محمد الحجيري في “أطلال رأس بيروت”.. خيطان الذكريات وأشباح الماضي
من المستحيل أن أتحلّى بالموضوعيّة في قراءتي لـ”أطلال رأس بيروت” (عن رياض الريّس للكتب والنشر) لمحمّد الحجيري. فليس من الإنصاف أن يكون المرء موضوعيًّا إزاء صدفة اللقاء مع جزء من أصدقائه– غالبيّتهم من الموتى– بين دفّتي كتاب. من قلّة الوفاء أن يكون المرء محايدًا إزاء تجسّد الأمكنة التي تشكّله فوق صفحات وصفحات. سأكون جزءًا من هذا العمل شئت ذلك أم أبيت. فالمدينة قدر، المدينة “تابو”، المدينة حجرة سرّيّة وواحة عامّة وركن سكينة وواحة انفجار… المدينة كلّ هؤلاء وأكثر.
لقد نجح الكاتب اللبنانيّ محمد الحجيري عبر هذا العمل في إيقاظ ذكريات تراني على حرص شديد لطيّها وحشكها في أقصى أدراج رأسي.
تركّز الرواية في متنها الأعمّ على الأخبار العاطفيّة والجسديّة والنفسيّة لفتاة تدعى سارة، وأمر هذه الفتاة يعنيني في السياق العام للسرد بمجرّد مماهاتها مع بيروت وشارع الحمرا بشكل خاص. فهي المتردّدة المندفعة، الكتومة الصريحة، العاقلة المجنونة، صاحبة النظرات السائبة والنظرات المركّزة وكلّ أنواع اللفتات. لكنّ سارة هي على الدوم تلك التي تجيد مراودة كثيرين عن نفسها، تارة مواربة وتارة بوضوح عبر العطور والملابس الجميلة والوشوم.
بيروت حشد ذكريات
إنّها المدينة، شارع الحمرا حيث مقارعة المرء لنفسه قبل مقارعة الآخرين. أكثر ما تحيّن المدينة لحظات الوحدة، لحظات العزلة ووهم الإنصهار. ينهي الحجيري روايته بالقول إنّ نصّ الرواية لم يكن أكثر من ورقة بيضاء. إنّما أيّ بياض هو وقد رماني، أنا كاتب هذه المادّة في غمرة وجوه وغمرة أمكنة وغمرة أمزجة وحشد من الذكريات.
لم يعنّ في بالي البتّة عندما شرعتُ بقراءة “أطلال رأس بيروت” أن ألتقي بمحمد شمس أو بموسى وهبة وبصديقه اللدود عادل فاخوري أو بسهام ناصر أو بنزيه خاطر أو بعبّاس بيضون أو بداوود الأبيض الشاعر العتيق “الذي بقي وحيدًا في اللامكان” (وللقرّاء أن يحزروا من هو داوود الأبيض في هذه الرواية) وبغيرهم من الأسماء. استبدّ بخاطري كلّ هؤلاء فضلًا عن آخرين رأيت أشباحهم بين الكلمات والسطور مثل رئيف كرم ويمنى عيتاني وادوار القشّ ونهاد حشيشو ومن آن لآن حسن قبيسي في هذا المقهى أو ذاك بالإضافة إلى غيرهم من الأحياء والأموات.
المقاهي أبواب المدينة
إننا بإزاء شارع الحمرا بأمّه وأبيه حيث “الوجوه التي تمارس نوعًا بطيئًا من الساموراي” كما جاء في الكتاب. إنّه شارع الحمرا حيث “المقهى- المعبد” على حد قول الحجيري، وأنا أضيف المقهى- الباب… من المودكا إلى الويمبي فكافّيه دي بّاري فحانة هاروت ومطعم أبو حسن ومطعم فيصل وغيرها من المقاهي- الأبواب. المقهى هنا باب سرّيّ إلى قلب المدينة أو باب صريح. المقهى في هذه السياقات مدخل إلى جنّة بيروت أو إلى جحيمها الناريّ، الأمر سواء. إنّه المقهى حيث الجدّ يحايث المزاح وحيث الصدق يداخل “تطيير الفيولة” كما جاء في الكتاب وكلّ شيء، كلّ شيء.
جاء في الرواية أنّ “الذاكرة غراب الأيّام” وجاء فيها أيضًا، “من القبح أن يُدجّن المرء حياته مع أمور متوقّعة”. ولكن يبقى اللامتوّقع في هذه الأنحاء هو السائد، هو الساحة، وهو السرداب، ويا لخصوبة اللامتوقّع كما يقول ذلك العجوز الفرنسيّ الحكيم صاحب كتاب “شاعريّة المكان”. مَنْ له القدرة على ادّعاء تملّك مزاج المدينة؟ من له قدرة الخوض في عمق مياهها الآسنة أو تلك المياه الأخرى الشديدة النقاوة واللؤلؤ النادر؟
المقهى في هذه السياقات مدخل إلى جنّة بيروت أو إلى جحيمها الناريّ، الأمر سواء. إنّه المقهى حيث الجدّ يحايث المزاح وحيث الصدق يداخل “تطيير الفيولة” كما جاء في الكتاب وكلّ شيء، كلّ شيء.
بيروت هي القدر
قد لا يستجيب القدر لأهواء المدينة، لكن تجربتي الشخصيّة مع بيروت وشارع الحمرا بشكل خاص بيّنتْ لي أنّ المدينة هي القدر… أنّ الشارع هو خطّة مرسومة سلفًا لِما سيلي من شؤون وشجون الحياة. تراني أعشق هذا المكان وأنفر منه بالوقت نفسه لأرى إليّ بعد حين أداري ارتباكي “بالأمل والهبل” وهي عبارة وردت في كتاب الحجيري، لكنّني صرفتها في هذه المادّة بغير سياقها، كما وردت في الرواية، ولي ملء الحقّ بهذا الأمر.
إذا كان سمير، الشخصيّة الرئيسة في الرواية، يبحث عن الحبّ ككلب يبحث عن عظام فأنا ابن شارع حمرا التسعينيات أحاول مداراة ارتباكي حيال هذا الشارع بكّل صمت وبلا عواء. تراني أرأف بنفسي كي لا أقع مغبّة الحزن الشديد وأنا أشاهد اللسان الملتوي لشارع الحمرا يشحذ الكلمات ويشحذ الصمت ويشحذ التواري والإختفاء خلف تلك المقاهي القديمة وما كانت تمور به من حكي وصخب وصمت.
ثمّة علاقة غريبة عجيبة بين المقهى والكلمات، وأنا شاهدت تلك العلاقة بأمّ العين، بل تراني قد مرّرت أناملي القديمة فوق تلك العلاقة الغامضة وشممت رائحتها وارتشفتها مع القهوة والنسكافيه ومع البيرة وأكواب النبيذ. فالتشرّد في هذا السياق هو سيد المشهد وتمامه.
يفرد الحجيري في أطلاله مساحة واسعة لمتشرّد شارع الحمرا الشهير والمعروف بـ”علي بلس” والذي “منذ أن صار جثّة صار يدوّن الحكاية”… حكاية الحمرا، حكاية بيروت بالتمام والكمال.
يتدحرج الزمن ونحن بهاراته
لست أدري، ربّما كلّ واحد منّا يختزن متشرّده الخاص إزاء العلاقة مع المدينة. لست أدري، ربّما كلّ واحد منّا هو “علي بلس” على طريقته الخاصّة وربّما شارع الحمرا بكلّه هو المتشرّد الأكبر داخل رؤوسنا وأفئدتنا ونظراتنا التائهة، وتمرير أصابعنا فوق الجدران وبقيّة شجر هذا الشارع الفسيح الشحيح في آن.
“لا شيء أسمى من النسيان” يقول واحد من ناس “أطلال رأس بيروت” وهو قول حقّ. إنما ماذا عن الذاكرة الحرون؟ ماذا عن ذلك التشبّث الأرعن بخيطان تمتدّ من الماضي؟ ثمّ ماذا عن بشاعة الحاضر التي تستدعي “على الفاضي”– وهي عبارة أحبّها كثيرًا هذه الأيام– نوستالجيا الحمرا تلك الأمكنة وأولئك الناس؟!. إنّ الذاكرة في بعض همسها هي أشبه بجاسوس شرّير جلّ ما يبتغيه إبقاء الفتنة بين حاضر المرء وماضيه.
يبدو أنّ لكلّ منّا زمنه الخاص وهو زمن تراه يتدحرج بين أزمنة الآخرين مرتطمًا هنا مطبطبًا هناك وزاعقًا تارة، وكطفل يبكي بصمت على قارعة الطريق في غالب الأحيان.
… كنت أنا وموسى– صديق كانط– نتناول “الشيش بَرَكْ” الأرمنيّة في مقهى ومطعم “الريغوستو” الذي يشرف على “الألدورادو” وعلى مقهى “الستار بكس” والذي يقع فوق مطعم “تاء مربوطة” في قلب شارع الحمرا… كنّا هناك لمّا حضر شمس عن طريق الصدفة. طالعنا بابتسامته تلك من خلف حزنه العتيق والذي يحفر في وجهه عميقًا وقال “شيش بَرَكْ!!” ثمّ طلب لنفسه صحنًا. كان يرشّ البهارات فوق صحنه لمّا تخاطف النظرات إليّ وإلى موسى وقال: “هَلْ صحن متل شارع الحمرا ونحن متل هَلْ بهارات”… مات شمس، مات موسى وشارع الحمرا أيضًا مات، أمّا أنا فلست أدري من شأني أمرًا ما خلا انتظار ذلك العبور الهائل المشرق والبهي.