محميّات شواطئ الجنوب.. بقعة ضوء في عتمة التلوّث والفوضى البحريّة
تفرض مكبّات النفايات العشوائيّة، وحرق إطارات السيارت، وتدفّق مياه المجاري إلى نهر الليطاني وغيرها من الملوّثات، نفسها على مناطق الجنوب بأسره، ملحقة أضراراً آنيّة ومستقبليّة في صحّة أبناء المنطقة وبيئتهم. في ذروة هذه العتمة، يستنفر المجتمع المحلّي، على وجه التحديد، لكي يضيء بعضاً من النور والمسؤوليّة المجتمعيّة، للحفاظ على ما تبقّى من ثروات طبيعيّة، من خلال الضغط لإقرار قوانين ومراسيم تهدف إلى إنشاء المزيد من المحميّات الطبيعيّة البحريّة والبرّيّة، لحماية التنوّع الأيكولوجيّ والبيولوجيّ، على امتداد مناطق الجنوب، لا سيّما الشاطئيّة- الحيوانية منها، والحرجيّة والنباتيّة.
دخلت ثقافة المحميّات إلى الجنوب، في أواخر تسعينيّات القرن الماضي، مستهلّة بمحميّة شاطئ صور الطبيعيّة، الممتدّة برًّا وبحراً، على مساحة تتعدّى ثلاثة ملايين متر مربّع، ثمّ تنامت إلى إقرار قانون إنشاء محميّة شاطئ العبّاسيّة- البقبوق، شمال صور، والعمل على إنشاء محميّة طبيعيّة في الناقورة، وكذلك مشروع إنشاء محميّة طبيعيّة في وادي زبقين، المكسوّ بأشجار البُطم المعمّرة، إلى جانب (حمى المنصوري) المخصّص لأعشاش السلاحف البحريّة، وغيرها من مشاريع المحميّات التي تناضل في سبيلها جمعيّات بيئيّة، في طليعتها جمعيّة “الجنوبيّون الخضر”، بغية إيقاف كلّ أشكال الفوضى، التي تطال بقعاً واسعة، تحمل مواصفات طبيعيّة مميّزة وآثاراً مختلفة.
محميّة شاطئ صور
يُعتبر شاطئ مدينة صور، التي تبعد ثمانين كيلومتراً عن العاصمة بيروت، آخر شاطئ رمليّ متبقٍّ في لبنان. وكانت منظمة الأمم المتحدة قد أعلنته موقعًا تراثيًّا سنة 1984، ثمّ أُعلن محميّة طبيعيّة بموجب القانون رقم 708 سنة 1998.
تقع محميّة شاطئ صور الطبيعيّة جنوب مدينة صور، تبدأ من قرب إستراحة صور وحتى برك مياه رأس العين الطبيعيّة، مخترقة مخيّم الرشيديّة للّاجئين الفلسطينيّين. كما تمتدّ إلى مساحات واسعة في عمق البحر جنوب الخيم البحريّة، التي تعتبر جزءاً من مكوّن محميّة صور الطبيعيّة.
تتميّز هذه المحميّة، بتنوّع نظمها البيئيّة والبحريّة والبرّيّة، إضافةً إلى كونها ملجأً للطيور المهاجرة والسلاحف البحريّة المهدّدة بالإنقراض. تبلغ مساحة الأراضي التي تؤلّف محميّة شاطئ صور الطبيعيّة 380 هكتاراً، وهي مقسّمة إلى ثلاثة أقسام: قسم السياحة والترفيه، قسم الزراعة والآثار، وقسم الحماية، حيث تحتوي المحميّة على ينابيع مياه حلوة تصبّ مباشرة في البحر، وتُكوّن منطقة مميّزة تتواجد فيها بيئة نباتيّة ومائيّة خاصّة.
لتحقيق الحماية والتنمية المستدامة
يشدّد مدير المحميّة الدكتور علي بدر الدين، على تحقيق الحماية والتنمية المستدامة في المحميّة، حيث يتواجد فيها نحو مئتين وخمسة وسبعين نوعًا من النباتات، تتوزّع على أكثر من خمسين عائلة، ستّة أنواع منها مهدّدة على الصعيد الوطنيّ والإقليميّ، أربعة منها متفرّدة، وعشرة نادرة، وخمسون نوعاً خاصّاً بمنطقة شرق البحر المتوسط. كما تضمّ المحميّة الطبيعيّة هذه، نوعين من الخفافيش المهدّدة بالانقراض إقليميًّا وعالميًّا، وهما: الخفّاش الصغير والخفاش الكوهلي.
