مجانين القرى.. ثنائيّة الكوميديا والتراجيديا
من مشهديّات قريتي، في فترة الطفولة، ما زلت أذكر ذلك الرجل الغريب الشكل، بشعره الأشعث، ووجهه الشاحب، وثيابه الممزّقة، أذكره حاملًا برتقالات عدّة، يقوم بدحرجتها على الطريق الاسفلتيّ، كأنّها طابات في صالة “بولينغ”. كان لذلك “المجنون” اسم شائع، هو “علي قُرقُر”؛ إنّه من مشاهير زمانه، في قريته المجاورة لبلدتنا، وكذلك في مجموعة قرى، إذ كان يوزّع نشاطه في ساحاتها، مستعرضًا مهاراته فيها، متسوّلًا طعامه وكسوته.
حينما رحتُ أستفسر من الأصدقاء عن “مجانين” قراهم، وجدتُ ثمّة قواسم مشتركة كثيرة بينهم، وكأنّهم جيش نظاميّ، له لباسه الموحّد، وأداء متقارب. لكنّني حين دقّقتُ قليلًا، تبيّن لي أن سكان القرى، هُم من يشكّلون سمات “مجانينها”، مساهمين في تأليف صورة المجنون، إضافة إلى خصائص ذلك المجنون الذاتيّة، المتمثّلة بنوع مرضه، وطريقة تعبيره عن ذلك المرض.
الضرورة المسرحية
في الماضي القريب، كانت القرى شديدة الشبه بالمسارح والمسرحيّات، حيث تتوزّع الأدوار وتتكرّر المهام، انطلاقًا من المختار، ورجل الدين، والاقطاعيّ، والفلاحين، والحلّاق، وشيخ الصلح، وحفّار القبور، وعازف الناي “المنجيرة”، وصاحب المقالب.
ولا يكتمل المشهد من دون الحضور المؤثّر لشخصيّة المجنون، حيث تتقاطع في تلك الشخصيّة اعتقادات روحيّة، وثنائيّة الحضور والغياب، والإبداعات غير المتوقّعة، والطرائف التي تنتشر لتصبح جزءًا من سرديّات القرية، التي تتكرّر، وفي كلّ مرّة ثمّة اضافات وحذف، و”بهارات”، لتكتمل عناصر الحكاية، في فعل تأليف جماعيّ غير منسّق.
وسوسة الشيطان
حتّى يومنا هذا، لا نكاد نعثر على معالجين نفسيّين، أو مصحّات نفسيّة، في القرى، سوى في مراكز المحافظات، وبخفر، لا يتناسب وعدد الحالات التي تحتاج إلى العلاج والمتابعة. لذلك علينا تخيّل أوضاع المصابين بالأمراض العقليّة، والنفسيّة في الماضي، حيث كان تشخيص تلك الحالات على عاتق رجل الدين، الذي يقارب الأمور من زوايا معيّنة مثل وسوسة الشيطان، أو لعنة إلهيّة، أو عقاب بسبب خطايا الأهل وإلخ.
حتّى يومنا هذا، لا نكاد نعثر على معالجين نفسيّين، أو مصحّات نفسيّة، في القرى، سوى في مراكز المحافظات، وبخفر، لا يتناسب وعدد الحالات التي تحتاج إلى العلاج والمتابعة.
لأنّ البيوت كانت في معظمها عبارة عن غرفة واحدة تأوي جميع أفراد الأسرة، وربّما بعض الدواب، تحت ذات السقف. لم يكن واردًا عزل المجنون عن الحيّز المشترك في القرية، ولذلك كانت الساحات المرابع الرئيسة لكلّ مجنون، له استعراضاته و”نوباته” في تلك النقاط التي يكثر فيها الجمهور المتفاعل، ضحكًا وتصفيقًا واستفزازًا، أو طرحًا لبعض الأسئلة، بهدف سماع الإجابات المدهشة والطريفة.
الأجرأ من دون استثناء
كونه لا يخضع للقوانين والأعراف الاجتماعيّة العامّة والسائدة، تمتّعت شخصيّة مجنون القرية بمستوىً مرتفع من الجرأة، على أشكالها، فهو يشتم الكبير والصغير، ولا يحسب حسابًا لقائد المخفر، أو الشيخ، أو البيك، أو حتّى المرأة بما تحمله في أيّ قرية من خصوصيّة تتعلّق بالعرض والشرف.
جرأة المجنون لها أيضًا تمظهرات ميدانيّة، مرتبطة بأنماط عيشه الغريبة، حيث ينام في أماكن موحشة، في البساتين أو المغاور، أو البيوت المهجورة، أو أسطح المنازل. هكذا يتحوّل من مجنون إلى جنّي، يختفي في الظلام، ويظهر في الأماكن غير المتوقّعة، ليضع بصمته، ثم يعود ويتوارى خلف الأشجار.
ما مِن افتعال لجرأة المجنون، فهي في صلب شخصيّته، لذلك غالبًا ما تكون حادّة، ومخيفة للآخرين، فهو غير متوقَّع، وقد يفعل أيّ شيء نتيجة نوبة ما، أو ردّة فعل.
من ناحية ثانية، نجد أنّ المجنون قد سبق الفيلسوف في نمط عيشه الجريء، فهو فاعل غير مفتعِل، كما هو حال الفيلسوف اليونانيّ ديوجين، ابن المدرسة الكلبيّة، الذي عاش في برميل كبير على طرف الشارع، مناديًا بالعيش البسيط، بلا شكليّات اجتماعيّة زائفة.
مدّعو “المهدي المنتظر”
إنّ أكثر المصابين بجنون العظمة، يستلهمون أرفع شخصيّة ذات أهمّيّة روحيّة، أو مدنيّة، فيدّعون بأنّهم تلك الشخصيّة بذاتها، كما حصل كثيرًا مع حالات مصابة بالبارانويا في قرىً شيعيّة، ادّعى أصحابها أنّهم “المهديّ المنتظر”، وبأنّهم يحملون وصايا، وأسرارًا عديدة.
كُثر من المصابين بجنون العظمة، يستلهمون أرفع شخصيّة ذات أهمّيّة روحيّة، أو مدنيّة، فيدّعون بأنّهم تلك الشخصيّة بذاتها، كما حصل كثيرًا مع حالات مصابة بالبارانويا في قرىً شيعيّة، ادّعى أصحابها أنّهم “المهديّ المنتظر”.
وهناك مؤشّرات في الطبيعة تؤكّد تصوّراتهم، ذلك فإنّ المصابين بجنون العظمة يتمتّعون بمعارف وثقافات لا بأس بها، نتيجة اختلاطهم بالناس، والنوادي الحسينيّة، وجنازات الموتى، والأعراس، ومواسم الزرع والحصاد. كلّ هذا كان يسمح لهم بحبك القصص، مازجين الواقع بالمتخيّل، لتمتين القصص التي يطرحونها.
فوكو وخطاب الجنون
استطاع الفيلسوف الفرنسيّ ميشال فوكو، إحداث صعقة في سرديّة الجنون، وتصنيفاته العلميّة والشائعة، إذ تنبّه لأحداث تاريخيّة، ووقائع اجتماعيّة، أعادت تعريف شخصيّة المجنون، وذلك في كتابه الشهير “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ”، إذ يعرّف فيه “الجنون” بأنّه الخروج على الموضوعات الاجتماعيّة، والحدّ الفاصل بين الجنون والعقل هو معيار القيم الاجتماعيّة، ومن ثمَّ فالجنون وصف اعتباريّ لا حقيقيّ، ويلزم من ذلك أنّ التغيّر في تلك الموضوعات والقيم والأصول المتّبعة في المجتمع سيعني تغيّرًا في وصف الجنون، فقد يكون جنون في زمان ما ليس جنونًا في زمان آخر.
وتكمن المفارقة في كون فوكو شخصيًّا قد عانى من مشاكل عقليّة، جعلته نزيل مصحّة في فترة شبابه، واستطاع تخطّي تلك المرحلة بأقلّ درجة من الأضرار، على عكس الفيلسوف الآخر لويس ألتوسير، الذي غلبته الحالة، وبقي أسير الجنون طوال حياته.
سعى فوكو إلى تحليل أسلوب تفكير البشر في تمييزهم بين العقل والجنون وتغيرّات الخطاب حول هذا الموضوع، التي تبلغ درجة التناقض أحيانًا، وهو بذلك يقطع مع فكرة وجود «الجنون» كظاهرة نفسيّة واجتماعيّة ثابتة، ويثبت أنّ الموضوع المدروس وأدوات دراسته يتمّ إنتاجهما عبر تطوّر المجتمعات، ويقطع كذلك مع فكرة الفصل بين أنواع المعارف ومستويات التحليل حين يوضح أنّ خطاب المعرفة وخطاب السلطة يرتبطان بعلاقات متراكبة، فهما يحيلان على بعضهما البعض ويغذّي كلّ منهما الآخر خلال تحولاتهما.
ابتكار المجنون
“لكلّ قرية مجنونها، فإنْ لم تجده تبتكره، لأنّه الزاد اليوميّ لضجرها”، مقولة تتردَّد في أيّ بحث يطال مشهديّات القرى، و”مسارحها”، غير أن “فلسفة” القرية في طريقها للتبدّل، لناحية توزيع الأدوار والمهن، والعلاقة بالزرع والحصاد والضجر. ربّما كانت مسرحية زياد الرحباني “فيلم أميركي طويل” مطلع الثمانينيّات، خير مؤشّر على جنون آخر، في لبنان، هو نتاج الحرب، التي قيل أنّها انتهت سنة 1990، وقيل كذلك إنّ حفلات الجنون تلك، باقية في بلدنا، وتتمدّد، حربًا أو سلمًا.