مخاوف وتساؤلات ترافق شاحنات ميس الجبل.. هل من عودة؟

أثار مشهد الشاحنات المحمّلة بالبضائع، وهي تغادر بلدة ميس الجبل الحدوديّة الأسبوع الماضي، تساؤلات كثيرة حول مسألة عودة النازحين إلى قراهم. كان يمكن أن يبدو الأمر عاديًّا لولا ردود فعل ذهب بعضها إلى قراءات سياسيّة وتحليلات عن أنّ العودة ربّما ستكون بعيدة. وأكّد بعضها الآخر خطورة المشهد، خصوصًا أنّ لميس الجبل رمزيّة مميّزة، إذ تُعدّ من كبريات بلدات الشريط الحدوديّ، مع ما تحمله من مكانة تجاريّة مهمّة من خلال سوقها التجاريّة الناشطة وما تمثّله من ثقل اقتصاديّ في محيطها.

فسوق “ميس” تضمّ عشرات المحال والمؤسّسات التجاريّة ومعارض المفروشات وأثاث المنازل، وتمثّل صدى شهرة أبنائها بتجارتهم في الأدوات المنزليّة والمفروشات والسجّاد وغيرها المنتشرة على مختلف الأراضي اللبنانيّة. نمت سوق ميس الجبل بشكل مضطرد بعد التحرير في العام 2000 واستقطبت إليها استثمارات كبيرة نقلها أبناء ميس ممّن كانوا قد وسّعوا أعمالهم في العاصمة والمناطق اللبنانيّة إلى بلدتهم فتحوّلت إلى وجهة تجاريّة مهمّة.

إنّ مشهد الشاحنات المغادرة ميس الجبل يستدعي أسئلة أخرى عن مزارعي الشريط الذين خسروا مواسمهم ومصادر رزقهم ولا يستطيعون نقلها إلى أيّ مكان آخر، وأيضًا عن صغار التجّار ممّن لا مستطاع عندهم لنقل بضائعهم؟

عاصمة الاقتصاد والملايين

قبل الإجابة على هذه التساؤلات، لا بدّ من الوقوف على أمور مهمّة، فثمة رأس مال لا يمكن الاستفادة منه على صعيد البلدة والمنطقة في ظلّ ظروف أمنيّة قائمة منذ 11 شهرًا متواصلة، بحسب ما أكّده تجار البلدة، خصوصًا وأن ميس الجبل تعتبر العاصمة الاقتصادية لقرى وبلدات الشريط الحدوديّ، وثمة حاجة لإعادة تشغيل رؤوس الأموال والبضائع المخزّنة، يضاف إلى ذلك أنّ ميس الجبل بلدة كبيرة وتعداد سكّانها يقدّر بنحو 35 ألف نسمة، وفيها أكثر من 30 معرضًا للمفروشات، فضلًا عن عن وجود مصانع وشركات كبيرة وصالات عرض السجّاد والأدوات المنزليّة التي تؤمِّن معايش عائلات كثيرة في المنطقة، وليس في البلدة فحسب.

شاحنات محمّلة بالبضائع وهي تغادر بلدة ميس الجبل الحدوديّة الأسبوع الماضي

ولأنّها تمثل سوقًا تجاريّة كبيرة، تضمّ ميس الجبل مئات المؤسّسات التجاريّة، وفيها كمّيّات كبيرة من البضائع والمستودعات الممتلئة بشتّى أنواع السلع، تقدّر قيمتها بملايين الدولارات. مع بداية الحرب حاول التجار إخراج كمّيّات من بضائعهم على مسؤوليّتهم الذاتيّة وعلى دفعات قليلة، لكنّ الأمر ظلّ محفوفًا بالمخاطر في ظل الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، ومن ثمّ عمد الجيش اللبنانيّ إلى تنظيم إخراج البضائع بمواكبة التجار وفق مواعيد محدّدة. ولا بدّ من أن نذكّر أيضًا أنّ تجّار السجّاد خصوصًا، منيوا السنة الماضية بخسائر كبيرة لعدم تمكّنهم من تسويق السجّاد وبيعه، والأمر ذاته طاول تجّار الأدوات المنزليّة وغيرها.

حفاظًا على أرزاقنا

“اليوم من حقنا كتجّار الحفاظ على أرزاقنا وتعب العمر” يقول أحمد قاروط (قاروط ليكس) أحد كبار تجّار الأدوات المنزليّة، ويوضح لـ”مناطق نت”: “في ظلّ هذا الوضع يجب ألّا نكون ملامين لاتّخاذنا هذه الخطوة، لأنّنا سعينا إلى الحفاظ على أرزاقنا، والرزق يعادل الروح”.

ويضيف: “إنّ مشهد قافلة الشاحنات ذهب به البعض إلى تحليلات خطيرة، لكن في الحقيقة، وبما أنّنا نحن تجّار ميس الجبل وأصحاب المشهد، نؤكّد أنّ ما تمّ نقله وتفريغه من ميس الجبل مجرّد أرزاق سنستثمرها في مكان آخر، أمّا قلوبنا وعقولنا ومبادئنا فثابتة، وننفي على الإطلاق أيّ شائعات، فالخطوة هي مرحليّة ومرتبطة فقط بالوضع القائم في ظلّ حرب فرضت علينا النزوح الموقّت وفتح فروع جديدة في بيروت”.

ويفتخر قاروط أنّه “من التجّار المؤسّسين والمساهمين في نهضة ميس الجبل التجاريّة والإنمائيّة منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وبما أنّ البضائع مخزّنة وتقّدر قيمتها بملايين الدولارات ارتأينا توظيفها، خصوصًا نحن تجّار الجملة لأنّ تجارتنا أبعد من ميس الجبل، وهناك ارتباط مع الزبائن لتأمين طلباتهم، فما من مانع من الاستثمار ممّـا لدينا”.

ولأنّها تمثل سوقًا تجاريّة كبيرة، تضمّ ميس الجبل مئات المؤسّسات التجاريّة، وفيها كمّيّات كبيرة من البضائع والمستودعات الممتلئة بشتّى أنواع السلع، تقدّر قيمتها بملايين الدولارات

ويختم قاروط: “يجب ألّا يؤخذ علينا في أنّنا تخلّينا عن بلدتنا، ولدينا كامل الثقة في العودة إلى ميس الجبل، فهي بالنسبة لي منبع الخير والبركة وسنعود إليها بعد انتهاء الحرب ونعيد إليها ثقلها التجاري”.

بضائع بمئة مليون دولار

“لميس الجبل ثقلها التجاريّ ليس في الجنوب فحسب، بل في لبنان ككلّ، وهي مقصد جميع تجّار المفروشات والسجّاد والأدوات المنزليّة من مختلف المناطق”، برأي رئيس بلديّة ميس الجبل عبد المنعم شقير لـ”مناطق نت”، ويلفت إلى أنّ “في البلدة 165 مؤسّسة تجاريّة، وإلى جانب المتاجر المتوسّطة والصغيرة يصبح عددها 350 وقيمة البضائع في هذه المؤسّسات تصل إلى حدود 100 مليون دولار أميركيّ”.

ويشير شقير إلى أنّ “هذه البضائع موسميّة وقد أدخلها أصحابها في شهر آب (أغسطس) العام 2023 ليتمّ بيعها خلال الموسم، لكن الحرب بدأت في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، فبقيت البضائع مخزّنة”، ويضيف: “عندما نتحدّث عن السجّاد خصوصًا لا بدّ من التذكير بأنّ الأصناف تتجدّد في كلّ عام ويجب تصريفها أو ستفقد من قيمتها”. وعن خطوة نقل البضائع، يردف شقير: “تمّت بالتنسيق مع الجيش اللبنانيّ الذي يعمل من منطلق وطنيّ وإنسانيّ”.

وعمّا إذا فرغت ميس الجبل من كامل بضائع مخازنها ومحالها، يؤكّد أنّ “ما خرج من البلدة هو جزء بسيط جدًّا من البضائع، والصالات والمعارض والمحال ما زالت ممتلئة، وما أخرج من بضائع من قبل التجّار لم يكن بهدف الربح ولكن لتيسير الأحوال من رأسمالهم المجمّد”.

سنتر ميس الجبل قبل الحرب

وعن المشهد الذي تابعه اللبنانيّون وما إذا كان مؤشّرًا خطيرًا إلى ما بعد الحرب، يقول: “بصفتي رئيس بلديّة أعيش مع أهل بلدتي، أؤكّد أنّ كلّ من نزح من ميس الجبل سيعود إلى البلدة بعد ساعة من إعلان وقف إطلاق النار”. ويوضح شقير أنّ “أهل الجنوب وبعيدًا من السياسة لهم ثقافتهم في المقاومة والصمود وتاريخ من المعاناة والقصف والتهجير والدمار ناهز الـ76 عامًا، والحرب اليوم لن تسلخهم عن مبادئهم ولا من انتمائهم لهذه الأرض”.

“شهداء حماية الرزق”

في الخامس من أيار (مايو) الماضي حاولت عائلة فادي محمدّ خضر حنيكة ومايا علي عمّار إخراج بضائع مؤسّستهم التجاريّة المتواضعة التي تشكّل المصدر الوحيد لعيشهم، من جحيم الاستهداف والغارات، لكنّها دفعت ثمنًا غاليًا جدًّا إذ تسببت غارة جويّة إسرائيليّة مفاجئة على وسط بلدة ميس الجبل، في ارتقائهما شهيدين مع ابنيهما الشهيدين محمّد (20 عامًا) وأحمد (12 عامًا) حنيكة ودمار المؤسسة فوق رؤوسهم.

فمع توقّف وجيز للقصف المدمّر على ميس الجبل وجاراتها حولا وبليدا وعيترون والعديسة وغيرها، توجّهت عائلة حنيكة المؤلّفة من الوالدين والابنين من بيروت إلى ميس الجبل بشاحنة صغيرة، سعيًا إلى إخراج ما يمكن من بضائع “سوبّر ماركت” تعود للعائلة وإنقاذها من براثن الدمار الذي تتعرّض له البلدة منذ ستة أشهر سلفت (في حينه)، وما أن بدأت العائلة بنقل بعض المخزون حتّى أغارت الطائرات على المبنى الذي تقع فيه المؤسّسة التجاريّة فدمّرته فوق رؤوسهم وأدى ذلك إلى استشهاد العائلة بكاملها وإصابة عدد من المواطنين كانوا في الجوار.

ثقة للعودة

قبل الحرب، كانت ميس الجبل تمثّل الثقل الاقتصاديّ على مستوى المنطقة الحدوديّة، أمّا اليوم، وبعد الدمار الذي لحق بها، وما تبعها من مشهد الشاحنات المغادرة، بحثًا عن أبواب رزق جديدة، يؤكّد أهالي ميس الجبل أنّ هذا المشهد اعتاده الجنوبيّون، عنوانه التحدّي من أجل البقاء وديمومة الحياة، مع ثقتهم بالعودة وإعادة ميس الجبل إلى سابق مكانتها وأفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى