محميّات الجنوب وآثاره في مهبّ الحرب والمشاريع المحلّيّة المشبوهة

ما سَلِمَ من آلة الموت الإسرائيليّة التي عاثت دمارًا وخرابًا في معظم مناطق الجنوب وغيره بدءًا من الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، لم يسلم من المشاريع المشبوهة والإهمال المحلّيّ. هذا ما يصحّ في محميّات الجنوب الطبيعيّة وآثاره التاريخيّة وتراثه المعماريّ الذي نزف أبنيته القديمة كما لم ينزفها من قبل. من محميّة صور إلى بيوت النبطية التراثيّة وسوقها القديمة، ومن حمى المنصوري إلى آثار بلدة شمع، ومنها إلى أماكن عديدة زُنّرت بالنار ونهشتها الجرّافات كما حصل قي معلم “الحبس” الأثريّ في بلدة كفررمان.
محميّة شاطئ صور: مشروع مشبوه وتعدّيات صارخة
إبّان الحرب كانت قلوب الجميع على آثار صور من أن تصيبها الحرب بمقتل، لكنّ المفاجأة جاءت من محميّتها الطبيعيّة، التي لها أهمّيّة استثنائيّة مميّزة، إذ إنّها الوحيدة المصنّفة برّيّة وبحريّة. المفاجأة كشفت عن مشروع استثماريّ مشبوه بُوشر بتنفيذه في محاذاة “محميّة صور الطبيعيّة”، أيّ المنطقة العلميّة تحديدًا، عبر اتّفاقيّة BOT لصالح شركة “SIS”المملوكة من سلوان صاليني، وبترخيص من وزارة الدفاع وقيادة الجيش، ما أثار سخطًا شعبيًّا وبيئيًّا واسعًا.
المشروع يقع على عقارات تعود ملكيّتها إلى الدولة اللبنانيّة، لكنّه امتدّ إلى حدود المحميّة وأراضيها، والتي تضمّ ثلاث نقاط أثريّة على الأقلّ، ما شكّل تعدّيًا بيئيًّا وتراثيًّا صارخًا على المحميّة ومنطقتها.

الأشغال بدأت في المشروع أثناء الحرب العام الماضي، حيث كانت الجرّافات تعمل تحت أزيز الطائرات والمسيّرات وأصوات القصف المتواصل، لكنّها توقّفت طوال فترة توسّع الحرب منذ الـ 23 من أيلول (سبتمبر) 2024، لتعود الآليّات إلى العمل بوتيرة أسرع مع سريان وقف إطلاق النار، بعد الـ 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مع مخالفات أكبر تمثّلت بإدخال ردميّات الحرب إلى الموقع المذكور .
عقود في الظلّ
على رغم جميع محاولات التقصّي عن هويّة الشركة المنفّذة للمشروع، إلّا أنّ ذلك لم يؤدِّ إلى عنوان معروف أو محدّد لها، كذلك لم يرد اسمها ضمن السجلّات المتاحة. وخلال تتبّع صاحبها، تبيّن أنّه سلوان عصام صاليني، ابن بلدة الشعيتيّة في قضاء صور. عدد من أبناء بلدته أفادوا بأنّه “مستثمر على قدّه”، شاب في مقتبل العمر، واستبعدوا تمامًا أن يمتلك إمكانيّات تمكّنه الدخول في استثمار بهذا الحجم، قد تصل كلفته إلى نحو 30 مليون دولار.
من هنا، تُطرح علامات استفهام حول ما إذا كان صاليني مجرّد واجهة لجهات أكبر آثرت البقاء في الظلّ. ما يعزّز هذه الشكوك هو حضور المتعهّد علي جابر، صهر عائلة تاج الدين المعروفة باستثماراتها الواسعة في المنطقة، خلال اجتماع رسميّ ضمّ ممثّلين عن البلديّة والجيش.
الجدير بالذكر، ووفق معلومات موثوقة تفيد بأنّ شركة تاج الدين كانت قد دخلت أصلًا في المناقصة إلى جانب صاليني وخسرتها، ما يطرح تساؤلات إضافيّة حول طبيعة هذا الارتباط ودوره في تمرير المشروع.
عبدالفتّاح: أوقفت وزارة الدفاع الأعمال، لكن لم يتمّ سحب الآليّات، ولا يزال هناك بناء قائم، وهناك اعتداءات وتخريب حصل في المحميّة
على أنقاض القوانين
من ناحيتها عرضت المحاميّة المكلّفة من قبل جمعيّة “الجنوبيّون الخضر” فداء عبدالفتّاح للناحية القانونيّة، فأشارت بدايةً إلى أنّ “هذا المسار انطلق قبل أشهر من تقدّمنا بالدعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة وتمّ تسجيلها خلال السادس من آذار (مارس) الماضي لوقف الأعمال القائمة بمحاذاة المحميّة، لأنّ هناك ضررًا كبيرًا ويجب اتّخاذ قرار مباشر بوقف الأعمال”.
وتضيف عبدالفتّاح لـ “مناطق نت”: “أبلغت قاضية الأمور المستعجلة في صور وزارة الدفاع التي تجاوبت، لكن بعد أكثر من شهرين على تسجيل الدعوى وصدور قرار وقف الأعمال، ومن ثمّ قامت القاضية بخطوة ردًّا على طلب وزارة الدفاع بالرجوع عن قرار وقف الأعمال، وأصدرت قرارًا جديدًا بتاريخ الـ 15من أيّار (مايو) 2025 أكّدت فيه القرار السابق بوقف الأعمال، وأدخلت وزارات البيئة والدفاع والثقافة والدولة اللبنانيّة بشكل مباشر في هذه الدعوى، وطلبت منهم الإجابة عن كامل الأوراق والإجابة على تقرير الخبير”.
وفنّدت عبدالفتّاح العراقيل والمخالفات القانونيّة الجسيمة في ما يتعلّق بقانون المحميّات الطبيعيّة وقانون محميّة صور وكيفيّة البناء عليها، ورأت أنّ “كلّ هذه المخالفات القانونيّة الجسيمة تأكّدت من خلال مماطلة الجهة المستدعى ضدّها التي تلكّأت ولم تقم بأيّ شيء”.
يونس: موقع الشواكير، الذي شهد أعمالًا مخالفة، هو جزء لا يتجزّأ من هذا النظام الرطب، ويتأثّر بشكل مباشر في تلك الأنشطة
وتقول عبدالفتّاح: “أوقفت وزارة الدفاع الأعمال، لكن لم يتمّ سحب الآليّات، ولا يزال هناك بناء قائم، وهناك اعتداءات وتخريب حصل في المحميّة، وكلّ ذلك يتطلّب من الشركة التي قامت بهذه الأعمال بشكل مخالف للقانون، أن تعيد الحال إلى ما كان عليه. ولكي نضمن وقف الأعمال وعدم الالتفاف على القرار مع الوقت، تقدّمنا بمراجعة في الأساس أمام مجلس شورى الدولة وطلبنا استصدار قرار استمرار وقف الأعمال، وطلبنا إبطال عقد التخصيص المعطى لوزارة الدفاع لمخالفتها مضمونه”.
موقع حسّاس عالميًّا
من الناحية البيئيّة، يشير رئيس جمعيّة “الجنوبيون الخضر” الدكتور هشام يونس إلى أنّه “لا يمكن إغفال الدور الحيويّ لشاطئ صور كموقع مصنّف ضمن (اتّفاقيّة رامسار) للأراضي الرطبة، وهي من أكثر النظم البيئيّة حساسيّة وتعقيدًا وإنتاجيّة اقتصاديّة على وجه الكوكب، وهو أحد أربعة مواقع مصنّفة في لبنان في العام 1999، لما يحمله ذلك من حساسيّة بيئيّة ووظائف إيكولوجيّة أساسيّة للموقع ومحيطه وعلى المدينة، وما يترتّب عليه من شروط حماية مشدّدة”.
ويرى يونس أنّ “موقع الشواكير، الذي شهد أعمالًا مخالفة، هو جزء لا يتجزّأ من هذا النظام الرطب، ويتأثّر بشكل مباشر في تلك الأنشطة، ما يستوجب إدماجه بوضوح ضمن مخطّطات إدارة المحميّة وكذلك في الرؤية التخطيطيّة لمدينة صور”.
العدوان يدمّر وادي زبقين
وسط المواقع والمعالم الطبيعيّة الخلّابة جنوبًا، يبقى وادي زبقين (قضاء صور) أحد أهمّ وأجمل الموائل البيئيّة وأكثرها غنى وتنوّعًا، ما دفع “الجنوبيّين الخضر” إلى إطلاق مقترح يقضي بتحويل الوادي إلى محميّة طبيعيّة، غير أنّ الوادي لم يكن في منأى عن العدوان الإسرائيليّ.
