“مراسيم مهرّبة” تعتدي على شاطئ القليلة وتهدّد حمى المنصوري!

فيما ينشغل لبنان بنفض غبار الحرب واستعادة القرى الجنوبيّة المحتلّة، وفيما العيون شاخصة نحو ولادة حكومة جديدة يأمل اللبنانيّون أن تشكّل طوق نجاة من عهود الفساد والسرقات والمحاصصات والتنفيعات، لم تتوانَ حكومة تصريف الأعمال قبيل رحيلها من تمرير ثلاثة مراسيم لإشغال الأملاك العامّة البحريّة بدءًا من ذوق بحنين (عمار) مرورا برأسمسقا (الكورة) وصولًا إلى القليلة (صور). حصل ذلك في آخر الجلسات التي عقدها مجلس الوزراء قبيل انتخاب رئيس الجمهوريّة، وذلك بناءً على اقتراح من وزارة الاشغال العامّة والنقل، وعلى كتابين من وزارة الزراعة والمديريّة العامّة للتنظيم المدنيّ وموافقة وزارة البيئة.

تهديد حمى المنصوري

جنوبًا، عند تخوم “حمى المنصوري البحريّة” حيث الشاطئ الأهمّ لجهة تعشيش السلاحف البحريّة في لبنان، ومنها الخضراء المهدّدة بالانقراض عالميًّا، صدر المرسوم رقم 14620 ومضمونه الترخيص بإشغال أملاك عامّة بحريّة متاخمة للعقار 923 (المتاخم للحمى مباشرة) في منطقة القليلة العقاريّة، قضاء صور، جاء فيه: “يُرخّص لشركة والي للديكور والاستثمارات العقاريّة (ش. م. م.) مستأجرة العقار رقم 923 بإشغال واستثمار مساحة إجماليّة قدرها 14560 مترًا مربّعًا من الأملاك العامّة البحريّة المتاخمة للعقار المذكور (مسطّح مائيّ فقط)”.

تغيير في هويّة المستفيد من المشروع

بالتدقيق في هويّة المستفيدين من المشروع تبيّن أنّ شركة “والي للديكور” المعطاة حقّ الإشغال غيّرت اسمها ليصبح MARINE PRO FARM COMPANY (Single Partner) sarl، ما يثير الشبهات حول هذا التغيير والتساؤلات حيال قانونيّة الاستفادة من هذا المرسوم بعد هذه التغييرات، وبعد البحث، تبيّن أيضًا أنّ مشروعًا نفذ منذ سنوات على العقار 923 وهو عبارة عن مزارع لإنتاج السمك والقريدس (الروبيان).

صورة جوية تُظهر موقع الشركة الشركة وقربها من “حمى المنصوري”

“مناطق نت” وخلال زيارة ميدانيّة للعقار 923 تبيّن لها أنّ إنشاءات المشروع جُهزت بالكامل، وجرى تمديد الأنابيب من البحر وإليه مرورًا بالأملاك البحريّة المتاخمة للعقار، وهذا الأمر يثبت أنّنا أمام تعدٍّ وليس طلب ترخيص بإشغال الأملاك العامّة البحريّة، وبالتالي فإنّ المرسوم الأخير شرّع هذا التعدّي، فضلًا عن أنّ العقار سيّج بالكامل وقطع أيّ منفذ لوصول المواطنين إلى الشاطئ. أمّا عن تشغيل المشروع وإنتاج القريدس فهي مخالفة قائمة بذاتها للبيئة البحريّة والحفاظ على التنوّع البيولوجيّ.

البلديات آخر من يعلم

بعد نشر القرار في الجريدة الرسميّة وانتشاره عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ قبل أسبوعين أكّد رئيس بلديّة القليلة الدكتور محمّد الشمالي لـ “مناطق نت” أنّ “المنتفعين من هذا العقار لم يحصلوا من البلديّة سوى على رخصة إنشاء بركة تجميع مياه للرّيّ إسوة ببقيّة البساتين في المنطقة وبناء غرفة واحدة”، ونفى الشمالي معرفته بأيّ تفصيل عن المشروع، قائلًا: “فوجئت باتّصال هاتفيّ وردني للسؤال عن المرسوم الذي صدر وعن ماهيّة المشروع المقرّر”، وأكّد مستاءً: “لم أكن على علم مسبق بأيّ قرار أو مشروع، وحقيقة أصبحت البلديّات آخر من يعلم، وقد راجعت محامي البلديّة بالموضوع وتبيّن أنّه قانونيًّا يحقّ لمجلس الوزراء أخذ مثل هذه القرارات من دون مراجعة البلديّات”.

وأردف الشمالي: “أتابع الموضوع وأنا مهتمّ لمعرفة تفاصيل المشروع ولديّ مخاوفي، ففي المنطقة حمى بحريّة مهمّتنا الحفاظ عليها، وحقّ المواطنين علينا بمعرفة ومناقشة أيّ مشروع يقام في نطاق البلدة، كذلك لهم الحقّ بالانتفاع والولوج إلى الشاطئ والاستفادة منه”، مؤكّدًا “ألّا شيئًا واضح، بدءًا من اسم الشركة التي لا نعرفها وصولًا إلى الإنشاءات التي أقيمت من دون أذونات أو تراخيص”.

مخالفات وإغلاق طرق

ويوضح الشمالي: “لقد واجهنا مشاكل عدّة مع المالكين في المنطقة البحريّة حينما حاولوا إغلاق الطرقات التي تسمح بالوصول إلى الشاطئ وقمنا بمنعهم، كذلك رفضنا استثمارات عدّة عند الشاطئ لأنّ هذا الأمر سيفتح شهيّة معظم المالكين في الجهة البحريّة، وبالتالي سيتسبّب بخسارة الشاطئ، وحرصًا منّا سنقوم بكامل واجباتنا كبلديّة لمنع أيّ ضرر قد يلحق بحقّ المواطنين والبيئة”.

“مناطق نت” وخلال زيارة ميدانيّة للعقار 923 تبيّن لها أنّ إنشاءات المشروع جُهزت بالكامل، وجرى تمديد الأنابيب من البحر وإليه مرورًا بالأملاك البحريّة المتاخمة للعقار، وهذا الأمر يثبت أنّنا أمام تعدٍّ وليس طلب ترخيص بإشغال الأملاك العامّة البحريّة،

ولمتابعة الملف بشكل دائم عاودت “مناطق نت” الاتّصال بالشمالي فقال: “تواصلت أخيرًا مع أحد الأشخاص، وهو بحسب ما أكّد لي أنّه مدير المشروع، وقال لي إنّ الاستفادة من الأملاك العامّة البحريّة ستكون لجرّ المياه من البحر وإليه، أيّ لتعبئة البرك وتفريغها، وقد طلبت منهم عقد اجتماع عاجل وإرسال دراسة الأثر البيئيّ والتراخيص المعطاة لإنشاء المشروع وإلى اليوم لم يردني بعد أيّ جواب”.

وختم الشمالي “لا شيء واضح إلى اليوم بدءًا من كيان الشركة، وصولًا إلى تفاصيل المشروع وانشاءاته ووجهة استعماله. نحن في حال ترقب كمجلس بلديّ ومستعدّون لاتّخاذ الإجراءات القانونيّة اللازمة لضمان وحفظ حقوق أهالي البلدة والأملاك العامّة”.

مخالفات ومخاوف

وفي عودة إلى المشروع المنفّذ على العقار 923 الذي تخطّى جميع الوزارات ولم يحصل على أيّ تراخيص، تبيّن أنّه أنتج مرّة أو مرّتين القريدس، من دون مراعاة الأثر البيئيّ، وبيعت الكمّيّات المنتجة منه في السوق بسعر منخفض لا يوازي حتّى كلفة الإنتاج، ليتوقّف بعدها مع بدء حرب الإسناد. وقد أكّد خبير في هذا الشأن أن ذلك يعود إلى صعوبة استيراد “اللارفا” والفلاتر من إيران حيث تمّ الاستيراد سابقًا، وهذا ما يطرح تساؤلًا حيال الجدوى من المشروع، وإمكانيّة استمراره في حال قرّر القيّمون عليه، استيراد ما يلزم من دول أخرى، والتساؤل الأكبر حول المرسوم الذي جاء ليكافئ من سبق وتجاوز القوانين واعتدى على البيئة البحريّة دون حسيب أو رقيب.

وفقًا لما ورد، لمّح أحد أبناء القليلة، أنّ هذا المشروع، نُفّذ بضغط من قوى الأمر الواقع في المنطقة، مؤكّدًا ألّا أحدًا يمكنه الوقوف بوجه أصحاب المشروع، إلى حين بناء دولة حقيقيّة بحسب ما قاله، وأكّد أنّ المشروع متوقّف منذ بداية الحرب والعمّال والمهندس المسؤول توقّفوا عن زيارة العقار منذ مدّة.

مصالح وتنفيعات

وعلى الرغم من فداحة التعدّيات التي حصلت على الأملاك العامّة البحريّة خلال فترة الحرب الأهليّة والفوضى التي رافقتها، فإنّ الحكومات المتعاقبة بعد الحرب لم تعجز فقط عن إيجاد حلول لتلك التعدّيات واستعادتها، بل أمعنت بمنح مزيد من الامتيازات لإشغال الأملاك العامّة البحريّة الباقية، وذلك وفقًا لمراسيم ظاهرها لا يشبه مضمونها، وهي تؤدّي في الغالب إلى حرمان المواطنين من التمتّع بالشاطئ، إذ تحوّله إلى سلعة يستفيد منها فقط النافذ والمقتدر، وهذا ما أقدمت عليه حكومة ميقاتي بإصدار أوّل مرسوم معالجة لتعديات الأملاك العامّة البحريّة على رغم تضمّنه مخالفات عديدة، إلّا أنّه مكّن أصحاب منتجع “البالما” في طرابلس من استثمار 76140 مترًا مربّعًا من الأملاك البحريّة بتاريخ الرابع من كانون الأول (ديسمبر) 2024.

الزميلة فاديا جمعة أثناء تنظيم أحد الأنشطة البيئية على شاطئ “حمى المنصوري

هذه المراسيم والقرارات عكست تحدّيات كبيرة في إدارة الأملاك العامّة البحريّة في لبنان، حيث تتداخل الاعتبارات البيئّية والقانونيّة مع المصالح الاقتصاديّة والتسويات والتنفيعات. وكان عضو المجلس الاقتصاديّ الاجتماعيّ والبيئيّ، الباحث والخبير القانونيّ صادق علويّة أوّل من نشر على حسابه في “فيسبوك” صورًا للمراسيم الصادرة التي مرّت بهدوء وعلى غفلة من انشغال اللبنانيّين بتداعيات الحرب والاستحقاق الرئاسيّ وعلّق “لن ننجو”.

القرارات قانونيّة ولكن..

علويّة قال لـ “مناطق نت”: “إنّ هذه القرارات قانونيّة ولكنّها ليست صحيحة من الناحيتين الماليّة والبيئيّة، ولا تراعي المساواة بين المواطنين”، لافتًا إلى أنّ “المشكلة في هذه القرارات، هل هي مفيدة؟ هل تعود بالنفع الماليّ على الدولة؟ هل تراعي الشروط البيئيّة؟”، مضيفًا: “يجب أن يكون هناك مزايدة بين اللبنانيّين ليتحقّق مبدأ المساواة، فهل حصل ذلك؟”.

يتابع علوّية: “نعلم جميعًا أنّ مثل هذه القرارات تتّخذ صفة الموقّت، وذلك من سنة إلى سنوات عدّة، لكنّها تستمر لمئات السنوات، وبالتالي هي لا تفيد الدولة بشيء وتضرّ بمصلحة المواطنين، كذلك فإنها تتعارض أيضًا مع مرسوم حقّ الجميع بالوصول إلى الشاطئ”.

الباحث والخبير القانوني صادق علوية: هذه القرارات قانونيّة ولكنّها ليست صحيحة من الناحيتين الماليّة والبيئيّة، ولا تراعي المساواة بين المواطنين”.

ونبّه علويّة إلى أمر مهمّ، قائلًا: “هذه القرارات تحديدًا صدرت بعد أن قامت الحكومة بتعديل مرسوم رسوم إشغال الأملاك العامّة البحريّة بناء على طلب وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حميّة، بحيث أصبح يحتسب سعر الصرف على أساس 60 ألف ليرة لبنانيّة عوضًا عن 89 ألف ليرة للدولار الواحد”.

وختم علويّة: “لكلّ متضرّر من المشروع حقّ الطعن أمام مجلس شورى الدولة في فترة محدّدة من صدور المرسوم والمتابعة ضروريّة لحماية ما تبقّى من أملاك عامّة”.

لوم وعتب على وزير البيئة

من جهتها ندّدت فعاليّات بيئيّة، بموافقة وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور ناصر ياسين على تمرير المشاريع الثلاثة، وأعربت عن مخاوفها من ردم البحر واستعمال المسطّحات المائيّة لما لهما من تداعيات على البيئة، لذلك وبعد الاتّصال مع ياسين للسؤال عن دراسة الأثر البيئيّ قال وباقتضاب لــ “مناطق نت”: “أكيد رح يعملوها” قاصدًا بذلك الشركة المستفيدة من إشغال الأملاك العامّة البحريّة في القليلة.

بدوره لام الناشط البيئي ورئيس “جمعيّة الأرض لبنان” بّول أبي راشد وزير البيئة ناصر ياسين، إذ قال لـ “مناطق نت”: “تلوم جمعيّة الأرض لبنان وزير البيئة على مراسيم ردم البحر الثلاثة” وتابع: “هو المؤتمن على البيئة في لبنان وغلطة الشاطر بألف غلطة، وهو يعلم جيّدًا أنّ 80 في المئة من الشاطئ اللبنانيّ مدمّر، ويقع على عاتقنا جميعًا حماية ما بقي منه بشتّى الوسائل، ولا يفوته أنّ دراسة الأثر البيئيّ يجب أن تكون سابقة للمرسوم، وما لا يمكن أن يغفل عنه أهمّيّة التزام لبنان باتّفاقيّة “حماية التنوّع البيولوجيّ” والمحافظة على 30 في المئة من الأراضي في البرّ والبحر، فكيف له أن يخطئ؟”.

صفقات مشبوهة

وفي بحث سريع عن الأضرار البيئيّة التي يمكن أن تتسبّب فيها مزارع السمك والقريدس تبيّن أنّ لها تأثيرات سلبيّة على البيئة البحريّة، أبرزها: التلوّث العضويّ والكيميائيّ، انتشار الأمراض والطفيليّات، التلوّث بالمضادّات الحيويّة والموادّ الكيميائيّة، التأثير في الأنظمة البيئيّة الساحليّة والهروب الوراثيّ للأنواع المستزرعة والإفراط في استخدام الموارد الطبيعيّة”.

كذلك حذّر ناشطون من توقيت تمرير المراسيم واعتبروها تمريرًا لصفقات مشبوهة تحت غطاء قانونيّ يهدّد المال العام ويسلب المواطنين حقّهم بالانتفاع من الأملاك العامّة لصالح فئات نافذة ومدعومة.

توزايًا، وفي سياق متابعتنا لهذه القضيّة، حاولنا التواصل مع مكتب وزير النقل والاشغال العامّة علي حميّة، إذ وعدنا مدير مكتبه بالإجابة على أسئلتنا، لكن بعد طول انتظار ومحاولات عدّة للتواصل مجدّدًا، بقينا إلى الآن ننتظر من دون نتيجة، وكذلك لم يردّ وزير الزراعة على اتّصالنا.

شاطئ القليلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى