مجازر قتل الطيور مستمرّة وقرار منع الصيد حبر على ورق

في صباحات الجنوب المثقلة برائحة الموت جرّاء الاستهدافات الإسرائيليّة المتكرّرة، يسستفيق الناس أيضًا على صوت طلقات ناريّة متواصلة، يظنّونها للوهلة الأولى اشتباكًا مسلّحًا، فيتبيّن في ما بعد أنّها من بنادق صيّادين، يخالفون قرار وزارة الداخليّة والبلديّات بمنع الصيد على الأراضي اللبنانيّة جميعها، وأيضًا يخالفون قوانين الصيد وآدابها، من خلال مطاردة الطيور واصطيادها في مواسم محظورة، وكأنّ هذه الأرض لم تعرف بعد معنى الموت أو حدوده.

لا يقتصر انتهاك قرار منع الصيد على أزيز طلقات ناريّة، بل على مشاهد أصبحت عادية في طرقات القرى والبلدات، وتتمثّل بشبّان فوق درّاجات ناريّة، معظمهم تحت السنّ القانونيّة يحملون بنادق صيد ويتجهّزون بمعدّاتهم، ويلجون الحقول لاصطياد أيّ طائر يشاهدونه في طريقهم، في ظلّ صمت وتقاعس من البلديّات والقوى الأمنيّة.

إنّه مشهدٌ يتكرّر ليس في الجنوب وحسب، بل في جميع المناطق اللبنانيّة، من البقاع إلى الشمال والساحل، حيث يرسم صورة عبثيّة عنوانها، الرصاص في كلّ مكان، والحياة البرّيّة إلى زوال.

بلديّات في مرحلة التنبيه

يقول رئيس بلديّة أنصار محسن عاصي إنّ البلدة في السابق كانت وجهة للصيّادين، وتشهد حركة ناشطة لهم، خصوصًا خلال فصل الربيع وأثناء موسم صيد “الفرّ” وخلال الخريف في موسم “السمّن”. يتابع عاصي لـ “مناطق نت”: “الوضع تغيّر في السنوات الأخيرة، وأصبح الصيد يقتصر على أيّام الآحاد فقط من بعض الصيّادين، غالبا ما يقصدون البلدة من بيروت لقضاء عطلة نهاية الأسبوع”.

انتهاكات قانون منع الصيد مستمرة على مرأى القوى الأمنية والبلديات

أضاف عاصي أنّه “سُمعت صباح الأحد الماضي أصوات طلقات بنادق صيد، على رغم صدور تعميم عن وزارة الداخليّة والبلديات يمنع الصيد بتاتًا. وبناءً على ذلك، عقدنا اجتماعًا في المجلس البلديّ، وجرى التشديد على عناصر الشرطة بضرورة تكثيف المراقبة خلال عطلة نهاية الأسبوع، والتبليغ عن أيّ مخالف يقوم بممارسة الصيد”.

وختم مؤكدًا أنّ “الموضوع الأمني وموضوع الصيد وقمع المخالفات على سلم أولويات البلديّة”.

مجازر تتجدّد كلّ خريف

عامًا بعد عام يتحوّل الصيد البرّيّ في لبنان إلى فوضى قاتلة، يُصبح معها قانون الصيد حبرًا على ورق. يقول خبير الطيور ورئيس الجمعية اللبنانيّة للطيور المهاجرة الدكتور ميشال صوّان “نحن في فوضى عارمة، للأسف صار اصطياد الطيور للتسلية فقط وإدمانًّا على القتل ورؤية الدم”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “هناك من يضرب بعرض الحائط كلّ قرارات الدولة”.

وعمّا إذا كان هناك من توقيفات بحقّ مخالفي القانون يوضح صوّان أنّ ذلك “يكون على مستوى محدود جدًّا، إذ يتمّ توقيف بعض الأشخاص، لكن لا يلبثون أن يُخلى سبيلهم قبل صدور أيّ قرار بحقّهم”.

في بعض البلدات، يتعامل الأهالي مع الصيّادين أو “القوّاصين” كما يُطلق عليهم، كضيوف موسميّين لا كمخالفين، قلّة فقط تبلّغ عن التعدّيات خوفًا من “الإحراج” أو “الانتقام”

أين المجلس الأعلى للصيد البرّيّ؟

أنشئ المجلس الأعلى للصيد البرّيّ كي يكون المرجعيّة التقنيّة والتشريعيّة لتنظيم هذا القطاع، ويضمّ عادة ممثّلين عن الوزارات والجمعيّات والخبراء، غير أنّ دوره الفعليّ بقي محدودًا، إمّا لغياب الإرادة السياسيّة حينًا، وإمّا لنقص في التمويل أحيانًا، وأيضًا نتيجة ممارسة ضغوط من اللوبيّات المرتبطة بتجّار الذخيرة والسلاح، ونوادٍ تستفيد من استمرار الفوضى لجني أرباح أكبر. وعوضًا عن أن يكون المجلس سلطة رقابيّة، أصبح في أحيان كثيرة هيئة استشاريّة تُصدر توصيات غالبًا لا تُنفّذ.

عن المجلس الأعلى للصيد البرّيّ، يقول صوّان: “منذ إعلان تشكيل المجلس ونحن ننتظر نشر القرار في الجريدة الرسميّة، ولذلك لم نجتمع حتّى الآن”، وأشار إلى أنّ “المجلس الذي يترأّسه وزير البيئة هو من يقرّر متى يُفتتح موسم الصيد، وما هي الطرائد المسموح صيدها”، لافتًا إلى أنّ “الموسم لم يفتتح ولا أحد يلتزم بالقوانين”.

وعي غائب والمسؤوليّة المشتركة

يعتبر المجتمع المحلّيّ شريكًا أيضًا في هذه الفوضى، إذ كثيرون ما زالوا يرون في الصيد “حقًّا شخصيًّا” أو حتّى “بطولة”، لكن الحقيقة أنّ ما يقومون به هو تدمير لتوازن بيئيّ دقيق، فالطيور المحلّيّة والمهاجرة التي تباد في لبنان هي جزء من منظومة بيئيّة عالميّة ومحلّيّة.

وعلى رغم الجهد الذي تبذله جمعيّات حماية الطيور والناشطون في حماية البيئة، فإنّ حملات التوعية تبقى محدودة أمام انعدام الثقافة البيئيّة. ففي بعض البلدات، يتعامل الأهالي مع الصيّادين أو “القوّاصين” كما يُطلق عليهم، كضيوف موسميّين لا كمخالفين، قلّة فقط تبلّغ عن التعدّيات خوفًا من “الإحراج” أو “الانتقام”.

عن أسباب استمرار هذه الظاهرة، يقول صوّان: “استمرار الظاهرة يأتي بسبب غياب التربية الصحيحة والتوعية، وأيضًا بسبب عدم وجود قرارات جدّيّة لمواجهة المشكلة، لذلك نشهد هذه الفوضى”. يتابع “للأسف كلّ لبنان بات بؤرة حمراء، من الشمال بدءًا من عكّار، العريضة، العبدة، تلّ حميرة، شيخ زناد والسمّاقيّة، وصولًا إلى البقاع وتحديدًا القاع بشكل صارخ جدًّا، والهرمل، والبقاع الغربيّ، سهل الفرزل. كل هذه المناطق أضحت بؤرًا حمراء، وإذا لم يكن هناك صيد، فهناك الشبك، وأيضًا الصيد الليليّ وأدواته الظاهرة، ولا نعرف حتّى الآن لماذا ليست هناك ملاحقة ومحاسبة!”.

ثمّة طيور مهاجرة ومحلّيّة نادرة مهدّدة بالانقراض، إذ تُقتل بلا تمييز، وتُعرض صورها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، في مشاهد تثير الصدمة والاستهجان. عن هذا يقول صوّان إنّ “وسائل التواصل الاجتماعيّ تساهم هي الأخرى في المجازر التي ترتكب”.

عصافير تحقن بالسموم

وعن دور المجتمع، يلفت صوّان إلى أنّ “على كلّ مواطن أن يكون خفيرًا ورقيبًا على نفسه، والمجتمع المحلّيّ بإمكانه المساهمة في مواجهة الفوضى القائمة والحدّ من الصيد الجائر بطرق عدّة، أوّلها، التبليغ عن المخالفات، وثانيها عدم شراء العصافير”. وأوضح صوّان أنّ “المواطن لا يعلم أنّه يشتري سموم، فهناك عصافير تحقن بسموم، وهناك طيور لا تكون طازجة، والأمر يعود إلى عدم توضيبها وتبريّدها بالطرق الصحيحة”.

نحو رادع حقيقيّ

لا خلاص من هذه الظواهر من غير ردع مزدوج: قانونيّ وتربويّ، وتاليًا يجب تفعيل تطبيق قانون الصيد بحزم، عبر التنسيق الفعليّ والعمليّ بين الوزارات المعنيّة والجيش والقوى الأمنيّة، وأن تُفرض غرامات حقيقيّة مع مصادرة فوريّة للأسلحة غير المرخّصة.

من جهة ثانية، لا بدّ من تعميم وعي بيئيّ عام، يُدمج في المناهج التعليميّة، ويُعزّز من خلال عمل البلديّات والجمعيّات، لتغيير النظرة إلى الطيور من “طرائد” إلى كائنات شريكة في دورة الحياة.

نحفاوي: ما معنى أن يُسمح لأطفال دون الـ 18 بحمل بنادق الصيد وتعويدهم وتدريبهم على القتل؟ وأيّ نوع من الأهل هؤلاء الذين يقبلون بذلك؟”

وعن إمكانيّة الوصول إلى موسم صيد منظّم، لا يعتقد صوّان “أنّ ذلك ممكنًا في المدى المنظور، فهناك تحدّيات كثيرة منها أنّ غالبيّة متاجر الصيد غير مرخّصة، ومنها عمليّات تهريب الخرطوش إلى سوريا، وتهريب (بارود) من سوريا إلى لبنان. وهناك أحاديث عن انفجار بنادق صيد بسبب استخدام بقايا ذخائر غير منفجرة بدلًا من البارود، في صناعة الخرطوش. والمؤكّد أنّه ليس هناك رقابة أبدًا، خصوصا لجهة إدخال أجهزة مناداة الطيور والليزر ومعظمها عبر المرفأ، فمن المسؤول؟”.

وطن يذبح طيوره

يطلق المواطن النار على طيور بلاده، لكنه في الحقيقة يطلق النار على ذاكرته وطبيعته، وعلى بقايا السلام في داخله، فيغيب الرادع الذي يعيد للطبيعة حقّها في الحياة، وللبنادق صمتها، والخلاصة أنّنا أصبحنا نعيش في وطنٍ يسمع صدى الرصاص أكثر ممّا يسمع تغريد العصافير.

من جهتها تقول الناشطة والمدافعة عن حقوق الحيوانات غنى نحفاوي إنّ “ما يجري اليوم لا يمكن وصفه بالصيد، بل هو مجزرة حقيقيّة يرتكبها أشخاص لا يمكن تسميتهم بصيّادين، بل هم في الحقيقة قتلة ومرضى نفسيّين يعانون من هوس الدم والعنف وحبّ الاستعراض على وسائل التواصل الاجتماعي”.

تابعت نحفاوي لـ “مناطق نت”: “بعض هؤلاء يقدّم نفسه كصيّاد، لكنّه في الواقع تاجر خرطوش وأسلحة”، مشيرةً إلى أن “ما يقوم بعرضه من مشاهد مروّعة حين يصوّر طيرًا يحتضر ببطء بعد إصابته، أو من يقفل منقار طائر بحامضة ويطلقه على الهواء مباشرة”.

وأكدت نحفاوي أنّ “ما وصلنا إليه من إجرام يتطلّب إعلان حال طوارئ مجتمعيّة تشارك فيها وزارات التربية والشؤون الاجتماعيّة والوزارات المعنيّة جميعها، لمناقشة هذه الظواهر المريضة التي باتت تهدّد القيم الإنسانيّة نفسها”. وتساءلت “ما معنى أن يُسمح لأطفال دون الـ 18 بحمل بنادق الصيد وتعويدهم وتدريبهم على القتل؟ وأيّ نوع من الأهل هؤلاء الذين يقبلون بذلك؟”.

كم طيرًا نقتل يوميًّا

وأضافت أنّ “الجمعيّات البيئية تشهد يوميًّا على تفكيك شباك تصطاد أكثر من 1500 طير”، متسائلة “إذا كان هذا العدد في شبكة واحدة، فكم طيرًا يُقتل يوميًّا في لبنان بواسطة الشباك فقط؟ وماذا عن الأساليب الأخرى الممنوعة والاحتياليّة كالصيد بالدبق وكشّاف الضوء واللايزر؟”.

وانتقدت نحفاوي بشدّة تواطؤ بعض الضبّاط والعناصر في قوى الأمن الذين يشاركون في الصيد أو يغطّون الصيّادين. مشيرة إلى أنّها قدّمت بلاغًا بحقّ أحدهم بعد أن وثّقت مخالفته. ولفتت كذلك إلى أنّ صيد الليل يُبثّ مباشرة على “تيك توك” بأسماء معروفة من دون أدنى محاسبة.

وختمت نحفاوي بالقول إنّ “على الوزارات تنفيذ القوانين أو التوقّف عن إصدار قرارات غير قابلة للمتابعة والتنفيذ عوضًا عن التذرّع بالحجج الواهية. مشدّدة على أنّ وزارة الزراعة والبلديّات تتحمّلان مسؤوليّة مراقبة متاجر الحيوانات التي تبيع طيورًا يُمنع قانونًا الاتجار بها منها الهدهد والبوم والصقور وغيرها.

القانون حبر على ورق

يستند تنظيم الصيد في لبنان إلى القانون رقم 580/2004، الذي حدّد أنواع الطرائد المسموح بصيدها، والفترات الزمنيّة المخصّصة لذلك. وألزم الصيّاد بالحصول على رخصة صيد تُجدّد سنويًّا ويتمّ ذلك بعد اجتيازه دورة في التوعية البيئيّة. غير أنّ تطبيق هذا القانون بقي هشًّا وموسميًّا، بسبب افتقار وزارة البيئة للإمكانيّات البشريّة واللوجستيّة المطلوبة للمراقبة الميدانيّة، فبقيت الإجراءات تقتصر غالبًا على بيانات استنكار أو توجيه “كتب تنبيه” إلى القوى الأمنيّة.

أمّا وزارة الداخليّة والبلديّات التي من المفترض أن تضبط التعدّيات من خلال قوى الأمن الداخليّ، فهي تمارس دورًا محدودًا بسبب ضعف التنسيق والضغط الميدانيّ، ما جعل القانون حبرًا على ورق.

تعميم وزارة الداخلية والبلديات لمنع الصيد وقمع المخالفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى