مجزرة البابلية حكايات من تحت الركام
تمعن إسرائيل في تقتيل عائلاتنا، تحدث في ذاكرتهم شرخًا، وعلى أجسادهم تحفر بصمة إجرامها، تحاول دفن ابتسامة صغارنا وكسر عنفوان كبارنا، تحذف آلات قتلها أسماءهم من السجّلات فتُحفر في ذاكرتنا إلى الأبد. ولكننّا “لا نرى إلّا جميلًا” في لقاءاتنا مع الناجين منهم. ابتسامة تقاوم ألم الفقد ودمعة قوّة تقاوم بطش إسرائيل وهمجيتها على رغم جراحاتهم والفجع الذي أصابهم.
بتاريخ الـ 20 من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي استهدفت إسرائيل منزلًا كان يضمّ أفرادًا من عائلتي شاهين والشبّ في بلدة البابليّة جنوب لبنان. كان أفراد من العائلتين مجتمعين على شرفة المنزل عندما قُصف المنزل، فيستشهد حسن وصادق شاهين، فاطمة الشبّ وعباس الشبّ. نجا أفراد من العائلة من الموت ولكن هل نجت ذاكرتهم؟
صورة وحش في ذاكرة أطفالنا
على سرير في غرفة مستشفى علاء الدين جنوب لبنان تجلس فدك البالغة من العمر 12 سنة، آثار الحروق تغطّي وجهها الطفوليّ وعيناها تحكي كلّ الألم والقلق على أختها. لا تعلم فدك باستشهاد أختها فاطمة، أو أيّ شيء حتّى اللحظة، لم يخبرها أهلها خوفًا عليها هي “المعلّقة” بأختها كثيرًا والقريبة منها. فدك لم ترَ وجهها المصاب.
على سرير في غرفة مستشفى علاء الدين جنوب لبنان تجلس فدك البالغة من العمر 12 سنة، آثار الحروق تغطّي وجهها الطفوليّ وعيناها تحكي كلّ الألم والقلق على أختها
يخفي الأهل المرآة عن الطفلة، تعرض شقيقة فدك صورًا لها قبل إصابتها، ثمّ تقول لـ “مناطق نت”: “الممرّضة ما عرفتها”، فقد تعرّضت الطفلة لحروق في كامل وجهها، كذلك اضطرّ الأطبّاء إلى استئصال الطحال من جسد فدك بعد تعرّضه للإصابة. ويعمل الأطبّاء اليوم على ترميم الوجه، وفق ما أفاد الدكتور محمد علاء الدين لـ “مناطق نت”.
“هضامة” فدك شهادة على براءة أطفالنا التي سرقها عدّو لا يفقه سوى لغة القتل والإجرام. تستذكر الطفلة مدرستها ومعلّماتها، والفسحة واللعب مع الصديقات، وفي الوقت نفسه تقاوم بابتسامتها حروق وجهها. تنتقل من ذكريات جميلة في مدرستها، إلى لحظة استهداف إسرائيل لهم. تقول فدك لـ “مناطق نت” وهي تأنّ: “لم أسمع صوت الصاروخ ولم أسمع صوت انفجاره، كلّ ما أذكره هو إحساسي في أنّني أودّ لو أبصق، غبت عن الوعي قليلًا ثمّ سمعت صوتًا يقول لي ابصقي الدمّ”.
أطفالنا يعرفون “نتنياهو” جيّدًا يحفظون تعابير وجهه الناضحة بكلّ شرّ، تصف الطفلة رغبتها بالانتقام منه: “أوّد أن أدخل في عروق نتنياهو إبرة مصل تحديدًا كي يتعذّب”. هي تعي جيّدًا اسم قاتل أحبابها وتعي جيّدًا أنّ جرحها هذا الذي سيرافقها سببه إسرائيل.
تنهمر الدموع على وجه الطفلة، تحاول أن تمسحها فتتألّم من ملمس المنديل وهي تخبر “مناطق نت” عن حياتها قبل إصابتها. قسّمت إسرائيل ذاكرة أطفالنا إلى فصلين “قبل الحرب وبعد الحرب”. تروي فدك عن ذكرياتها، عن اللحظات الجميلة قبل الحرب: “كنت ألعب في منزل جدّي الذي تهدّم. ألعب مع أقاربي؛ كانت لدينا أرجوحة جميلة، وكان لديّ أصدقاء نازحون من كفركلا، كانت حياتي حلوة قبل الحرب، كتير كانت كالخيال وكان شكلي أحلى كمان”.
تضيف الطفلة: “أنا مش قويّة، لكنّني اكتشفت أنّ الله يعلم أنّني قويّة، طلعت شوي قويّة زيادة”. تفاجؤنا فدك في لحظات الإصغاء لها بخفّة روحها المرحة فتقول: “اكتشفت أنّ الجرح صعب… ولكن النومة في المستشفى حلوة”، تضحك وتلي ضحكتها كلمة “آخ”.
الفقد سيّد الحضور
في الغرفة المقابلة لغرفة فدك، صدى ضحكة طفل تسبق استقباله لنا، يجلس رضا قريب فدك البالغ من العمر12 سنة على كرسيّ قبالة والدته المصابة بكسر في يدها. عينه ذابلة وعلى وجهه آثار حروق، فقد تعرّض رضا لحروق في وجهه وجسده وكسر في رجله بفعل أسلحة إسرائيل. إنّ أجساد أطفالنا وأرواحهم وابتساماتهم هدف لهذا الكيان.
أنظر في عينيّ الصبي فأرى نظرة ثاقبة، أسمعه وأدهش بطلاقة لسانه، بصوته الهادئ وبحتّه، يطمئننا الفتى: “لا، الحمدلله صرت أحسن”. تستمّد الأمّ قوّتها من ولدها المصاب فتقول: “رضا هو بقوّيني”.
خسرت والدة رضا ابنها البكر “حسن” وابنها “صادق” 17 سنة. تقول الأم: “ابني حسن حلو كتير، آية في الجمال، هيك بيكونوا الشهداء، لبنان كلّو زعل عليه. وابني صادق عاقل كتير من شغلو للبيت”. هكذا تصف الأم ولديها اللذين أضحيا في غضون ثوانٍ مجرّد ذكرى أليمة تسترجع فيها كلّ لحظة حقد العدو وتصميمه على فجع العائلات.
حسن قارئ عزاء، أب لطفلتين (أربع سنوات وتسعة أشهر)، وشقيقه صادق (17 سنة) عنصر في الدفاع المدنيّ التابع لجمعيّة الرسالة للإسعاف الصحّيّ، رفض الخروج من ضيعته من أجل خدمة الناس الصامدة فيها. من ذكرى حسن بقيت الطفلتان. ابنته البالغة من العمر أربع سنوات تعي الواقع لكنّها كتومة كوالدها بحسب ما وصفت الجدّة لـ “مناطق نت”، وهي تخشى عليها من اضطراب نفسي بفعل الصدمة التي تعرّضت لها. تتابع الجدة: “ترفض أمّها وترفض الاقتراب من الجميع، تقول لو أنّ والدي هنا لما وقع ومات”.
مجزرة بلا إنذار
يقول رئيس بلدية البابليّة نضال حطيط لـ “مناطق نت” التي التقته في البلدة: “أفراد العائلتين كانوا مجتمعين في منزل واحد في الحارة القديمة في الضيعة، وذلك لاعتقادهم أنّ هذا قد يؤمّن لهم قدرًا من الأمان، ولكن ما حصل من إجرام لا يختلف عمّا يحصل في بقيّة القرى لإرهاب المدنيّين”. مع الإشارة إلى أنّه لم يتمّ توجيه إنذار بالإخلاء جريًا على العادة، وهذا يؤكّد بما لا يدعو للشكّ جرائم إسرائيل في استهداف المدنيّين.
خسرت البابليّة أيضًا قبل هذه المجزرة ابنها الشاب جواد عواضة المسعف في الدفاع المدنيّ التابع لجمعيّة الرسالة للإسعاف الصحّيّ. استهدف عواضة بعد إخماد حريق نشب إثر غارة إسرائيليّة على أحد المنازل، لينتقل بعدها إلى إخماد حريق في منزل آخر، لكنّ إسرائيل لم تكتفِ بذلك، فأغارت مجدّدًا على المنزل نفسه ليقضي جواد فيه.
الجدير ذكره أنّ هناك عائلات ما زالت صامدة حتّى الآن في البابليّة، وهي بحسب حطيط لا تستطيع تحمُّل ثقل النزوح، الذي يترافق مع وضع مادّيّ صعب، واكتظاظ المآوي التي فتحتها الدولة، وعدم قدرة تلك المآوي على استقبال هذا الكمّ الهائل من النازحين.
البابليّة شأنها شأن عديد من القرى الجنوبيّة، لا مساعدات تصل إليها، باستثناء بعض المبادرات الفرديّة من أهالي البلدة الميسورين، وجهود البلديّة بقدراتها الضئيلة حال بقيّة البلديّات.
إصابات خطرة
من ناحيته يقول الدكتور علاء الدين، وهو صاحب مستشفى علاء الدين في الصرفند الذي التقته “مناطق نت” هناك: “إنّ معظم الإصابات التي تعرّض لها الناجون من المجزرة، هي إصابات في الوجه نتيجة الشظايا والحروق البالغة، والتي تحتاج كثيرًا من الجهد لإعادة ترميمها كحال الطفلة فدك، وأن نسبة الالتهابات نتيجة الإصابات مرتفعة، وهو ما يؤخّر شفاء جروحهم”. يتابع: “إنّ الإصابات وبفعل تأخّر عمليّات الإنقاذ أحيانًا، تُحدث ردّ فعل في الجسم، فيؤدّي هذا إلى كسل كلويّ، ممّا يضطرّ المصاب إلى التوجّه إلى غسيل الكلى لاحقًا، بالإضافة إلى حالات بتر الأطراف”.
عن وضع الطاقم الطبّيّ في المستشفى يُوضح علاء الدين “أنّ الكادر الصحّي اليوم في غالبيّة مستشفيات الجنوب لا يقدّم جودة الخدمات نفسها التي كانت المستشفيات اللبنانيّة تقدّمها قبل الحرب، وذلك بفعل نزوح عديد من أفراد الكادر الطبّيّ، من الأطبّاء والممرضين من جهة، وارتفاع أعداد الإصابات من جهة أخرى، إذ يترافق ذلك مع مخاوف تتعلّق بعدم قدرة القطاع الصحّيّ على الصمود إن طال أمد الحرب أكثر”.
قد يبدو الإيمان بالمعتقدات الدينيّة للبعض وهمًا لا ينفع في الحرب، لكنّه عند أهالي الشهداء والجرحى ممّن التقيناهم، هو الحبل الذي يتمسّكون به لاستمرار الصمود، أمام هول ما يعيشونه من فقد وجروح ستبقى معهم إلى الأبد، فتراهم يحمدون الله على مصابهم ويؤمنون أكثر وأكثر بأنّ إسرائيل هي شرّ أبديّ.