“مذكّرات صحافيّة حرب” لنجاح القاضي.. ذاكرة تطلّ على المجازر
“على الرغم من الحقيقة (الجسديّة) بأنّ الموت يدمّرنا، فإنّ فكرة الموت قد تنقذنا. إنّها حكمة قديمة لذلك، كان الرهبان يحتفظون منذ قرون بجماجم في مقصوراتهم، والسبب الذي جعل مونتين ينصح بالعيش في غرفة تطلّ على مقبرة”.
العيش في ذاكرة تطلّ على المجازر، تعرف فيها كلّ شظيّة موضع الألم، الفقد والخسارة. تعرف الصحافيّة نجاح القاضي في كتابها “شظايا الذاكرة، مذكّرات صحافيّة حرب” الصادر عن “دار سائر المشرق”، كيف تحوّل كلّ صنوف الموت إلى حياة، تضع بشجاعة الموت في وجه الموت لتُبقي الذاكرة حيّة للأجيال التي لم تعايش الحرب الأهليّة.
ذاكرة تفيض بالجثث
تختار نجاح الحياد في الكتابة منذ البداية، وكصحافيّة تلتزم في توثيق الأحداث: أنظر، راقب، خبّر وأكتب. لكن نصوصها تتجاوز القاعدة، وتظهر تواطؤها مع القَتلى، كلّ أولئك الذين واللواتي دُفعوا قسرًا أو بإرادتهم إلى الموت. تفيض ذاكرتها بتفاصيل الجثث التي تتعمّد حفظها للكتابة عنها، مهما أشاحت بوجهها كي تتجنّب الرؤيّة. تقرأ وجوه الجثث التي تيبّست، تقرأ اللحظات الأخيرة في حيواتهم وتدوّنها للتاريخ.
تحكي في مذكّراتها عن التهديد الذي عاشته من دون ذكر واضح للأسباب، فكلّ شيء في الحرب يمكن أن يكون دافعًا للقتل، فكيف إذا تعدّدت الأطراف المتحاربة؟
تترك بهدوء بيتها الأوّل الذي أسّسته في ذوق مكايل، بعد تلقّيها تهديدات في نهاية العام 1975 آملة العودة إليه، لكنّ أملها لم يتحقّق بزيارته إلّا بعد 48 سنة.
الصحافة في زمن الحرب
عملت نجاح على تغطية الأحداث منذ بداية الحرب الأهليّة التي استمرّت 15 سنة مع جريدة “السفير”، وتؤكّد في أكثر من حادثة في مذكراتها توصية مؤسّس الصحيفة بأهمّيّة الحرص والحفاظ على الحياة والسلامة، سواء تعلّق الأمر بالصحافيّين، المصورين، الحرّاس أو أي فرد عامل في الجريدة، مشيرًا إلى أنّ التصوير يكون بعد القصف وليس في خلاله، فلا مزيد من الجرحى والقتلى.
كانت الحركة أثناء الحرب شديدة الخطورة، خصوصًا مع فكرة الخلاء المرعبة. أن يختفي البشر من الشوارع والساحات أن “ينكفئ الشاطىء حزينًا على نفسه خالٍ من الصيّادين”.
والخلاء نذير شؤم وترقّب، بأنّ شيئًا ما على وشك الحدوث، وأنّ أيّ تحرّك غير مدروس ستكون كلفته الموت برصاصة أو قذيفة مجهولة المصدر.
إلّا أنّ نجاح ترفض التوقّف عن الحركة، وتصرّ على التغطية الميدانيّة. وتذكر حادثة عرمون منطقة الفيلّات، حين بدأ الرصاص والقذائف العشوائيّة تلعلع إثر اشتباكات اندلعت بين الجيش وأحد التنظيمات المسلّحة، لتجد نفسها مع اثنين من رفاقها وسط الظلام، محاولين الاختباء في إحدى الڤيلّات التي يمتلكها زوجان عاشا في بلاد المهجر، ثمّ عادا إليها لقضاء ما تبقّى من حياتهما في بلدهما وبين أقاربهما. وتخليصها لأحد المقاتلين المصابين في منطقة الأشباح.
لا ترفض نجاح وحدها التوقّف عن الحركة، فحتّى سيارتها “خلّوصة” التي “ترتدي قبّعة الإخفاء ليلًا وتخلعها نهارًا” لتختفي عن الأنظار، تشاطرها الحركة، فتسير وحدها منقذة إيّاهم في تلك الليلة من الرصاص، بعد أن انزلقت نجاح مفلتة المقبض إلى قعر السيارة، فسارت لوحدها غير خائفة من العتمة ولا الرصاص.
عملت نجاح على تغطية الأحداث منذ بداية الحرب الأهليّة التي استمرّت 15 سنة مع جريدة “السفير”، وتؤكّد في أكثر من حادثة في مذكراتها توصية مؤسّس الصحيفة بأهمّيّة الحرص والحفاظ على الحياة والسلامة
تستحضر نجاح بعد كلّ هذه السنين ما لم تستطع كتابته يومها لتُسكن الأرواح. لا تترك مجالًا لشلل الرعب بحسب تعبيرها فهو داخلنا شئنا أم أبينا.
أسطرة المريع
تنقل ذاكرة نجاح القاضي المُريع بكامل فجاجته، الموت وهو يأخذ أشكالًا وصورًا متعدّدة، يسكن أجسادًا حيّة ويفارق أخرى فارقتها الحياة.
وذلك لأنّ القاتل هو حيّ ميّت، بحسب اللقب الذي تطلقه القبيلة على أفرادها الذين أوكلت لهم أعمال الثأر*، وإن بدى ثأرًا عبثيًّا بين أبناء البلد والقبيلة الواحدة.
تنقل الدّهشة الطفوليّة لتامر، الشاب البريء الذي خطفه أبناء حيّه، وعجز عن إثبات انتمائه.
والقاتل رجل ينتقم لموت أخيه، انتقامًا من شبح قاتل آخر بقي حيّا طليقًا. حيث لا توجد براءة في الحروب الأهليّة، ويصبح الجميع شريكًا في الجريمة**.
تحوّل القَتْلى الذين عرفتهم إلى أبطال أسطوريّين في مسرحيّة تراجيديّة، تخاف نظراتهم المحدّقة في الفراغ اللامتناهي، تؤسطر موتهم وقوفًا في جريمة الفيلّات بمنطقة عرمون.
ترفض الموت والنسيان، تتجمّد كلّ الوجوه الحيّة الأخرى كتماثيل من الشمع في ما يشبه الموت المعدي. يعوي الأطفال كالذئاب الجريحة كاتمين صرخاتهم. تبقى نافورة الدماء من كاحله شاحبة، تواصل سيلانها رافضة التوقّف.
تذهب مع أكرم (صديقها الفلسطينيّ المصوّر) إلى منطقة الفنادق لتكتب تقريرًا عن رجل “الكاوبوي”، يضع القبّعة كأنّها قبّعة الإخفاء، لا أحد يعرف اسمه ولا تحرّكاته.
يلعب مع الموتى “البوكر”، يضع الجثث الثلاث في وضعيّة اللعب، ويشاطرها كجثّة رابعة متحرّكة عين الجنون واللذّة المكبوتة التي يبتغي الإفصاح عنها.
رائحة الدم
تحترق الدامور في الحرب الأهليّة، وتختفي معها رائحة البحر، وأشجار الحمضيّات والموز.
تشهد نجاح القاضي لأوّل مرّة السرقات التي حصلت للبيوت، فالجار يسرق جاره، وعمليّة السرقة تتمّ في احتفاليّة الظفر بالغنائم.
تصف المشهد برمّته بأنّه اغتصابٌ للمدينة، اغتصاب لذاكرة قاطنيها وقد قضى بعضهم جرّاء المجزرة، أو تهجّروا. وهو ما أشار إليه فوّاز طرابلسي في كتابه دم الأخوين “تناوب المقاتلون من جانبي خطوط التماس على نهب وسط المدينة. انتفض سكّان أحشاء المدينة وضواحيها والوافدون حديثاً إليها واجتاحوا المدينة، مدينتهم”.
في هذه المدينة المنكوبة يتعرّف أنف نجاح لأوّل مرّة على رائحة الدم الحادّة، تكتشف بُعدًا آخر للخوف، ترافقها الدماء في كلّ خطوة من خطواتها كلّما سارت “فالشارع العام أشبه بوحش قطع شريانه… والدماء تجفّ على الجدران”.
والمقاتلون من حولها هائجون كالمجانين، زادت الدماء من شراهتهم، يتناولون طعامهم بشهيّة، وكأنّه ليس على بعد أمتار من أقدامهم تستلقي جثّة أحد الشبّان الذي كان يملك منشرة في المنطقة. والدافع لقتله لم يكن سوى التعب، ولأنّ القاتل لم يحتمل دفاعه عن ممتلكاته.
يصبح الموت في كلّ فصل من فصول المذكّرات مجرّد “سيناريو” عبثيّ، كذلك دوافع القتل. تحاول نجاح تحويل موت الشاب إلى بطولة بأيّ شكل، أن تُعرف هويّته على الأقل ليعثر عليه أحد، فيرفض المقاتل إزاحته من الشارع العام. كذلك يرفض أن يتركه يحترق مع المنشرة بعد أن حاولت إقناعه، وكأنّه يريد تركه للعراء، أن يشبع ناظريه من لوحته التي اقترفها.
عراك الجسد
مع كلّ حاجز وخطوط تماس ومنطقة، تختلف لهجة القاضي، ويختلف انتماء العائلة لحماية نفسها. ولكي تستطيع الحصول على الخبر ليس عليها سوى انتزاع الطبقة الخارجيّة لجلدها، القشرة نفسها التي اتّسعت إلى شقوق ووقفت كلّ جهة تحارب الأخرى، والجلد نفسه ينتمي إلى الجسد، وكأنّه عراك الجسد.
يصبح الموت في كلّ فصل من فصول المذكّرات مجرّد “سيناريو” عبثيّ، كذلك دوافع القتل. تحاول نجاح تحويل موت الشاب إلى بطولة بأيّ شكل، أن تُعرف هويّته على الأقل ليعثر عليه أحد
تُغتصب النساء ويُقتل الأطفال والأبرياء في مناطق عدّة. المجزرة واحدة أينما كانت، ففي تلّ الزعتر المحاصر، أو في المسلخ والكرنتينا، يمتدّ الجسد ويصبح مسرحًا لكلّ الشخصيّات، ويصبح الموتى من كلّ الجنسيات، من أرمن، لبنانيّين، وفلسطينيّين، أكراد، سوريّين وغيرهم، يصبح الجرح واحدًا، بؤرة تتّسع وتتقيّح.
عن احتلالين
في البقاع احتلال، وفي الجنوب احتلال. المرارة والحقد، لأنظمة تتشابه في رغبتها بالعنف والدم.
يقاوم أبناء البقاع دخول الجيش السوريّ فترفع اليافطات في سوق قبّ الياس مكتوبًا عليها “لا للاحتلال، طريقكم هي الجولان وليس لبنان”. يُغرق أهالي البقاع أراضيهم ومواسم الثوم والبصل بالمياه لتأخير تقدّم الدبّابات، ولكن ذلك لا يعيقها عن القصف والتقدّم.
وفي الجنوب يستغل الاعلام الاسرائيلي انهيار مؤسّسات الدولة اللبنانيّة والوضع المعيشيّ والإنسانيّ ليتّهم الجنوبيّين بالتعامل معهم. في إشاعة البوابّات الـ48 لتمرير المساعدات الطبّيّة إلى القرى الحدوديّة والتي لم تكن سوى بوّابتين.
يتّهم الجنوبيّ الذي فقد أرضه، وأحرقت بساتينه ومات أولاده في نضاله للدفاع عن حقّه بالحياة.
الهروب بحرًا
النجاة في الحرب ومنها شجاعة.
تغادر نجاح لبنان بحرًا مرّتين. الأولى بقصد الزواج المدنيّ في قبرص على رغم صعوبتها، خصوصًا مع إقفال مطار بيروت وقصف المرافىء، والثانية بشكل نهائيّ مع بناتها.
تسافر في المرّة الأولى وشبح الموت يحلّق على سطح السفينة، تسافر الجثث بأغطيتها البيضاء مع الركّاب، بعد أن قصف الجيش الاسرائيليّ مرفأ صيدا. تأبى الحرب عدم مرافقتهم، قُتل خلال الرحلة سبعة أشخاص من ضمنهم ابن عمّ ناجي العلي، ليتعلّم ناجي للمرّة الأولى تشريح خطوط الرأس، رأس قريبه الذي ودّعه.
الغربة هي أهمّ ما في سيرتها الذاتيّة، الهروب الأخير لأنّ الحرب لم تنته، لأنّ الشظايا الثماني التي علقت في شعرها، وفي الصروح القديمة والمباني والأجساد حولها، ما زالت في ذاكرتها.
*أمّي ومعنى الحياة: حكايات في العلاج النفسيّ.
**دم الأخوين” فوّاز طرابلسي.