم من تسجيلهم في المدرسة، كي لا يخسرون عامهم الدراسيّ”.

وتختم المسلماني “المرأة قادرة على التأثير والعطاء والمثابرة بشكل كبير، دورها مهمّ جدًّا في الحياة، عليها فقط أن تبادر وألّا تسمح لأيّ شيء أن يقف أمامها”.

لبنانيّات يساهمنَ ببناء السلام

في المقابل، أكّد التقرير السنوي لـ “اتحاد وكالات الأنباء العربيّة” (فانا) الصادر في حزيران (يونيو) 2024 أنّ “المرأة اللبنانيّة تساهم في بناء السلام وتحقيق العدالة المجتمعيّة”.

على الرغم من الإنجازات العديدة التي تسطّرها المرأة في لبنان، غير أنّها ما زالت تعاني الإجحاف والتمييز في النصوص والقوانين وفي المفاهيم المجتمعيّة، وتواجه تحدّيات عديدة ومسؤوليّات مضاعفة

وأشار التقرير إلى أنّ “اللبنانيّات على الرغم من الظروف القاسية التي يشهدها لبنان، يساهمن في بناء السلام وتحقيق العدالة المجتمعيّة، وفي خضمّ الأزمات والصراعات المتعدّدة أصبحت الجهود المستمرّة التي يبذلنها أكثر أهمّيّة من أيّ وقت مضى، لكنّ المرأة ما زالت تعاني من تداعيات الحروب، على نحو ما يحصل اليوم في جنوب لبنان، وتتعرّض لمختلف أنواع العنف في أوقات السلم، ونجدها لا تستسلم للقوانين البالية، بل تسعى جاهدة إلى إبراز دورها التوعويّ والتثقيفيّ في الميادين المختلفة”.

لزوم تفعيل دور المرأة بالمراكز القياديّة

على الرغم من الإنجازات العديدة التي تسطّرها المرأة في لبنان، غير أنّها ما زالت تعاني الإجحاف والتمييز في النصوص والقوانين وفي المفاهيم المجتمعيّة، وتواجه تحدّيات عديدة ومسؤوليّات مضاعفة في مجال العمل والحياة بشكل عام، مقارنة بالرجل.

وفي هذا السياق، يشير النائب مارك ضوّ إلى أنّ “أكثريّة سكّان لبنان وأكثريّة موظّفي القطاع العام والإدارات العامّة والقضاء والتعليم والتمريض، هم من النساء”. ويتابع في حديث لـ “مناظق نت”: أنّ “المرأة أساسيّة في مختلف الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، لكن لسوء الحظّ، عندما نصل إلى وظائف الفئة الأولى والثانية في الدولة اللبنانيّة وإلى التمثيل بالمجلس النيابيّ، تنخفض نسبة النساء إلى ما دون الـ 15 في المئة. مع العلم، أنّ الأزمات التي عايشها لبنان، وأخيرًا الحرب الإسرائيليّة، أظهرت بوضوح نجاح مجموعة كبيرة من المتطوّعات في تنظيم وإدارة شؤون النازحين بجدّيّة أكبر، وكان لهنّ دور أكبر في الحيّز الاجتماعيّ لناحية دخول مراكز الإيواء”.

ويأسف ضوّ لـ “ضعف التمثيل السياسيّ والوضع القانونيّ، الذي لا يعكس مساهمة المرأة في الحياة اليوميّة وفي الإدارات العامّة أو حتّى حضورها البارز خلال الأزمات. إذ إنّه ولغاية اليوم، لم يتمّ البتّ بقانون حقّ المرأة اللبنانيّة بمنح جنسيّتها لأولادها، ونحن بصدد تقديم صيغة مختلفة بشأنه. كذلك لم يتمّ البتّ بمسألة العنف ضدّ المرأة، ولا تزال هناك تحفّظات تجاه المسائل المتعلّقة بالعدالة بينها وبين الرجل، إن لناحية التعويضات في الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ أو التغطية الصحّيّة وغيرها، ما يعني استمرار (التمييز المقونن)”.

تفعيل دور المرأة

ويشدّد النائب التغييري على أنّه “بات لزامًا وبشكل حاسم تحقيق نقلة نوعيّة لتفعيل دور المرأة في المراكز القياديّة، والاعتراف بدورها الرياديّ في جميع الأزمات والتحدّيات وعملها الاجتماعيّ والثقافيّ، وبالتالي منحها فرصًا أكبر في التمثيل السياسيّ، وإقرار عدد كبير من القوانين التي تكافئ المرأة على مساهمتها الاجتماعيّة”.

يُذكر أنّ لبنان اعتمد خطّة عمل وطنيّة لتطبيق القرار رقم 1325 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة، بشأن المرأة والسلام والأمن العام 2019 (لفترة 2019-2023)، حيث ركّزت الخطّة على زيادة مشاركة المرأة في صنع القرار، وتعزيز حماية المرأة من العنف أثناء النزاع ومشاركتها في جهود الإغاثة والإنعاش. ويعمل لبنان حاليًّا على تطوير خطّة عمل وطنيّة أخرى، استنادًا إلى الخبرات والدروس المستفادة من تنفيذ خطّة العمل الوطنيّة الأولى.

تمّ إعداد هذا المقال في إطار مشروع “مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام” بدعم من هيئة الأمم المتّحدة للمرأة – لبنان – والسفارة البريطانيّة في بيروت. إنّ محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتّحدة للمرأة والسفارة البريطانيّة في بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى