محمد علي شمس الدين.. المجدّد الذي حوّل المقدّس إلى أسطورة
“كلّ شعر لا يحيلك إلى الميتافيزيق شعرٌ فارغ” محمد علي شمس الدّين
أين يبدأ الشّعر؟ من الطفولة، من اللّحظة الّتي يولد فيها الطفل باكيًا ثمّ يتوقّف عن البكاء. هذا الوقت المستقطع بين البكاء النابع من الخوف وعمليّة التوقف النّابعة من التأقلم هو الشعر. جميعنا نولد بالسؤال، مندفعين نحو معرفة الأشياء الغامضة، نحو أسئلة لم نجد لها إجابات في لحظتها: أين أنا؟ أين الآخر؟ من هو الله؟ لذلك يقول محمد علي شمس الدين: “من صغري حائر أريد أن أكون شيئًا”، من تلك اللّحظة الفضوليّة صار مُحمَّد شاعرًا.
كلّ الأسئلة التي رافقَت صاحب ديوان “قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا” كان الشعر طريق تفسيرها. كما يقضي الإنسان حياته باحثًا عن أجوبة لأسئلته الوجوديّة، قضى شمس الدين باحثًا في الشعر عنها لذلك مع كلّ ديوان كانت تكبر أسئلته أكثر وتتوسّع وتتعمّق في وجوده. هل وصل ذلك الطفل الذي تخيّل نفسه قائد أوركسترا وهو طفل في العاشرة فتحوّل إلى قائد أوركسترا في الشعر أجوبة على أسئلته؟
بدأ بالشّعر من حيث انتهى التّاريخ
رحل الجواب على هذا السّؤال مع رحيل الشاعر الذي ظلّ يريد ما يقول، ولا يقول ما يريد وهو مؤمن بأنّ المسافة بين القول والإرادة في مسافة البحث عن السّر. لذلك تكمن أهميّة شعر شمس الدين في عمليّة البحث عن الشعر التي كتب فيها كلّ قصائده ولم يصل حتّى عندما فارق الحياة، فهو الّذي قدر على الكتابة بالنّفس ذاته، حتّى عمر الثمانين على عكس غالبيّة الشّعراء الذين مرّت تجاربهم بالكثير من الصعود والهبوط، وبعضهم تقاعد في عمرٍ مبكر وسكتت قصائده وأثره حين سكت.
شمس الدين هو الذي استطاع أن يتفوق في الفضول، فاستمرّ باحثًا عن الإجابة التي لم يصل أحد منّا إليها، حتى آخر عمره ظلّ طفل الأوركسترا يسأل شيئًا بداخله. لذلك بقي الذي كتب القصائد كلها يردّد: “من أحلامي الكبيرة أن أكتب قصيدة”.
يقول محمد علي شمس الدين: “من صغري حائر أريد أن أكون شيئًا”، من تلك اللّحظة الفضوليّة صار مُحمَّد شاعرًا.
حوّل شمس الدّين الكثير من الذّكريات والمقدّسات إلى أسطورة يُستفاد منها في الشّعر، ولم يتعامل مع التّاريخ والمقدّس على أنّه مقدّس فعلًا، فلم يحصر شعره في التّاريخ بعد إيقانه أنّ تاريخ القدماء والتّاريخ الدّيني لا يمكن أن يدخلا الشّعر على هيئتهما حتّى لا يثقلا القصائد. وهذا ما أشار إليه في جدال مع أدونيس معلّقًا على كتاب الأخير “الكتاب” الّذي اعتبره وظّف التّاريخ في الشّعر بإثقال.
وهو الذي قال عائدًا إلى التّاريخ: “توضّأت بالدّم/ لم يقبل الماء وجهي”، هذا كان كافيًا لنفهم أنّه يصف الحجّاج. وهو الّذي حوّل ليلى العامريّة من أسطورة إلى امرأة تخون ويصفها وصفًا للمرأة التي خلقها هو من الخيال قائلًا: “إنّ ليلى/ التي لا تزال هناك/ محجّبة لا تراني/ تحيط بها نسوة من حديد”.
سورة ثانية “للشّعراء”
على عكس ما ذيع وقيل عن أنّ محمد علي شمس الدّين يقدّس التّاريخ رافضًا أيًّ من محاولات التّجديد، كان شمس الدّين متمسّكًا بالبداهة مكسّرًا القداسة من حول الأشياء وهذا ما كان يدعي إليه حقيقةً. فهل يمكن اتّباع التّاريخ وفهمه دون تحويله وحكاياه إلى أسطورة؟
لم يستطع محمد علي، صوفيّ الشّعر الجنوبيّ أن يُسقط التّاريخ على شعره دون تحويله إلى أسطورة يُستفاد منها، فأدخل القرآن واللّغة المقدّسة السّاحرة وكلّ والمقدّسات الدّينيّة في شعره بأسلوبه الإستثنائيّ. كما أعاد قراءة “حافظ الشيرازي” وعمل تناصًا بين أسلوبه وشعر الشّيرازي في كتابه “شيرازيات”. فراح محوّلًا فاطمة ابنة الرّسول إلى امرأة زارها مندهشًا قائلًا: “شربت ارتويت اقتربت من الدّهشة/ قلت ها إنّه الحوض/ سبطٌ هنا/ وسبطٌ هناك/ وفاطمة التي كنت غادرتها/ في فراش بنيها بلا ريبةٍ/ ظهرَت كالملاك”.
لم يستطع محمد علي، صوفيّ الشّعر الجنوبيّ أن يُسقط التّاريخ على شعره دون تحويله إلى أسطورة يُستفاد منها، فأدخل القرآن واللّغة المقدّسة السّاحرة وكلّ والمقدّسات الدّينيّة في شعره بأسلوبه الإستثنائيّ
في محاولات أخرى كان يمزج بين التاريخ والقرآن كما فعل في قصيدة “محاولة في سورة الشّعراء” في إحالة إلى قصيدة “صدق الواشون فيما زعموا” لبهاء الدّين زهير فقال:” وأنا في نشوتي مرتجفٌ/ قاب قوسين من العرش المُضاء/ هكذا أنزل “فيما زعموا”/ سورة ثانية للشّعراء”.
لم يفارق صاحب ديوان “الغيوم الّتي في الضّواحي” القرية حتّى عندما عاش في المدينة، ظلّ يعود إليها في القصيدة وفي كلّ آخر أسبوع لزيارةٍ، يزور المقدّس الوحيد الّذي لم يستطع تكسيره وتحويله إلى أسطورة وهو الجنوب. بقي الجنوب والوطن ومقدّساته في ذاكرته على هيئة حنين ما امتدّ إلى الأبد. كتب ذكرياته ابن المجالس “الكربلائيّة” الّتي رفدت شعره على هيئة حنين واضح، وأسقط الطّاووس والنّبي الّذي كان يظهره للعامّة فقال: “ولستُ نبيًّا/ ولست بعرّاف هذا الزّمان/ ولو كنت أدري لهرّبت تحت قميصي بلادي/ وخبّأت في القلب كلّ الصّغار”. وقال: “بعد المسيخ/ وسبعين مجزرةٍ في القرى/ في طريق الإمام الذّبيح/ سجّلوا في دفاتركم ما يلي: /أزفّ الوقت/ واكتملَت كربلاء”.
أين يبدأ الشّعر؟ يبدأ الشّعر من الإحتكاك بين الحقيقي والميتافيزيقي، بين لحظة البكاء والضّحك، بين الطّفل الّذي يلعب في الغرفة دور قائد أوركسترا عظيم محاولًا البحث عن نفسه والرّجل الّذي كبر فصار قائدًا لأوركسترا الشّعر.