محميّة العبّاسيّة رئة بيئيّة مهدّدة بالتلوث وزحف الإسمنت

في وقت يضيق فيه الساحل اللبنانيّ بالمشاريع العمرانيّة والمنتجعات السياحيّة، يظلّ شاطئ العبّاسيّة (البقبوق) في قضاء صور مساحة طبيعيّة نادرة تنبض بالتنوّع البيئيّ، غير أنّ هذه البقعة المميّزة تواجه اليوم تحدّيات متزايدة، أخطرها التلوّث، والزحف العمرانيّ، والمشاريع غير المنظّمة، ما يضعها على خطّ الخطر، وسط تحرّكات بيئيّة ومجتمعيّة متواصلة لحمايتها والحفاظ على قيمتها الطبيعيّة والإنسانيّة.

وسط هذه التحدّيات، أطلقت جمعيّة “الجنوبيّون الخضر” أكثر من صرخة للحفاظ على شاطئ العبّاسيّة وحمايته في سياق توجّه عام يرمي إلى وقف التعدّيات والانتهاكات التي تتعرّض لها الشواطىء اللبنانيّة بوجه عام واستعادتها من براثن الفوضى والإهمال والتعدّيات، وصولًا إلى إعلان الشاطىء محميّة طبيعيّة.

هشام يونس (الجنوبيون الخضر)

من جهته يشير رئيس جمعيّة “الجنوبيّون الخضر” هشام يونس إلى أنّ “تحقيق محميّة شاطئ العبّاسيّة (البقبوق) الطبيعيّة، الذي قدّمت مقترحه والدراسات المتعلّقة به الجمعيّة مع بلديّة العبّاسيّة، يُعدّ إنجازًا نوعيًّا في إطار رؤيتنا لحماية الشاطئ اللبنانيّ والموائل الساحليّة، التي تُعتبر من أكثر النظم البيئيّة تعرّضًا للضغوط الناتجة عن تركّز الأنشطة البشريّة والصناعيّة والزراعيّة والاقتصاديّة، بالإضافة إلى الزحف العمرانيّ الذي التهم مساحات شاسعة من الشاطئ. إلى ما صاحبها من مستويات تلوّث مرتفعة ألحقت أضرارًا جسيمة بالنظام البيئيّ البحريّ، فضلًا عن التحدّيات المستجدّة مثل انتشار الأنواع الغازيّة والتأثيرات المتزايدة لتغيّر المناخ في التنوّع البيولوجيّ البحريّ”.

تعديّات وانتهاكات تطال شاطئ العباسيّة رغم البلاغات المستمرة

ويتابع يونس لـ “مناطق نت”: “تُشكّل محميّة شاطئ العبّاسيّة التي تبلغ مساحتها نحو 2.94 كيلومتر، خطوة متقدّمة نحو حماية الموائل الساحليّة الجنوبيّة، لا سيّما وأنّها تتمتّع بعديد من المزايا، من بينها التنوّع النباتيّ والحيوانيّ وغطاء حرجيّ شاطئيّ بات نادرًا على الساحل اللبنانيّ، وهو يعكس الخدمات البيئيّة التي توفرها للمحيط”.

ويرى يونس أنّ “حماية وتعزيز المحميّة يتطلّب تطبيق خطّة الإدارة المتكاملة للمحميّة”، لافتًا إلى أنّ “الجمعيّة ساهمت في هذه الخطّة بالتعاون مع وزارة البيئة، في إطار مشروع مدعوم من برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ (UNDP). وهو ما يسمح بالتعامل مع التحدّيات المختلفة، ولعلّ أهمّها ما يواجه الساحل الجنوبيّ عمومًا، والذي يشهد منذ أكثر من عقدين تحوّلًا تدريجيًّا وخطيرًا في تصنيف السهول الساحليّة من أراضٍ زراعيّة إلى وجهات عقاريّة وسياحيّة، غالبًا دون أيّ مرجعيّة تخطيطيّة مستدامة، ما يهدّد المجتمعات الزراعيّة الساحليّة، والنشاط الحِرفيّ المرتبط بها، إضافة إلى البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة لهذه المجتمعات”.

زحف عمرانيّ وتعدّيات تهدّد الشاطئ

وأضاف يونس: “لا بدّ من التنويه إلى التهديد الذي يمثّله الزحف العمرانيّ العشوائيّ والتعدّيات الواقعة على الشاطئ والأملاك العامّة البحريّة، حيث التهمت مساحات واسعة من الشاطئ، وما صاحبها من ارتفاع مستويات التلوّث ألحقت أضرارًا جسيمة بالنظام البيئيّ البحريّ، وهو ما يحمل تداعيات مباشرة على استدامة المجتمعات البحريّة الساحليّة ويعرّض حرفها للخطر وبالأخصّ الصيد البحريّ، هذا فضلًا عن التحدّيات الأخرى مثل انتشار الأنواع الغازيّة والتأثيرات المتزايدة لتغيّر المناخ على التنوّع البيولوجيّ البحريّ وسلوك الأنواع”.

يونس: خطورة الوضع تتفاقم مع استمرار قضم الأراضي الزراعيّة المحيطة بالمحميّة والتي تشكّل جزءًا من السهول الساحليّة الخصيبة

مخاطر غير قانونيّة على المحميّة

وأردف يونس “هناك مخاوف على مستوى شاطئ العبّاسيّة تحديدًا، من مشاريع تجاريّة غير مستوفية للشروط القانونيّة والبيئيّة، والتي ربّما تُلحق ضررًا مباشرًا بالمحميّة. وقد سبق للجمعيّة أن أبلغت وزارة البيئة بوجود مشروع في المنطقة الحزاميّة للمحميّة تمّ الشروع فيه دون إجراء دراسة تقييم الأثر البيئيّ أو الحصول على الموافقات اللازمة. وعلى إثر هذه الإخبارات، تدخّل وزير البيئة السابق ناصر ياسين مرّتين بالتوجيه لوقف الأعمال، وقد لاحظنا، على رغم ذلك، استحداث جدران ضمن موقع المشروع، والمجلس البلديّ بحسب علمي يتابع هذه المسألة”.

أنشطة بشريّة وملوّثات بيئيّة

وقال: “بالإضافة إلى الأنشطة البشريّة الأخرى التي تُهدّد النظام البيئيّ، مثل الملوّثات التي تلقي بها معامل الحجارة القريبة في مجرى نهر أبو زبلة وهو مجرى يصبّ في البحر ضمن المحميّة، إدخال السيّارات والعربات والخيول إلى المنطقة خلال موسم تعشيش السلاحف البحريّة، إلى جانب التلوّث الناتج عن بعض الزوّار”.

ويضيف “من هنا، فإنّ تفعيل خطّة الإدارة بشكل كامل، وتوفير الإمكانيّات الفنّيّة والبشريّة لتنفيذها، إلى جانب تشديد الرقابة ومنع التعدّيات، من شأنه أن يعزّز مكانة محميّة العبّاسيّة بوصفها توأمًا بيئيًّا لمحميّة شاطئ صور، بخاصة في غطائها الحرجيّ والذي يجب تأكيد حمايته من الأنواع النباتيّة الغازية والحفاظ عليه كمكوّن أساسيّ في المنظومة الساحليّة. كذلك فإنّ تعزيز حماية هذا الموقع سيسهم في ضمان استمراريّة تعشيش السلاحف البحريّة، ويعزّز من مرونة واستدامة النظام البيئيّ البحريّ المحلّيّ”.

محمية العباسية تنوّع طبيعي وبيئي مميّز
السهل في خطر

ويشير يونس إلى “أنّ خطورة الوضع تتفاقم مع استمرار قضم الأراضي الزراعيّة المحيطة بالمحميّة والتي تشكّل جزءًا من السهول الساحليّة الخصيبة المعروفة تاريخيًّا من صيدا والغازية وحتّى المنصوري. والتي شهدت تراجعًا خطيرًا في العقدين الأخيرين بفعل تعديل تصنيفات مساحات واسعة من العقارات الزراعّية خلافًا للمخطّط التوجيهيّ والخطّة الشاملة لترتيب الأراضي، وشاركت فيها بلديّات وبغطاء من القوى السياسيّة، رفعت إلى المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ”.

ونتيجة لذلك، يتابع يونس “تمّ تشريع الإنفلاش الإسمنتيّ على حساب مناطق شاسعة من سهول صور والعبّاسيّة والعاقبيّة وعدلون والقليلة وصولًا إلى المنصوري، دون تقدير أو دراسة للتداعيات الخطيرة العميقة والبعيدة على البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمجتمعات الساحليّة، فضلًا عن آثار ذلك على النظم البيئيّة الساحليّة وعلى الأمن الغذائيّ والمائيّ المحلّيّ، وعلى استدامة الموارد المائيّة، وعلى صحّة المجتمعات ككلّ في المنطقة”.

مشاريع مدمّرة

ويلفت يونس أيضًا إلى أنّ “بعض الجهات المحلّيّة كانت قد أعربت أيضًا لـ (مناطق نت) عن مخاوفها من تمديدات صرف صحّيّ غير نظاميّة تُنفّذ منذ مطلع صيف 2025 على رغم تعطّل محطّة التكرير في المنطقة، مع محاولات لتغيير تصنيف بعض العقارات لرفع نسبة الاستثمار فيها إلى 60 في المئة، ما يهدّد بانهيار التوازن البيئيّ والاجتماعيّ المحلّيّ”.

يونس: تتفرّد المحميّة بوجود ينابيع مائيّة بحريّة حارّة، ما يعكس قيمتها الإيكولوجيّة العالية وخدماتها البيئيّة الواسعة

مزايا محميّة العبّاسيّة

تضمّ محميّة العبّاسيّة (البقبوق) والتي تتميّز بأنّها تشمل جزءًا من الشاطئ (برّي) وأيضًا جزءًا من المنطقة البحريّة، فهي محميّة ساحليّة- بحريّة، تنوّعًا نباتيًّا وحيوانيًّا هامًّا يعكس خصوصيّاتها هذه. فعلى مستوى الغطاء النباتيّ، تحتوي على كتلة حرجيّة شاطئيّة باتت نادرة على الساحل اللبنانيّ، إلى جانب نباتات وشجيرات تؤدّي دورًا محوريًّا في تثبيت الكثبان الرمليّة والحفاظ على بنيتها، مثل النرجس البحريّ (Pancratium maritimum)، والقصب البروڤنسي (Arundo spp.) وغيرها من أنواع الشجيرات الكثبانيّة المتوسطيّة الدائمة الخضرة التي تتميّز بقدرتها على التكيّف مع الظروف الساحليّة.

أمّا على الصعيد الحيوانيّ، فيحتضن الشاطئ أنواعًا حيوانيّة، من بينها القنفذ ذو الصدر الأبيض الجنوبيّ (Erinaceus concolor)، والثعلب الأحمر  (Vulpes vulpes)والفأر الشوكيّ العربيّ (Acomys dimidiatus)، فضلًا عن كونها محطّة استراحة نشطة للطيور المهاجرة.

كذلك تتفرّد المحميّة بوجود ينابيع مائيّة بحريّة حارّة، ما يعكس قيمتها الإيكولوجيّة العالية وخدماتها البيئيّة الواسعة التي من شأنها، مع توافر الإدارة السليمة لها، أن تعود بالفائدة على المحيط المباشر، على الأراضي الزراعيّة وأهالي المنطقة في العبّاسيّة وأبعد من العبّاسيّة.

معركة وجودية

تنقسم المحميّة إلى ثلاثة أقسام، المنطقة الأساسيّة أو Core or Conservation Area وهي التي تضمّ الكثبان الرمليّة ومناطق تعشيش السلاحف البحريّة والغطاء النباتيّ، وهي قلب المحميّة والتي من المفترض أن تخضع لشروط حماية مشدّدة؛ منطقة الإدارة أو الاستخدام المُستدام والتي تضمّ شاطئ العموم المفتوح للأنشطة المختلفة السياحيّة والتربويّة والبيئيّة المستدامة، مع تقيّد بشروط تضمن الحماية للمحميّة وخصائصها؛ والمنطقة الحزاميّة Buffer Zone التي تضمّ العقارات التي تحوط المحميّة وتهدف إلى حمايتها من مشاريع وأنشطة غير مستوفية الشروط التي حدّدتها القوانين المرعيّة الإجراء، والتي تضمن سلامة وديمومة المحميّة.

يواجه شاطئ العبّاسيّة اليوم معركة وجوديّة: فإمّا أن يصبح نموذجًا يحتذى في حماية البيئة الساحليّة وإدارتها بشكل مستدام، أو أن يقع ضحيّة الزحف العمرانيّ الإسمنتيّ والفوضى العمرانيّة وغياب تطبيق خطّته الاداريّة. لكن الرهان يبقى على بلديّة العبّاسيّة وإدارة المحميّة إلى جانب وعي المجتمع المحلّيّ، وتاليًا جدّيّة الدولة في فرض القوانين بما يحفظ هذه المحميّة كإرث بيئيّ وإنسانيّ للأجيال القادمة، وكسند طبيعيّ لصحّة البحر والإنسان معًا.

الزحف العمراني يقترب من محمية العباسية
التفايات تهدّد الأمن البيئي عند شاطئ العباسيّة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى