مسامك العاصي تعاني تداعيات الحرب والإهمال
للعاصي الذي يغرّد منفردًا عكس الأنهار اللبنانيّة كثير من الحكايا والقصص، يضجّ بها مجراه الغزير المتدفّق بشغف. تحت أشجاره استراحت القوافل بعد تعب، ومن واديه أمرت الملكة زنّوبيا بجرّ مياهه النقيّة إلى مملكتها عبر الأقنية. وعلى ضفافه نظّم الشعراء قصائد حبّهم.
يُشكّل نهر العاصي بيئة مثاليّة لتربية سمكة “الترويت” و”السومو”. إذ أن سرعة تدفّق المياه تُغنيها بالأوكسيجين والحموضة اللذين يحتاجهما السمك، كذلك تُبقيها خالية من الملوّثات، هذا نظريًّا، أمّا الواقع فمختلف.
انتشرت مسامك تربية الأسماك على طول مجرى النهر، وأصبحت تشكّل جزءًا يسيرًا من الدورة الاقتصاديّة لأبناء المنطقة. حسن قاسم مرضة ابن مدينة الهرمل صاحب إحدى المسامك يعيش مع عائلته وأمّه وأشقائه وعائلاتهم من تربية أسماك الترويت، يقول في حديث لـ”مناطق نت”: “مسمكتنا عمرها ثلاثون عامًا، نُنتج سنويًّا نحو 65 طنًّا من سمكة الترويت العاديّ والأحمر إضافة لسمكة السومو، نبيع جُملة ومفرّقًا بسعر يراوح ما بين ثلاثة دولارات وأربعة دولارات ونصف الدولار للكيلوغرام الواحد ، لكن للأسف هذا السعر ليس عادلًا”.
يُشكّل نهر العاصي بيئة مثاليّة لتربية سمكة “الترويت” و”السومو”، إذ إنّ سرعة تدفّق المياه تُغنيها بالأوكسيجين والحموضة اللذين يحتاجهما السمك، كذلك تُبقيها خالية من الملوّثات، هذا نظريًّا، أمّا الواقع فمختلف
عن مشاكل قطاع تربية الأسماك في حوض العاصي يؤكّد مرضة: “أنّه قطاع مُهمَل من الدولة بشكل كامل، سواء لجهة غياب الإحصاءات والرُخَص الرسميّة، والأدوية والأعلاف، أو لناحية التعويضات عند حدوث السيول والأضرار”. ويشير مرضة إلى “أنّ الجمعيّات والجهات التي تحضر للمساعدة تعمل بمعايير المحسوبيّات والاستزلام والتنفيعات “يعني المزارع المعتّر برّا”، فلا تصله تلك المساعدات، في ظل ارتفاع أسعار الفروخ والبيوض المستوردة من الخارج، الأمر الذي يضاعف الأعباء على المربّين الصغار”.
سمكٌ نفط الهرمل
يعرض مرضة لأبرز المصاعب التي تعترض عمل المربّين “نحن بحاجة لدورات تعليميّة حول أساليب وخطط تربية الأسماك، والأهمّ كيفيّة إنتاج الفروخ والبيوض، أقولها يقيناً إذا اهتمّت الدولة بقطاع السمك فإنّه يصبح نفط الهرمل، ويكفي لمعيشة آلاف العائلات منه”.
ليست الثروة السمكيّة في الهرمل مجرد “أكلة” في قوائم مطاعم ومقاهي العاصي، بل يمكن أن تشكّل موردًا اقتصاديًّا هامًّا على مستوى الهرمل ولبنان.
عن تطوير قطاع الثروة السمكيّة في لبنان يتحدّث النائب الدكتور إيهاب حمادة لـ”مناطق نت” فيقول: “بهدف تحسين وتطوير الثروة السمكيّة في لبنان تقدّمنا باقتراح قانون يتعلّق بالصيد المائيّ وتربية الأحياء المائيّة في لبنان، المشروع أُقرّ بعد دراسته في اللجان الفرعيّة وننتظر إدراجه قريبًا في جلسة عامّة لإقراره كي يصبح نافذًا”.
ثروة واعدة جدًّا
يتابع حمادة :” بخصوص نهر العاصي قمنا منذ سنوات عديدة بتشكيل لجنة “حماية العاصي” لسببين، الأوّل لجهة عدم رمي نفايات في مجراه، والثاني لجوء بعض مُربّي الأسماك للاعتماد على بقايا الدجاج (دجاج منتهيّة صلاحيّته من أمعاء وغيرها) كعلف للسمك بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف والذي يناهز 1800 دولار للطنّ الواحد وهذا مبلغ كبير، نجحنا بذلك بنسبة تتخطّى الـ95 بالمئة، أُقفلت بعض المسامك وحُرّرت محاضر بالمخالفين لأنّ في ذلك خطرًا على صحّة الناس وعلى المردود الاقتصاديّ أيضًا”.
عن الحلول للمشاكل وخطوات مساعدة مربّي الأسماك يقول حمادة: “الآن ننتظر إقرار القانون في الهيئة العامّة لمجلس النوّاب كخطوة أولى، بعدها يكون العمل على خطّين، الأوّل استكمال معمل إنتاج الأعلاف الذي تمّ بناؤه، وتأخّر افتتاحه بسبب الحرب في غزّة، والآن العمل جارٍ على استقدام فريق تقنيّ تركيّ، لتأهيل وتدريب فريق عمل المعمل، والذي سيكون جاهزًا للإنتاج خلال مدّة شهر. هذا الأمر سيوفّر على مربّي الأسماك نصف الكلفة ويؤمّن العلف لأسماكهم بالمواصفات ذاتها الموجودة حاليًّا وبأسعار مناسبة”.
أمّا الخطّ الثاني فيشرح حمادة: “هو قوننة هذا القطاع من خلال إنشاء نقابة شرعيّة مهمّتها إصدار رُخص رسميّة، مهمّتها الإشراف على البرك وتنظيمها، وأيضًا إعداد بحوث علميّة صحّيّة تساعد في تصدير السمك، كذلك فرض العقوبات على المخالفين”.
ويشير حمادة إلى “أنّنا نتابع موضوع تربية الأسماك من ألفه إلى يائه، فهو قطاع اقتصاديّ هامّ، وثروة واعدة إذا أحسنّا الاستثمار فيها، إذ يمكن أن يصل الإنتاج في القطاع إلى حدود عشرين ألف طنّ بدل ثلاثة آلاف طنّ حاليًّا، وهذا في حال حصوله يكفي السوق المحلّيّة ويزيد إلى التصدير”.
ويختم حمادة: “إنّنا نتابع هذا الملفّ في إدارات الدولة المعنيّة، كذلك أرسلنا عدّة وفود من المربّين إلى إيران للمشاركة بدورات علميّة مكثّفة حول آليّات وسُبل تربية الأسماك وكيفيّة تحسينها للأفضل”.
الحرب أثّرت سلبًا
إنّ النفع الاقتصاديّ لسمك العاصي ليس مقتصرًا على أصحاب المسامك والبُرَك وعمّالهم فحسب، بل يتعدّاهم ليشمل كثيرين معهم.
يقول علي سجد ابن الهرمل وهو تاجر أسماك وأعلاف منذ سنوات لـ”مناطق نت”: “أعمل في تجارة السمك وأعلافه منذ 15 عامًا أو أكثر. القطاع ينمو ويكبر والحمد لله، عندما بدأت كان عدد المربّين بحدود الـ100، أمّا اليوم فقد تجاوز العدد 250 ما بين بركة ومسمكة”. يضيف “نعيش منه بشكل كامل مع عوائلنا إضافة لحوالي 500 عامل، والمستفيدون من هذا القطاع كثر، منهم التاجر ومنهم الطبيب البيطريّ، ومنهم صاحب وسيلة النقل والمطعم وصاحب الدكّان والمحطّة وغيرهم، الكل مستفيد”.
“أحيانا نقوم بتصدير كمّيّات إلى مصر والأردنّ عبر تجّار نعرفهم” يقول سجد، ويشير إلى أنّ “السوق المحلّيّة جيدة، لكن للأسف بسبب الحرب في الجنوب تضرّر القطاع بنسبة تصل إلى 30 بالمئة، فسوق الجنوب حاليًّا متوقّف”. ويختم سجد: “مطلبنا هو الاهتمام بهذا القطاع لأنّه باب رزق للناس، يساعدها على البقاء ويثبّتها في أرضها”.
“الأكلة” المفضّلة
لا تكتمل الرحلة الى العاصي سواء كانت “كزدورة” أو لممارسة رياضة الـ”رافتينغ” أو الحجّ الدينيّ إلى كنيسة ما مارون من دون تناول “أكلّة سمك” في مقاهي العاصي الكثيرة.
تقول الشابّة منال الشيخ علي ابنة بلدة الفاكهة البقاعيّة في حديث لـ”مناطق نت”: “تعلّمنا في المدرسة صغارًا أنّ العاصي من أهمّ الأنهار في غرب آسيا وهو يربط لبنان بسوريّا وتركيّا، عندما كبرنا وزرناه أصبحنا نواظب على زيارته ونسأل أنفسنا: هل نستغلّ هذه الثروة الطبيعيّة التي منحنا الله إيّاها بالطريقة السليمة؟ للأسف الجواب لا، كثيرون يذهبون إلى مقاهي العاصي بهدف تمضية يوم سياحيّ طبيعيّ وفي آخره يرمون أكياس النفايات والبلاستيك في مجرى النهر، ما يشوّه جماله ونظافته”.
تتابع منال: “يمكن نهر العاصي والمقاهي على ضفافه أن يشكّلا متنفّسًا لأهالي المنطقة، وبيئة جاذبة للسيّاح، خصوصًا مُحبّي الرافتينغ في السنوات الأخيرة، لذلك يجب العمل الجدّيّ على منع تلويثه والحفاظ على أسماكه نظيفة صحّيّة كي يأكل الزائر بثقة وأمان، إنّ سمك العاصي أكلة شهيّة فلا تجوز الإساءة لها لأسباب مصلحيّة تجاريّة عابرة”.
في المحصلة يقول كثيرون أنّ لبنان بلد الفرص الضائعة، في كلّ شيء من السياسة إلى الاقتصاد والتنمية فالرياضة والطبيعة، على أمل أن يدخل سمك العاصي في أتون الفرص الضائعة، يتمنّى ابن الهرمل أن تساعده دولته في استثمار نعمة حباه الله بها لعلّها تُشكِّل مخرجًا من أزماته الكثيرة.