محاولة نظرية لفهم المشهد الطبيعيّ.. أعمال مارون الحكيم مثالًا
المشهد الطبيعيّ يحيط بنا من كلّ صوب. يحوط بيوتنا ومناطقنا كافّة، ولو بدرجات غير متساوية. لا يُعدّ اكتشافًا إن قلنا إنّ هذا المشهد يفقد يوميًّا بعضًا من رونقه وامتداده بفعل الهجمة الشرسة للعمران، إذ لا يأخذ أصحابه في الإعتبار هذا الخراب الذي لفت انتباه السلطات في بلاد أخرى، وصارت تولي البيئة أهمّيّة لا تقلّ مكانة عن هموم الحياة الأخرى.
إنّ أحد المحفّزات التي دعتنا إلى التفكّر حول هذه المسألة قد تكون جملة من المعارض الفنّيّة التشكيليّة المقامة في العاصمة راهنًا، والتي تتمحور حول المنظر الطبيعيّ في تجلّياته المختلفة. فالفنّان مارون الحكيم يقيم في هذه الآونة، في صالة Escape (الأشرفيّة) معرضه الفرديّ تحت عنوان “منير وجه الأرض”. هذا من جهة، ومن جهة أخرى دعا صالح بركات إلى معرض “المنظر الطبيعيّ اللبنانيّ – مشروع انتماء”، وذلك في صالة أجيال، ويضمّ هذا المعرض أعمالًا لفنّانين لبنانيّين ممّن اشتغلوا على هذه التيمة، وذلك ضمن أساليب مختلفة. هذا، إضافة إلى معارض أخرى عديدة لفنّانين آخرين، كانت قد أقيمت في الفترة الأخيرة، واتّخذت من المشهد الطبيعيّ موضوعًا لها.
خلاصة شخصيّة
يقول مارون الحكيم، في ما يخصّ التعامل مع الموضوع في معرضه المذكور: “أترك نفسي على سجيّتي، وأسلّمها لإحساسي المباشر بالعمل، وهو آنيّ وليد اللحظة. عواطفي وتفكيري يتحكّمان برسمي ونحتي. العملية معقّدة، ولا أدري بأيّ وقت يحدُث ذلك. ولكن متى باشرتُ، يصبح الموضوع ذريعة، ويتكثّف التركيز على المعايير الجمالية الخالصة، والأُسس الفنّيّة المرتكِزة على قواعد ونظم، والمُستنِدة على التجارب والبحث والخبرة الطويلة”.
لا شكّ في أنّ مارون الحكيم أراد في معرضه التزوّد بالضوء من أجل خوض “الصراع” مع العتمة والضياع من وجهة نظر مجازيّة، فيتيح المجال أمام تدفّق الأفكار والمشاعر، وذلك بأساليب وتقنيّات مُستحدثة. وحين سُئل إذا ما كان هذا المعرض يشكّل خلاصًا شخصيًّا لذاكرته ووعيه وتأمّلاته؟ فقد أجاب بأنّ فنّه يمثّل بالفعل خلاصة شخصيّته، ووعيه، وذاكرته، وتأمّلاته، وحياته اليوميّة، ومتابعته للأحداث ومصير شعوب المنطقة ومعاناة إنسانها وألمه.
فهو يعتبر أنّه “لا يمكن للفنّان العيش خارج الزمن، فحينها لن يكون حقيقيًّا. الفنّان هو ابن يومه، وشعبه، وذاكرته، وتاريخه، وثقافته”. وهو يقول أيضًا: “أهجسُ بالتعبير الحضاريّ الراقي، لكنّني أواصل السعي خارج الاستسهال، فأبتكر دائمًا مناحيَ جديدة تتعلّق بطريقة وضعي للخطوط والألوان، وكثافتها، وتدرّجاتها، وحركتها. هذا المهمّ في العمل الفنّيّ. الموضوع يحمل بصماتنا وآلامنا وأفراحنا، لكنّ تنفيذه ينبغي أن يحمل خبرة الفنّان وتطوّره وأحلامه، فيُبرز شخصيّته وخصوصيّته الفريدة”.
عودة إلى الطبيعة
هي، إذًا، عودة أخرى إلى محيطنا الطبيعيّ، أكان في معرض مارون الحكيم، أم في معارض أخرى. وقد كانت قد سبقتها اهتمامات مماثلة خلال فترات تاريخيّة سابقة في الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ، على أيدي أجيال سابقة. وفي حين اعتُبر موضوع المنظر الطبيعيّ ممجوجًا في فترة من الفترات من قبل البعض، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا البعض كان أفراده “يتمتّعون” بأفق ضيق، وبنظرة أحاديّة لم ترتقِ إلى الفهم العميق لما في هذه الطبيعة من آفاق ماورائيّة تتعدّى النظرة المسطّحة.
هي، إذًا، عودة أخرى إلى محيطنا الطبيعيّ، أكان في معرض مارون الحكيم، أم في معارض أخرى. وقد كانت قد سبقتها اهتمامات مماثلة خلال فترات تاريخيّة سابقة في الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ، على أيدي أجيال سابقة.
من الناحية النظرية، المتفق عليها نسبيًّا، والتي شئنا التطرّق إليها، سنتطرّق إلى تعريف الكلمة التي ستسمح لنا بفهم المسألة بشكل أفضل، وتجنّب الخلط بين المصطلحات. نحن نحدّد المشهد الطبيعيّ باعتباره امتدادًا لمساحة ما من بلد معيّن أمام النظر، أو قطعة من الفضاء توفّر صورة (ولو في شكل شبحيّ)، ولا يوجد منظر طبيعيّ إلّا عندما تُرى هذه الصورة. هناك عِدّة مفاهيم يبدو من المهم، بالنسبة لنا، أن نسلّط الضوء عليها، مثل مفهوم البلد، ومفهوم المنظر، ومفهوم الريف، ومفهوم الجماليات.
فالبلد هو درجة الصفر من المشهد الذي يمكن أن ينبثق منه منظر طبيعيّ. المناظر الطبيعيّة هي جزء من الفضاء، وتتميّز بكونها تمثّل منطقة لها دلالة اجتماعيّة وثقافيّة. وهي تتميّز، أيضًا، وهذا يبدو من المهمّ بالنسبة إليّ تأكيده اليوم – عن البيئة.
البيئة هي الظروف الطبيعيّة التي تحدّد البيئة المعيشيّة (المنظار الحيويّ) وتوازن الأنواع (التكاثر الحيويّ)، وكلّها تشكّل نظامًا بيئيًّا. المناظر الطبيعيّة هي الجانب الحسّاس لهذه العلاقة بين الإنسان والبيئة، والبيئة قابلة للدراسة العلمية، فعلم البيئة يهتم بها، على سبيل المثال. على هذا الأساس يمكن القول إنّ لكل منطقة لبنانيّة مشهدها الخاص، بالرغم من عناصر المشابهة في هذا التفصيل أو ذاك.
أدوات تجريد شاملة
لو عدنا إلى أعمال مارون الحكيم، المذكورة سلفًا، لوجدنا أنّها لا تنتمي إلى منطقة معيّنة، بل يمكن إسقاطها على مناطق لبنانية عديدة، ويعود السبب إلى أنّ الفنّان لم يشأ أن يرسم حرفيًّا زاوية معيّنة يُستشف من تفاصيلها طبيعة مكان محدّد. إن السبب في ذلك يعود إلى أن الفنان لم يلجأ إلى أسلوب تقليديّ – كلاسيكيّ، بل إنّ أدوات التجريد لعبت دورًا وازنًا في ما ينتجه، من خلال استبدال العناصر الواقعيّة بمساحات وخطوط، وبقع لونيّة في شكل خاص.
ينتمي المشهد الطبيعيّ إلى نظام جماليّ، أو، بعبارة أكثر وضوحًا، هو شكل من أشكال تمثيل الطبيعة، وطريقة لتخطيطها بحيث يكون التقدير الجماليّ ممكنًا. لذا، يجب علينا أن نواجه محاولات الاستيلاء التي تقوم بها البيئة تجاه المناظر الطبيعيّة في أيّامنا الحاضرة. يمكننا أن نتخيّل تمامًا أنّ المياه الملوّثة تصنع منظرًا طبيعيّا جميلًا، وعلى العكس من ذلك، فإنّ المياه النظيفة لا تصنع منظرًا، اذا ما أخذنا في الاعتبار المردود الجماليّ، وتلك إشكاليّة لا يمكن تفسيرها إلاّ من خلال المنظور الفنّي.
إلى ذلك، لا بدّ من ملاحظة أهمّيّة فكرة الحجم أيضًا: إنّ حجم المشهد الطبيعيّ هو مقياس متوسّط. بهذا المعنى، يختلف المشهد الطبيعيّ عن المنظر المستوي الذي توفّره لنا الخريطة، فالخريطة تمثّل المساحة في شكل متجانس على كامل مساحة المنطقة. على العكس من ذلك، يتميّز المشهد الطبيعيّ بتحوّل في الحجم، والذي ينتقل من النطاق الكبير في المقدّمة، إلى نطاق أصغر بشكل متزايد كلّما تحرّكنا نحو الأفق؛ فالمشهد لديه منظور: الأفق. الخريطة عبارة عن تمثيل للفضاء ثنائيّ الأبعاد؛ المشهد ثلاثيّ الأبعاد، إذ له حجم وعمق. إنّ مساحة المشهد هي مساحة الحضور.
وجهة نظر الموضوع
هذا المبدأ قد لا يحترمه فنّانون معاصرون، ولو عدنا إلى أعمال مارون الحكيم، مرّة أخرى، لأمكننا ملاحظة أنّ المقدّمة كانت قد استُبدلت بقطع لونيّة ذات أحجام أكبر ممّا يستتبعها في المنظور (هذا المنظور في طابعه الكلاسيكي لم يولِه الفنّان أهمّيّة تُذكر). في مقابل فضاء الخريطة، يمكننا هنا أن نفترض فضاءً “هايدغريًا” (نسبة إلى مارتن هايدغر) إلى حدّ ما، أيّ ما يعني فضاءً نوعيًّا مصنوعًا من اتّجاهات وليس من أبعاد، من أماكن وليس من نقاط، من مسارات وليس من خطوط، من مناطق وليس من مستويات. يُنظر إليه من وجهة نظر واحدة، وهي وجهة نظر الموضوع.
لا يوجد منظر طبيعيّ من دون موضوع. ومن هنا الجانب الذاتي لأيّ مشهد، ولو أنّه يُرى من مكان ما. علاوة على ذلك، إذ بينما تُرى الخريطة من الأعلى، عموديًّا، يكون المشهد أفقيًّا ومائلًا، وإذا لم يكن المشهد الطبيعيّ هو الخريطة، لكونه أصغر حجمًا، فهو أكبر حجمًا من الحديقة، التي قد تكون أكثر انغلاقًا، وأكثر إحكامًا على نفسها. حتّى الحديقة هي شيء مغلق، في حين أنّ المناظر الطبيعيّة تفترض وجهة نظر- مظهرًا خارجيًّا.
ومن هنا المفهوم الثاني: وهو النظر المُعطى عن بعد. لا يوجد سوى منظر طبيعيّ مُعطى في المسافة، مع أجزاء بعيدة (الجبال في المسافة) وأجزاء قريبة (المقدّمة)، وتنظيم كامل للخطط التي تتخلّل الفضاء. إلى ذلك، وعلى عكس الخريطة، يتضّمن المشهد مساحات مخفيّة، وهذا يعني أنّ هناك أشياء لا نراها، لكنّنا نعرف أنّها موجودة (وهو تصوّر يشبه إلى حدّ ما تصوّر التكعيبيّين الذين رسموا ما يعرفون بوجوده): ما هو وراء التلّ، أو حتّى النهر الموجود في أسفل الوادي (يشبه إلى حدّ ما المنظور المتعجرف لدى الصينيّين)، أو حتّى الصخرة التي يقابلها المنزل الذي أتأمّل منه المناظر الطبيعيّة.
روائح وعواطف ونبضات
هذا يعني أنّنا لا نحبّذ المشهد الطبيعيّ ضمن فضاء هندسيّ أو حتّى نيوتونيّ (نسبة إلى إسحاق نيوتن)، بل في فضاء متّجه صوب مكان ما، يسكنه جسدنا. هنا قد يتوجّب علينا أن نعيد قراءة كتاب ميرلو بونتي “فينومينولوجيا الإدراك”، لفهم هذه العلاقة المتبادلة بين المكان وجسدنا، الجسد المتحرك، والجسد الشعوري.
لهذا السبب، وعلى عكس التقليد المعروف الذي يرغب في أن يُعطى المشهد الطبيعيّ فقط من خلال المنظر (مثل البانوراما) التي، على عكس المشهد الطبيعيّ، يبدو أنّه لا يحتوي على مساحات مخفيّة، يجب علينا الإصرار على الاستيلاء على المناظر الطبيعيّة بجميع الحواس، وخصوصًا عن طريق السمع والشم.
لهذا السبب، وعلى عكس التقليد المعروف الذي يرغب في أن يُعطى المشهد الطبيعيّ فقط من خلال المنظر (مثل البانوراما) التي، على عكس المشهد الطبيعيّ، يبدو أنّه لا يحتوي على مساحات مخفيّة، يجب علينا الإصرار على الاستيلاء على المناظر الطبيعيّة.
المناظر الطبيعيّة هي مساحة حسّاسة. ألا توجد مناظر طبيعيّة يمكننا التعرف عليها بأمان في الليل من خلال أصواتها، وروائحها، ونوعيّة الهواء؟ المنظر طبيعيّ يُرى، وصحيح أنّ الضوء والسحب والضباب تلعب دورًا أساسًا، ولكن يتمّ الشعور به أيضًا، وفي هذا الإحساس تأتي ذكرى كاملة ترسّبت طبقاتها مثل الطبقات الجيولوجيّة.
هذه المسألة بالذات تبدو لنا جليّة، إلى حدّ معيّن، في أعمال مارون الحكيم. ثمّة روائح وعواطف ونبضات شعوريّة ينبغي البحث عنها، وزوايا مخفيّة يجب اكتشافها في تلك الأعمال. فالمشهد الطبيعيّ يتمّ اختراعه جزئيًّا وتأليفه وبناؤه بواسطة ذكريات الأمكنة والثقافة والحلم، ولو كان جديدًا تمامًا فلن نراه، لأنّنا ندرك فقط ما نعرفه بالفعل، ولو جزئيًّا، فـ”الفضاء يُرى ولكن لم يُعمل، يُتأمل فيه ولكن لا يُحتضن”، كما يقول الباحث جيرار لينكلود في مؤلّفه “المنظر الجمعي” (1995).
مارون الحكيم في السيرة
– مواليد مزرعة يشوع، المتن الشمالي، لبنان، 1950.
– حائز على دبلوم دراسات عليا في الرسم والتصوير من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، 1975.
– حائز على دبلوم «أستاذ فنّ» في مادّة السيراميك من كلّيّة روما للفنون التطبيقيّة، روما، إيطاليا، 1976.
– أستاذ مالك في معهد الفنون الجميلة، الفرع الثاني، الجامعة اللبنانيّة، 1979- 2014.
– رئيس قسم الرسم والتصوير في معهد الفنون الجميلة، الفرع الثاني، 1986- 2014.
– حائز على رتبة «أستاذ» (أعلى رتبة أكاّديميّة في الجامعة اللبنانيّة) منذ العام 2002.
– أحد مؤسّسي رابطة خرّيجي معهد الفنون الجميلة، 1994.
– رئيس جمعية الفنانين اللبنانيّين للرسم والنحت، 1998- 2000.
– مؤسّس وأوّل نقيب لنقابة الفنانين التشكيليّين اللبنانيّين، 2002- 2009.
– له العديد من الأعمال المميّزة في المؤسّسات العامّة والخاصّة والحدائق العامة أهمّها:
• جداريّتان ومنحوتة في حديقة ذوق مكايل العامّة، لبنان، 1980.
• نصب تذكاريّ بمناسبة مئويّة مصلحة المياه، ضبيّه، لبنان، 1996.
• جدارية فخّاريّة، كنيسة مار نهرا، قرنة الحمرا، لبنان، 2002.
• مذبح وتمثال من الخشب، كنيسة مدرسة راهبات العائلة المقدّسة الفرنسيّات، الفنار، لبنان، 2007.
• تمثال البطريرك دانيال الحدشيتي من البرونز، حمّانا، لبنان، 2008.
• نصب «أرض السالم» من الحجر اللبنانيّ، مزرعة يشوع، لبنان، 2008.
• لوحتان زيتيّتان للقدّيسين مار شربل ومار يوحنا- بولس الثاني، كنيسة مار عبدا، بكفيّا، لبنان، 2014.
– مصمّم فينيكس الإعلان، 1992.
– مصمّم شعار سمبوزيوم عاليه للنحت، 1999.
– مصمم ملصق الذكرى السنويّة الرابعة لمجزرة قانا، 2000.
– مصمم شعار مؤسّسة «هولسيم» من البرونز، 2007- 2008.
– نشر كتابين: «المرايا الخلفيّة»، 2013. و»بالفنّ أحيا»، 2020.
– أقام 37 معرضًا فرديًّا في لبنان والخارج، 1977- 2023.
– اشترك بـ 70 معرضًا جماعيًّا في لبنان والخارج، 1971- 2023