محمود درويش بضيافة بعلبك.. ما لم يُروَ في حياة الشاعر
“الأيام الخوالي: كل شيء ترتبه الذاكرة فتمحو ما كان سيئاً ولا تحتفظ سوى بالأفضل”
(فيليب بوفار – صحافي وإعلامي فرنسي)
قد يكون من المناسب أن يبدأ هذا النص بعبارة: “كان يا ما كان”، كما تبدأ القصص القديمة عادة، حين يرويها أشخاص عايشوا حقبات ماضية وشهدوا ما حدث خلالها، أو وردت مجرياتها على لسان أحد من معارفهم، وترسخت في ذاكرتهم، مع ما يمكن أن تحوّره هذه الذاكرة، من دون تعمّد، فتزيد تفصيلاً هنا، وتحذف تفصيلاً آخر هناك. حتى أن الحادثة نفسها قد لا تُروى بحسب المحتوى نفسه في كل مناسبة. النص الآتي سوف يتخذ طابعاً ذاتياً، إذ أنني سأسرد واقعة شهدتها، ولم يروها لي أحد، فقد كنت حاضراً عند معظم مجرياتها.
كان مقهى الـ “هورس شو”، الذي لم يعد قائماً في يومنا هذا، ولم تبقَ سوى تلك الزاوية من شارع الحمراء، التي يحتلها الآن مقهى آخر مختلف عن سلفه، عند أول تقاطع طرق فيه ذي أهمية، نقول إن المقهى كان في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية، وحتى خلالها، ملتقى للأدباء والشعراء والفنانين، كما هو معروف لمعاصري تلك الحقبة. بعض هؤلاء، أو معظمهم، من أهل البلاد، وبعضهم الآخر ضاقت به سبل الإبداع في بلاده لأسباب يتعلّق معظمها بحرية الرأي والإضطهاد السياسي، فقصد بيروت: مدينة الحرية النسبية، والآراء والنقاشات، ومجلاّت الأدب والشعر، والصحافة المزدهرة، حيث يصبح في إمكان الراغب قول ما قد لا يُسمح به في بلده الأصلي.
قادم إليكم
كان الشاعر محمود درويش ضمن سواه، ممن قدموا في تلك السنوات إلى العاصمة اللبنانية، آتياً من فلسطين المحتلّة. أذكر جيداً العنوان الذي ظهر في صحيفة “النهار” حينذاك، والعبارة الواردة على لسان الشاعر، الذي صرّح قائلاً: “قادم إليكم من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يخوض نضالاً بارزاً من أجل حقوق الشعب الفلسطيني”. لم يستوعب كثيرون هذا التصريح يومها، لما فيه من تناقض لم يألفوه، وقوامه ذكر إسم الحزب المقترن بدولة الإحتلال، ووقعت شخصياً في فخ الكلمات، قياساً إلى سني ومستواي الفكري، إلى أن أوضحها لي المرحوم والدي.
كان من الطبيعي أن يزور الشاعر مقهى الهورس شو، ويتعرّف إلى روّاده، كما كان من الطبيعي أن يلتقي هناك الفنان “رفيق شرف”، الذي تجمعني به صلة قرابة وثيقة، إذ هو إبن عم والدي، ومنزل جدي ووالد رفيق متلاصقان تماماً، في تلك الزاوية من حي الشميس البعلبكي، ولا يفصل بينهما سوى حائط واحد مشترك، لطالما اعتقدت أنه لا بد أن يكون سميكاً لكونه مبني من الجهتين ربما.
قلنا إن رفيق شرف، الذي كان له زاوية خاصة في المقهى اعتاد الركون إليها، التقى محمود درويش حينذاك، في يوم من أيام صيف العام 1972، فدعاه إلى زيارة بعلبك ليقيم أمسية شعرية فيها، وفي ذلك المكان الذي يعرفه رفيق شرف جيداً، وتجمعه علاقات مودة مع القائمين عليه، ونعني بذلك “نادي الشبيبة الخيرية”، الواقع في حي بعلبك المسيحي، ويشغل الطبقة الأرضية من مطرانية الروم الكاثوليك، وما زال مكان النادي قائماً حتى اللحظة، وتقام فيه بعض النشاطات الاجتماعية والثقافية، ولو بدرجة أقل من سابقات الأيام.
رفيق شرف، الذي كان له زاوية خاصة في مقهى الـ “هورس شو” اعتاد الركون إليها، التقى محمود درويش حينذاك، في يوم من أيام صيف العام 1972، فدعاه إلى زيارة بعلبك ليقيم أمسية شعرية فيها
قدِم محمود درويش إلى بعلبك رفقة رفيق شرف، في سيارة رفيق الـ “سيمكا”، ذات الموديل الذي تعدّته التقنيات الحديثة، والتي خدمته لفترة طويلة، في زمن كان إقتناء سيارة يُعدّ إنجازا. وكان برفقتهما، أيضاً، الصديق هاشم قاسم، الكاتب والباحث في التراث الفني اللبناني، أطال الله عمره، الذي جمعته مع رفيق شرف صداقة متينة لم تضعفها الأيام. كنت عارفاً بمجيء محمود درويش، وكنت وبعض أترابي، نعرف شعره، بالرغم من حداثة سننا. قرأنا له ولشعراء الأرض المحتلّة، وحفظنا بعض تلك الأشعار عن ظهر قلب. حفّزنا على ذلك إهتمامنا “غير المعمّق” بالفكر الماركسي وبالسياسة بشكل عام، كما بنضالات الحزب الشيوعي اللبناني.
ذهبت إلى بيت عمي قبل بداية الأمسية، بعد ظهر ذلك اليوم الصيفي، منذ 51 عاماً، ورأيت الثلاثة، رفيق وضيفيه، جالسين على مصطبة البيت العتيق، المحاذي لبيتنا، كما سبق ذكره. فضّل درويش ورفيق أن يجلسا أرضاً على فراش، ويتكآن على مساند مزخرفة كانت والدة رفيق تحتفظ بها للضيوف المميزين، وقد اختفت في الوقت الحاضر من البيت، بعدما فقدت أهميتها، كما اختفت والدة رفيق، المعروفة ببساطتها وحبها لنا، وهي التي كنت أدعوها جدتي، وتتماثل في ذهني مع جدتي الحقيقية، التي تشبهها بأشياء كثيرة.
قدّمني رفيق شرف إلى محمود درويش على أنني شاب “واعد”. كان عليّ أن أفتعل حديثاً يتناسب شكليّاً مع الجلسة، ولو على مقدار معيّن، كي لا أجلس صامتاً، ولأستحق، ولو قليلاً، المستقبل الواعد الذي ينتظرني. قلت لدرويش: كنّا نتمنى لو كانت الدعوة إلى الأمسية قد تمت على طريقتنا، فسألني بديهياً: وكيف يعني طريقتكو؟، قلت: عبر إتحاد الشباب الديمقراطي، فعلّق رفيق: يعني منكم وإليكم.. إبتسم درويش حينها، وسألني عن حال الحزب الشيوعي، وإذا كان هناك شيوعيون من إتجاهات أخرى في بعلبك، أجبت، بعدما هبت بي حماسة مفاجئة ولبست ثوب “محلل سياسي”: نعم هناك منظمة العمل الشيوعي، لكنهم مجموعة من المغامرين السياسيين، على ما تم تلقيننا في جلسات سياسية، ولم ندرك فيها أبعاد كلمة “مغامرة”.
انبرى ساعتها هاشم قاسم: شو عم تقلو لمحمود؟ شو عرّفك إنو هودي ناس مغامرين؟ أنا تربيت عندهن. أجبت: هودي بيعتبرو إنو الإتحاد السوفياتي إنحرف عن طريق الماركسية، عندها “حشم” لي درويش قائلاً: دول يبقو أفظع. إحتسينا في تلك الجلسة الشاي وليس القهوة، بناء على طلب درويش، وألقى رفيق شرف، الذي عُرف بحس الطرافة والسخرية، بعض “النهفات”، التي شاركه فيها هاشم قاسم.
أمسية حاشدة
كان الحضور في الأمسية حاشداً. قدم الحاضرون من كل صوب، وامتلأت القاعة عن آخرها. ألقى الشاعر قصائد من دواوينه العائدة لتلك الفترة، أو ما قبلها، من ديوان “العصافير تموت في الجليل” و “حبيبتي تنهض من نومها”. تلقّى الجمهور، الذي استمع معظمه للشاعر للمرة الأولى حضورياً، القصائد بفرح كرّسه وجود درويش وطريقة إلقائه. وكما هي الحال في الكثير من الأمسيات، في ذلك الوقت أو لاحقاً، طلب هذا الجمهور سماع قصيدة “سجّل أنا عربي”. لم يمتثل درويش لرغبة الحضور، وعلل السبب بقوله: لقد كتبت هذه القصيدة متوجهاً من خلالها إلى المحتل، وليس لجمهور يساند قضيتي.
تهامسنا وبعض أصحابي، ولكن بصوت مسموع: لقد تراجع محمود درويش عن مواقفه، وإذ بصوت يأتينا من الخلف بلهجة فلسطينية: لا لم يتراجع، إذ كانت مجموعة من أصدقائنا الفلسطينيين الذين قدموا من “مخيم الجليل” في بعلبك لحضور الأمسية يجلسون في صف خلفنا. لم يحصل بيننا نقاش، إذ كان حكمنا ملطّف النبرة وفيه بعض العتاب، وكان ردّهم ذا نبرة مماثلة، ولم تتضمّن عبارتنا، نحن وهم، ما يشير إلى أحكام مبرمة تسيء إلى الشاعر الكبير.
تناول درويش العشاء على مائدة عمي (إبن عم والدي) صبحي، شقيق رفيق، رحمه الله، على شرفة الطبقة الثانية من منزله التي تعلو منزل والد رفيق الأرضي. اقتصر الحضور على أهل المنزل، بالإضافة إلى المحامي دريد ياغي (نائب رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي لفترة طويلة) وصديق العائلة، أطال الله عمره.
أراد الأستاذ دريد أن يسلّي درويش بقصة خارجة عن المألوف، فسرد على مسامعه حادثة الطائرة الصغيرة، التي حطّت في سهل الطيبة المحاذي لبعلبك حينذاك، وجرى تحميلها شحنة كبيرة من المخدرات (الحشيش)، بعدما استُحدث مطار بدائي في السهل كي تحط فيه. لكن، ولسوء حظ المهّربين، صودف مرور دورية للدرك قرب المكان، فأبلغت السلطات التي لاحقت الطائرة وأجبرتها على الهبوط، وأُجهضت بذلك عملية التهريب التي لم يسبق لها مثيل. أعجب درويش بالقصة، وأبدى دهشته، وربما بقيت هذه السردية في ذاكرته لوقت طويل.
لكن ذاكرة الصديق دريد ياغي لم تكن كافية للإحتفاظ بتفاصيل الموقعة برمتها. فقد تواصلت معه قبل كتابة هذه الكلمات وذكّرته بالسهرة، كي أطّلع منه على بعض التفاصيل الإضافية التي قد تكون فاتتني، فسألني: متى كان ذلك؟ أجبته: في صيف العام 1972 ، فقال: بصراحة، وللأسف، لا أذكر شيئاً من هذا الحدث، لقد مر وقت طويل، ولا تسعفني الذاكرة على العودة إلى تلك الأيام التي مضى عليها 51 عاماً.
قلت في نفسي: قد لا يتمتع الجميع بقوة الذاكرة التي أتمتّع بها، وهي الموروثة عن المرحوم والدي، المتخصص في التاريخ، والذي كان بعض أقاربنا يقصدونه للتحرّي عن تاريخ ولادة فلان من العائلة، إثر اختلافهم على تحديد التاريخ الصحيح، فيدلي لهم بالمعلومة بدقة وثقة، معقودة على معلومات إضافية أخرى، فتفغر أفواههم دهشة، ويدعون للصلاة على النبي.