في هذا السياق، يقول الناشط البيئيّ، ابن بلدة زبقين وسيم بزيع “إنّ العدوان الإسرائيليّ المتواصل دمّر مساحات شاسعة من الأحراج في لبنان، وبخاصّة وادي زبقين”، لافتًا إلى أنّ الاعتداءات تهدّد بشكل مباشر الحياة البرّيّة في الوادي”.
ويتابع بزيع لـ “مناطق نت”: “شنّت قوات العدوّ خلال الحرب، وما زالت حتّى اليوم، سلسلة من الاعتداءات المكثّفة على المناطق الحرجيّة، ولا سيّما في وادي زبقين، مستخدمة مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها أسلحة محرّمة دوليّا”، لافتًا إلى أنّ “هذا العدوان أسفر عن دمار واسع في الغطاء النباتيّ والحرجيّ، وأدّى إلى تغيير معالم الوادي، إذ انحرفت مجاري الينابيع وتضرّرت مصادر المياه الطبيعيّة”.
ويرى بزيع أنّ “الضرر الأكبر طال الحياة البرّيّة، حيث لوحظت تحرّكات غير مألوفة للحيوانات التي هجرت موائلها الطبيعيّة، واتّجه بعضها نحو المناطق السكنيّة بحثًا عن الغذاء، ما أثار حالًا من الذعر بين السكّان”.

المحميّة لا تزال ممكنة
بدوره يشير هشام يونس إلى أنّ “ملف إعلان وادي زبقين محميّة طبيعيّة أعدّته الجمعيّة بالتعاون مع بلديّة زبقين”، لافتًا إلى “سلسلة من الاعتداءات خلال الحرب استمرّت حتّى بعد إعلان إتّفاق وقف الأعمال العدائيّة في تشرين الثاني 2024. واستهدف الوادي بعدّة غارات مباشرة، كان أعنفها الحزام الناريّ الذي طال مختلف أرجائه في أيلول 2024، مخلّفًا حفرًا واسعة وأضرارًا جسيمة في الغطاء النباتيّ وبعض معالمه”.
تهريب بحمى المنصوري والقليلة
لم يسلم شاطئ المنصوري المصنّف “حمى” ويعتبر الأهمّ لجهة تعشيش السلاحف البحريّة في لبنان، ومنها الخضراء المهدّدة بالانقراض عالميًّا، من الانتهاكات الجسيمة، وهو ما دفع مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها نهار الجمعة في الرابع من نيسان (أبريل) الماضي إلى استرداد مراسيم تراخيص لإشغال أملاك بحريّة كانت أصدرتها حكومة ميقاتي في آخر أيّامها على قاعدة ستّة وستّة مكرّر، ووزّعتها في مناطق ذوق بحنين، القْلَيلة قضاء صور وراس مسقا، وذلك لإعادة دراستها نظرًا إلى ما يشوبها من شوائب.

وخلال التقصّي عن العقار 923 وطبيعة الشركة الزائلة من الوجود تبيّن أنّها نفذّت مشروع استزراع قريدس على العقار بدون أيّ دراسات بيئيّة أو تراخيص، وقامت بالتمديدات اللازمة، متعدّية بذلك على العقار المجاور والبحر. وبحسب أحد أبناء بلدة القليلة كان ممنوعًا علينا الدخول إلى جوار العقار، وقد نفّذ المشروع تحت غطاء حزبيّ، لكنّ المشروع تكبّد خسارة كبيرة نظرًا إلى كلفته العالية وإنتاجيّته المتدنّية المستوى، إذ صُرّف الإنتاج لمرّة واحدة في الأسواق بسعر متدنّ وهو600 ألف ليرة لبنانيّة للكيلوغرام الواحد، قبل أن يتوقّف كلّيًّا عن الإنتاج بسبب الحرب وعدم القدرة على استيراد اللارفا أو البذرة من إيران مجدّدًا.
والمرسوم الذي صدر وحمل الرقم 14620 أجاز الترخيص بإشغال أملاك عامّة بحريّة متاخمة للعقار 923 (المتاخم للحمى مباشرة) في منطقة القليلة العقاريّة، قضاء صور، جاء فيه: “يُرخّص لشركة والي للديكور والاستثمارات العقاريّة (ش. م. م.) مستأجرة العقار رقم 923 بإشغال واستثمار مساحة إجماليّة قدرها 14560 مترًا مربّعًا من الأملاك العامّة البحريّة المتاخمة للعقار المذكور (مسطّح مائيّ فقط)”، دون لحظ وجهة الاستعمال والتي لو نفّذت ستؤدي إلى تدهور بيئيّ خطير في المنطقة.
آلاف الكيلومترات لشركة زائلة
على خلفيّة المخالفات القانونيّة والتعدّيات الفادحة في ملفّي القليلة والمشروع المحاذي لمحميّة شاطئ صور الطبيعيّة قالت الصحافيّة الاستقصائيّة والباحثة في المفكّرة القانونيّة أماني البعيني لـ “مناطق نت”: “خلال الأيّام الأخيرة لحكومة ميقاتي كان هناك نهج خطير ببيع وترخيص الأملاك العامّة البحريّة لما يقارب 150 ألف متر مربّع بشكل مخالف للقانون، وبالتالي نشرنا مطالعتنا القانونيّة التي أظهرت بشكل واضح منح شركة زائلة من الوجود في القليلة إشغال نحو 14000 متر مربّع من البحر من دون ذكر دواعي الاستعمال”.
لم تقتصر تداعيات الحرب الأخيرة في جنوب لبنان (2023– 2024) على البنية التحتيّة والسكّان المدنيّين، بل طالت أيضًا ذاكرة البلاد الثقافيّة
وتضيف: “لقد تمّ الترخيص خلافًا لرأي المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، وكان في تفاصيل المخالفات مخالفة جوهريّة للمرسوم 4810 الناظم لإشغال الأملاك العامّة البحريّة، كذلك فإنّ الترخيص أعطي لمناطق مصنّفة زراعيّة في خرق واضح للقانون الذي أعطى حقّ الترخيص للتصنيفات السياحيّة والصناعيّة، فضلًا عن مخالفات قانونيّة أخرى منها على سبيل المثال عدم مجاورة العقار للأملاك العامّة البحريّة مباشرة”.
الآثار والتراث بين الحرب والمشاريع المشبوهة
لم تقتصر تداعيات الحرب الأخيرة في جنوب لبنان (2023– 2024) على البنية التحتيّة والسكّان المدنيّين، بل طالت أيضًا ذاكرة البلاد الثقافيّة، من خلال تدمير ممنهج لمواقع أثريّة ودينيّة وتراثيّة تعود إلى قرون سلفت، بل إلى آلاف السنين. هذا التدمير غير المسبوق أثار قلقًا واسعًا لدى الأوساط المحلّيّة والدوليّة المعنيّة بحماية التراث الإنسانيّ، وأعاد طرح السؤال القديم الجديد: من يحمي الذاكرة حين تقع الحروب؟
ولكن ليس هذا وحده ما يهدّد تاريخ لبنان وإرثه الثقافيّ، فثمّة ما هم أخطر على الحجر من الحرب وتداعياتها التي وفقًا للبيانات الواردة خلال الفترة الممتدّة ما بين تشرين أوّل (أكتوبر) 2023 وحتّى تاريخ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024 سبّبت بأضرار جزئيّة أو كلّيّة لستّة قلاع أثريّة، و36 مسجدًا، وتسع كنائس، وستّة مقامات دينيّة.
تدمير “الحبس” بكفررمان والبلدية تجاهلت
بعيدًا من الأضواء، وفي منطقة لطالما حملت في طيّاتها آثارًا شاهدة على حقبات طويلة من التاريخ، يقف موقع “الحبس” في بلدة كفررمان قضاء النبطيّة كواحد من الأمثلة الصارخة على الإهمال، وربّما التواطؤ، في التعامل مع الإرث الأثريّ والتاريخيّ.

يُرجّح الاهالي أن الموقع يعود إلى العصر الرومانيّ، ومع ذلك، ظلّ لقرون وعقود يتعرّض للعبث والتخريب بشكل متدرّج، إلى أن جاء من قرّر إزالته بالكامل في عملية هدم موثّقة، جرت وسط صمتٍ رسميّ لافت وتكتمٍ شديد حول الموضوع من المالكين، بينما تجاهلت بلديّة كفررمان ما جرى في وضح النهار.