ويضيف بدر الدين: “يعشش في حوض البحر المتوسّط نوعان من السلاحف البحريّة، التي تمّ تسجيلها في المحميّة. وهما: السلحفاة البحريّة الخضراء، والسلحفاة البحريّة الضخمة الرأس. فالسلحفاة البحريّة الخضراء Chelonia Mydas تضع بيضها ابتداءً من شهر أيّار ولغاية شهر تمّوز، ويبلغ طول السلاحف البحريّة الكبيرة منها بين 90 و100 سنتيمتر ويتراوح وزنها بين 113 و182 كيلوغراماً، حيث تمّ إدراج السلحفاة الخضراء على “القائمة الحمراء للاتّحاد الدوليّ لحماية الطبيعة” في سنة 1990″.
يتابع بدرالدين: “أمّا السلحفاة البحريّة الضخمة الرأس فتتمّ مشاهدتها في أوائل شهر آب، حيث تبدأ عمليّة التفقيس بعد 50 إلى 60 يوماً من وضع البيض. ويبلغ مقاس السلحفاة البحريّة الضخمة الرأس بين 90 و114 سنتيمتراً ووزنها ما بين 113 و182 كيلوغراماً. يعتبر هذا النوع من آكلي اللحوم، وتتميّز بفكّها القويّ، فهي تتغذى على الحيوانات الصدفيّة، السلطعون، شياطين البحر، الأسفنج وقناديل البحر. وقد عُرّف عنها كنوع معرّض للانقراض من قبل الإتحاد العالميّ لحماية الطبيعة”.
ويلفت بدر الّدين في حديث لـ “مناطق نت” إلى تعرّض السلاحف البحريّة في محميّة شاطئ صور الطبيعيّة “للعديد من المخاطر أهمّها: الإستهلاك البشريّ للسلاحف ومنتجاتها. تعرّضها للقتل غير المتعمّد من قبل شباك الصيادين. تدمير وتدهور الموئل”. مضيفاً: “إنّ التنوّع الحيويّ في محميّة شاطئ صور الطبيعيّة وموقعها في شرقيّ المتوسّط يجعلها ملجأً مثاليًّا للطيور، حيث أدرجت المحميّة على لائحة رمسار للأراضي الرطبة ذات الأهمّيّة الدوليّة بوصفها مألف للطيور المائيّة، حيث يمكن العثور على أنواع كثيرة من الطيور منها: الطائر الشادي، الطائر المخوِّض، طائر الطول، الجاثم، الطير الجارح، صيّاد السمك، النورس، الخرشنة وغيرها من الطيور المائية”.
وحول المخاطر على محميّة شاطئ صور يشير بدر الدين إلى “وجود مخاطر عديدة، منها: حركة الأحصنة والسيّارات على شاطئ المحميّة. المواطنون الوافدون الذين يرمون عبوات البلاستيك. والصيد بالديناميت. والكائنات الغازية، التي تأتي من قناة السويس على بعد 400 كيلومتر من شواطئنا، وقدوم سمكة النفّيخة من البحر الأحمر، فكلّها تؤثّر في الكائنات ومنها الأسماك والسلاحف البحريّة”. مشدّداً في المقابل على أهمّيّة وجود المحميّة، لناحية إفادة الطلّاب الجامعيّين والتلامذة، وتأمين فرص عمل لأكثر من 250 عائلة لبنانيّة وغير لبنانية.
مخاطر عديدة تتعرّض لها محمية شاطئ صور منها: حركة الأحصنة والسيّارات على شاطئ المحميّة، المواطنون الوافدون الذين يرمون عبوات البلاستيك، والصيد بالديناميت
وفي ما يتعلّق بنفوق عدد من الحيتان أخيراً، يلفت بدر الدين إلى أنّ “محميّة شاطئ صور تتابع هذا الوضع على الدوام، سواء نفوق السلاحف أو الحيتان أو الدلافين. وما شهدناه في خلال الأسبوعين الماضيين من نفوق حوتين ضخمين من نوع عنبر، في كلٍّ من الخرايب والقْلَيلة، لم نعرف أسبابه الرئيسيّة بعد، لأنّ الحوتين كانا متحلّلين، ولكن في الغالب الحيتان تتعرّض لصدم السفن، بسبب بطء سرعتها، ما يؤدّي إلى نفوقها. أو بسبب وقوعها في شرك الصيّادين، أو نتيجة التلوّث الصناعيّ الموجود في البحر، وأيضاً الضجيج، كحركة البواخر والتدريبات العسكريّة وفقدان المراعي”.
محميّة شاطئ العباسية
بعد متابعة حثيثة من بلديّة العباسيّة وجمعيّة “الجنوبّيون الخضر”، تمّ إنشاء محميّة شاطئ العباسيّة- البقبوق في العام 2020، باعتبارها إمتداداً لمحميّة شاطئ صور، وتحمل العناصر البيئيّة نفسها والأنواع النباتيّة ذاتها، وبالتالي هي موقع غنيّ بالتنوّع البيولوجيّ وذو أهمّيّة إيكولوجيّة عالية، ستساهم في حماية الـموارد الطبيعيّة البحريّة والساحليّة من مخاطر التلوّث على أشكاله، وحماية التوازنات البيئيّة والـمواقع الرطبة وأنظمتها الأيكولوجيّة.
سيحافظ موقع المحمية أيضاً على الـمناظر الطبيعيّة، وعلى الأنواع النباتيّة والحيوانيّة، لا سيّما الكائنات الـمهدّدة بالإنقراض أو النادرة أو الـمتفرّدة، وعلى موائلها، وعلى التوازنات البيولوجيّة والأنظمة البيئيّة، وعلى التنوّع البيولوجيّ في مواجهة كلّ أسباب التدهور والتلوّث ومخاطر الزوال، وتعزيز الاستعمال الـمستدام للـموارد الطبيعيّة في سبيل البحث العلـميّ والسياحة البيئيّة الـمنظّمة. كما سيساهم في تنفيذ التزامات لبنان تجاه الإتفاقيّات الدوليّة الـمصدّقة من قبله، وخصوصاً اتفاقيّة برشلونة والبروتوكولات الـملحقة بهذه الإتفاقيّة واتفاقية التنوّع البيولوجيّ.
إستراتيجيّة متكاملة لحماية الحياة البرّيّة
يؤكّد الناشط البيئيّ الدكتور هشام يونس، رئيس جمعيّة “الجنوبيّون الخضر”، “أن إقامة المحميّات الطبيعيّة يشكّل جزءاً من إستراتيجيّة متكاملة لحماية الحياة البرّيّة، والنظم البيئيّة المختلفة، وتنوّعها البيولوجيّ، وإعطائها الفرصة لإستعادة حيويّتها التي ترفد سبل استدامة المجتمعات المحلّيّة، ومن دونها لا نرى أيّ إمكانيّة لتحقيق الإستدامة لتلك المجتمعات، فلا يمكن أن تستطيع تعزيز أيّ قطاع منتج من دون بيئة حيويّة سليمة صحّيّة”. مضيفاً: “خذ على سبيل المثال الزراعة أو الصناعات الحرفيّة في الأرياف، هل لك أن تتصوّر قطاعاً منتجاً من دون حماية البيئة التي توفر لك، إلى المواد، جودة التربة وجودة المياه وكذلك الهواء، وهي أمور تمسّ صحّة ورفاهيّة الإنسان وتعزيز بقائه وصموده في أرضه؟”.
ويقول يونس لـ”مناطق نت”: “إن هذا التوجّه لدى الجمعيّة يستند إلى مبدأ مؤسّس للجمعيّة” أي حفظ وإستعادة الحياة البرّيّة”rewinding وهو يتعلّق كذلك بحماية مواقع الإرث الطبيعيّ والثقافيّ في الجنوب وفي لبنان، وهذا هو توجّهنا في حماية جميع المواقع الطبيعيّة ذات الخصوصيّة”.
من هنا يتابع يونس “جاءت ضرورة حماية الخطّ الساحليّ من الصرفند وعدلون، بإعتبار تلّ الصرفند مدرجاً ضمن المواقع الأثريّة، وصولاً إلى الناقورة، حيث الشواطئ الرمليّة والصخريّة التي توفر موائل غنيّة جدّاً للتنوّع البيولوجيّ ولأنواع عديدة، بعضها مهدّد بخطر الإنقراض، مثل السلاحف البحريّة وأنواع من القرش وأسماك الراي اللّاسع وغيرها، وكذلك النباتات التي تنبت على تلك الشواطئ، وبعضها أصبح نادراً على الساحل اللبنانيّ، مثل النرجس الرمليّ، وهو متواجد على امتداد هذه الشواطئ الرمليّة وبشكل متميّز على شاطئ البقبوق الذي صنّف محميّة في سنة 2020 بناء على إقتراح الجمعيّة، بعد إعداد ملفّ متكامل بالتعاون مع بلديّة العبّاسيّة”.
ويشير يونس إلى “أنّ الساحل لا يعني فقط الشاطئ، بل أيضاً السهول الساحليّة التي هي عرضة للتآكل نتيجة المدّ الحضريّ العشوائيّ، وتعديلات في التصنيف العقاريّ، الذي يشهد تدخّلاً سياسيّاً لصالح بعض المحظيّين، لتمرير مشاريع تجاريّة فرديّة على حساب تنمية حقيقيّة للساحل، وتعريض قطاع الزراعة والمزارعين للمخاطر”.
السهول الساحليّة هي أيضاً هي عرضة للتآكل نتيجة المدّ الحضريّ العشوائيّ، وتعديلات في التصنيف العقاريّ، الذي يشهد تدخّلاً سياسيّاً لصالح بعض المحظيّين، لتمرير مشاريع تجاريّة فرديّة على حساب تنمية حقيقيّة للساحل، وتعريض قطاع الزراعة والمزارعين للمخاطر
ويتابع يونس: “ومن الساحل إلى الداخل، ينبغي حماية المناطق الحرجيّة وبالأخصّ تلك التي تتمتّع بنظام غابة قديمة، كغابات السنديان والبطم في منطقة صور، كما هو الحال في أحراج منطقة صور، امتداداً إلى بنت جبيل ومناطق محرونة والناقورة وعلما الشعب ورميش ومروحين ويارين وعيتا الشعب، إلى أحراج جبل الريحان والجبل الرفيع وصافي ومنطقة جزّين والمحيط الحيويّ لجبل حرمون بالكامل”.
شراكة محلّيّة من أجل التنمية البحريّة والساحليّة
بمبادرة فرديّة، أطلقت منى الخليل، من محيط عقار تابع لها، مشروع الإهتمام بشاطئ المنصوري وبالسلاحف البحريّة، قبل أكثر من عشرين عاماً، فعملت طوال هذه الفترة لتعميم هذا المشروع وترسيخه في عقول الجنوبيّين خصوصاً، واللبنانيّين عموماً، وأطلقت عليه اسم مشروع “البيت البرتقاليّ”، إلى أن تمكّنت بالتنسيق مع بلديّة المنصوري آنذاك بإعلان الشاطئ “حمى طبيعيّة” وكانت “حمى المنصوري” جنوب صور، مكرّسة بذلك واقعاً جديداً، لناحية الاهتمام بأعشاش السلاحف البحريّة، وثمّ أطلاقها نحو البحر في أوقات محدّدة من كلّ عام.
وبعد جائحة كورونا ولأسباب خاصّة، توقّفت الخليل، التي بذلت من مالها الخاص عن متابعة المشروع. وقد تُرك الشاطئ لعامين متتاليين من دون الإهتمام به ومن دون رعاية لأعشاش السلاحف. وعلى أثر ذلك اندفعت الناشطة البيئيّة فاديا جمعة، التي تطوّعت لسنوات مع الخليل، وتلقّت تدريبات على حماية أعشاش السلاحف ومعالجتها في جنوب إيطاليا، للإهتمام بها.
وتشدد الناشطة جمعة على “أهمّيّة الإستمرار بمشروع الحفاظ على حمى المنصوري الذي بدأته الخليل بكامل تنوّعه البيولوجيّ، حفاظاً على ثروة السلاحف البحريّة في المنطقة، وهي نوعان: السلحفاة الخضراء التي تتعرّض للإنقراض والسلحفاة ذات الرأس الضخم”.
وتضيف جمعة لـ”مناطق نت”: “لقد أخذت على عاتقي مواصلة هذه المسيرة، فتواصلت مع بلديّة صور بشخص رئيسها المهندس حسن دبوق، وقد أبدى تعاوناً لجهة دعم المشروع، واستطاع دمج شاطئ المنصوري ضمن مشروعBLUETYRE وهو شراكة محلّيّة من أجل التنمية البحريّة والساحليّة المستدامة بين بلديّة تريكازي الإيطاليّة وبلدية صور اللبنانيّة، وهو مموّل من الوكالة الايطاليّة للتنمية والتعاون”.
شكّلت جمعة فريقاً للبدء بالعمل على رعاية الأعشاش، ورفع النفايات، بالتعاون مع كشافة الرسالة- فوج المنصوري- وعدد من المهتمّين والمتطوّعين.
تقول: “ننفّذ حملات توعويّة وتدريبيّة حول حياة السلاحف، واحتفالات بإطلاق صغار السلاحف إلى البحر”. مؤكّدة “ضرورة التشدّد في تطبيق القانون، لجهة وقف أعمال الصيد بالدينامت في هذه المنطقة، تفادياً لإلحاق الضرر بالسلاحف، وبمختلف الأحياء البحريّة، في ظلّ استمرار هذه الانتهاكات في المنطقة”.