بحسب روايات أبناء البلدة، كان “الحبس” يضمّ غرفًا مقبّبة وقناطر، وحتّى صخورًا ضخمة بدأت تختفي واحدة تلو الأخرى. ومع الوقت، ومع غياب أيّ رقابة فاعلة، تسارعت أعمال الهدم، وبلغت ذروتها قبل نحو عام. في حينه، وثّقت “مناطق نت” بالڤيديو حجم الكارثة، وأشارت بوضوح إلى تورّط نائب رئيس البلديّة السابق محمّد سلامة، الذي يقطن على بُعد أمتار قليلة من الموقع نفسه.
الصحافي كامل جابر، الذي زار المكان قبيل عمليّة الهدم، تحدّث عن وجود دلائل أثريّة غير قابلة للشكّ، من بينها سقف مقوّس تحت الأرض يوحي بوجود غرف أشبه بالزنزانات أو الأقبية. إحدى الروايات المحلّيّة تؤكّد أيضًا أنّه تمّ إخراج بعض اللقى الأثريّة من الموقع وبيعها قبل المباشرة بالهدم.
جرّافات ضخمة أطاحت بالمعلم
يلفت جابر إلى أنّ جرّافات ضخمة دخلت إلى الموقع قبيل توسّع رقعة الحرب في الجنوب، واستمرّت أعمالها أكثر من أسبوع، جُرفت خلالها الجدران ونُقلت الصخور الضخمة إلى مكان آخر. واحدة من تلك الصخور أو الحجارة أثارت انتباهه، “لكبر حجمها إذ إنّها كانت بطول خمسة أمتار، وعرض 70 سنتيمتراً، وسماكة نصف متر، وهي الأخرى اختفت وكأنّها لم تكن”.
حديقة منزل نائب رئيس البلديّة السابق سلامة، مزيّنة بعدد من الحجارة الأثريّة التي استخرجت من موقع الحبس ونقلت إلى دارة سلامة
وبحسب جابر كانت لا تزال هناك، قبل الهدم، أجزاء من الجدار الأساسي على شكل زاوية عالية وصخور ضخمة يبلغ ارتفاع بعض حجارتها مترًا تقريبًا وعرض بعضها أكثر من متر. لكن سبق الحفر بعد ظهور بناية مجاورة أن الموقع تحوّل تدريجًا إلى مكبّ للردميّات، واختفت معه بقايا المعالم المتبقّية.
ويؤكّد شهود عيّان أنّ حديقة منزل نائب رئيس البلديّة السابق سلامة، مزيّنة بعدد من الحجارة الأثريّة التي استخرجت من الموقع ونقلت إلى دارة سلامة.
ماذا يقول مالك العقار؟
في المقابل، عند التواصل مع المالك الحالي للعقار حسين فقيه، أنكر أيّ علاقة له بأعمال الهدم أو الاستثمار بالآثارات، وقال: “اشتريت الأرض وكانت مهدومة. أمّا الإفادة العقاريّة فلا تُشير إلى أنّها مصنّفة كموقع أثريّ، ومع ذلك زرت وزارة الثقافة وأكّدوا عدم علاقتهم بالمكان”. مشيرًا إلى أنّ “الحجارة الضخمة التي كانت في الموقع يجب الرجوع بشأنها إلى المالكين السابقين”.
ما جرى في “الحبس” يعيد فتح النقاش القديم الجديد: من المسؤول عن حماية هذه المواقع؟ من يوثّقها قبل أن تُمّحى؟ ومن يقرّر قيمتها قبل أن تُباع حجارتها كبضاعة تزيينيّة؟ في بلد تتعرّض فيه الذاكرة الجماعيّة يومًا بعد يوم للتآكل. وإذا كانت بعض الدوائر المتخصّصة أو العقاريّة أو البلديّة لم تقم بتصنيف هذه المواقع، فهل يحقّ لمن يجد مغارة قديمة أو موقعًا أثريًّا في أملاكه تدميرها لأنّ الإفادة العقاريّة لم تلحظ ذلك؟.
مواقع أثريّة غدت ركامًا
في طليعة المواقع المتضرّرة، برزت قلعة تبنين، إحدى أهمّ القلاع التاريخيّة في جنوب لبنان، والتي تعود أصولها إلى العصر البرونزيّ. وعلى رغم إعلان الأمم المتّحدة في الـ 18 من تشرين الثاني 2024 ضمّها إلى قائمة المواقع المحميّة دوليًّا، لم تسلم القلعة من القصف، إذ انهار جزء من سورها الشرقيّ خلال الهجمات في خريف العام ذاته. كذلك، استهدفت الغارات الإسرائيليّة كنيسة القدّيس جورج في بلدة ديردغيّا (صور)، وهي كنيسة يونانيّة كاثوليكيّة من القرن التاسع عشر.
أمّا مدينة النبطية، فشهدت تدميرًا كاملًا لجزء من مركزها التجاريّ التاريخيّ، حيث سُوّيت سوق النبطية القديمة بالأرض، إلى جانب دارة آل شاهين، إحدى أقدم المنازل التقليديّة العثمانيّة المتطوّرة في المنطقة، ضمن هجمات تشرين الأوّل 2024 التي استهدفت المدينة.
شمع ذاكرة حجر وتاريخ لا ينسى
من بين المواقع الأثريّة المهمّة التي تعرّضت للدمار في الجنوب خلال الحرب، تبرز قلعة شمع التاريخيّة، إذ يقول المؤرّخ علي جابر إنّ “البلدة تاريخيًّا، كانت تتكوّن من بلدتين. الأولى كانت تقع داخل أسوار القلعة الصليبيّة، وتتألّف من ثلاثة أقسام: دار النبي، دار الشيخ، وبلدة شمع القديمة المعروفة بـ “دار الحاج عبّاس”، ويُقدّر عمر هذه الأخيرة بنحو 700 عام. تعرّضت لأضرار جسيمة خلال حرب العام 2006، واليوم لم يبقَ منها حائط واحد.”
ويتابع جابر: “أمّا البلدة الثانية، فكانت خارج الأسوار، ويُرجّح أن بناءها بدأ العام 1930. كانت تضم نحو عشرين بيتًا، تهدّم عديد منها خلال حرب الـ 2006، ثم أُعيد بناؤها بعد ذلك. غير أنّ الحرب الأخيرة دمّرتها مجدّدًا، ولم يتبقَّ منها سوى ثلاثة منازل فقط.”
ويضيف: “مقام شمعون الصفا، الذي يعود إلى القرن الحادي عشر، تعرّض إلى قصف جوّي عنيف خلال الـ 15 من تشرين الثاني 2024، تلاه تفجير جزء منه بعد أن سيطر عليه الإسرائيليّون، ما ألحق أضرارًا جسيمة بالهيكل الخارجيّ والمقبرة المجاورة.

ويوضح جابر: “على رغم كلّ ما لحق بالمقام من دمار، لا تزال غرفة النبي والغرفة المجاورة لها قائمتين، وإن كان سقفهما قد تضّرر. أمّا غرفة أمّ النبي فهي مهدّدة بالانهيار في حال تساقطت الأمطار، فيما هُدمت غرفة الجامع كلّيًّا، وكانت قبّتها تعدّ الأجمل في المقام. كذلك، دُمّرت المعصرة التاريخيّة التي كانت تحتها بالكامل، والأمر نفسه ينطبق على غرفة ‘المنزول’ التي بناها الشيخ حسين خاتون العام 1100 هجريّ، وغرفة ‘الديوان’ التي يعود تاريخها إلى العام 1307 هجريًّا، حيث سوّيتا بالأرض تمامًا.”
ويختم جابر حديثه بالقول: “أمّا القلعة الصليبيّة، التي تهدّمت أجزاء كبيرة منها خلال حرب الـ 2006، فقد أعادت مديريّة الآثار ترميم بعض أجزائها، مثل برج المشنقة والقبو الأكبر. غير أنّ الهجوم الأخير دمّرها بشكل شبه كامل، حتّى لم يبقَ منها، بحسب تقديري، أكثر من خمسة في المئة”.
صور وجاراتها
من جهته عرض مدير المواقع الأثريّة في الجنوب الدكتور علي بدوي لواقع المعالم التراثيّة والتاريخيّة فقال: “إنّ كثيرًا من البيوت ذات العمارة التقليديّة أصيب بأضرار جسيمة في البلدات الحدوديّة، مثل الحارة القديمة في علما الشعب والتي تعود بيوتها إلى 400 عام، وأيضًا في منطقة صور حيث تضرّرت بعض الأبنية التراثيّة داخل الحارة القديمة أو الأبنية التي تعود إلى خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “تضرّر عدد من الكنائس في المنطقة، والتي تمثّل النسيج التاريخيّ لمعظم القرى والبلدات في قضاءي صور ومرجعيون ومعظم محافظة الجنوب، وخصوصًا القرى التي تمتدّ على طول الحدود مع فلسطين والتي دُمّرت بشكل كبير”.
بدوي: من الأمثلة على الأماكن الدينيّة التي أصيبت في هذه الحرب والتي نحاول العمل على إعادة تأهيلها، هي، مقام النبي شمع في شمع، وهو مشهور كمسجد ومزار
ويضيف بدوي: “سيتمّ تقسيم جدول الأولويّات بحسب أعمال التقويم الأوّليّ، وفي بعض الأماكن ستكون عمليّة الحفاظ والصيانة أو الحفاظ ووقف التدهور عمليّة أولويّة، ربّما قبل عمليّة إعادة البناء، ولا سيّما للأبنية التي لها قيمة تاريخيّة واجتماعيّة ودينيّة، وعادة عندما يتمّ ترميم أيّ مبنى، بغضّ النظر إن كان مسجدًا أو كنيسة، دائمًا يتمّ التنسيق مع السلطات الدينيّة الموجودة في هذه المنطقة، وهي صاحبة الشأن الرئيس”. ويشير إلى أنّ “هناك كثيرًا من القرى التي أصيبت مساجدها التاريخيّة، مثل بليدا وحولا وغيرها، وبعضها أزيلت”. ويرى أنّ “هذا الأمر بحاجة إلى تقييم ودراسة حول ما يمكن بناؤه أو كيف يمكن بناؤه”.
مسوحات تفصيليّة
وتوازيًا، اعتبر بدويّ أنّ “التوسّع العمرانيّ هو أحد المشاكل التي يعاني منها التراث الثقافي”، منوّها إلى أنّه “لا يمكن وقف التقدّم ولا يمكن وقف المستقبل، لكن هناك معايير قانونيّة وفنّيّة، فحيثما توجد معالم تراثيّة يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار والتفاهم مع البناة والمطوّرين على أساسها، وينطبق الأمر على كثير من العقارات الخاصّة والعامّة في منطقة صور ومحيطها وأيضًا في منطقة النبطية”.
ويقول: “بدأنا مرحلة المسوحات التفصيليّة أو الدقيقة، وفي بعض المناطق بدأت فرق متخصّصة بإنجازها وإعداد تقارير حولها، ولا نستطيع العمل في مناطق أخرى بسبب الوضع الأمنيّ وعدم إمكانيّة الوصول إلى هذه القرى والبلدات. من الأمثلة على الأماكن الدينيّة التي أصيبت في هذه الحرب والتي نحاول العمل على إعادة تأهيلها، هي، مقام النبي شمع في شمع، وهو مشهور كمسجد ومزار، وكذلك كنيسة ديردغيّا في صور التي تعرّضت إلى دمار جزئيّ”.
استجابة دوليّة متأخّرة
خلال فترة الحرب، أعلنت اليونسكو عن تعزيز الحماية لـ 34 موقعًا ثقافيًّا في لبنان، شملت قلعة شمع ومعابد في البقاع مثل حصن نيحا، غير أنّ عديدًا من المشاريع المرتبطة بالترميم والتوثيق لم يُفعّل فعليًّا إلّا بعد توقّف العمليّات العسكريّة، ما حدّ من فعاليّة التدخّل المبكر.
وتشير تقارير دوليّة إلى بطء في الاستجابة الميدانيّة، مع وجود فجوة بين تصنيف المواقع كـ “محميّة دوليًّا” وبين القدرة على حمايتها فعليًّا خلال النزاع.
الذاكرة ليست هدفًا عسكريًّا… لكنّها الضحيّة الأولى. تُظهر أحداث عاميّ 2023- 2024 في جنوب لبنان أنّ التراث الثقافيّ، وإن لم يكن هدفًا مباشرًا، يبقى من أبرز ضحايا الحروب المعاصرة. دمار المواقع الأثريّة والدينيّة لا يمحو الحجر وحسب، بل يطمس السرديّة التاريخيّة ويهدّد الهويّة الثقافيّة للشعوب.
وبينما تبدأ منظّمات دوليّة ومحلّيّة بالتحرّك لتوثيق الخسائر وترميم ما يمكن ترميمه، تبقى الحاجة قائمة لآليّة حماية أكثر فاعليّة خلال النزاعات، تحصّن الذاكرة من أن تكون وقودًا إضافيًّا في الصراعات.