مسلسل“الهيبة”: قرصنة “اسكوبار” وتزييف الواقع البعلبكي
حسين حمية
الشخص لا يُختصر بالضمير الغائب “هو”، له أبعاد متعددة منظورة وخارج مديات البصر، هي التي صنعت هذه ال “هو” وعدّلتها بإضافات وانتقاصات لا تُحصى، فالشخص هو بيئة وظروف وثقافة واجتماع، وعليه، أن الانتقال بشخصية من مكان إلى مكان مختلف، لا تتم بحمولة بيولوجية، إنما بإجراء ما، يطاول إما الشخصية نفسها أو المكان الجديد.
سقطة مسلسل “الهيبة” هو باستنساخ “اسكوبار” لبناني في البيئة البعلبكية. ألمح إلى هذا الاستنساخ المخرج نفسه بوضعه صورة “بابلو اسكوبار” في غرفة بطله فضلا عن نسخه وقائع وسلوكيات تطابق مع المستنسخ (بفتح السين)، وعوضا أن يشتغل الإخراج على تكييف شخصية “جبل” وتهذيبها لتوافق البيئة، كان الخيار تطويع البيئة من أجل الشخصية المستوردة.
ليس خفيا أن المخرج يدرك أهمية شخصية اسكوبار إن في العالم أو في لبنان أو بعلبك تحديدا، أنها شخصية مثيرة للاهتمام وتلقى في أمكنة معينة من العالم تعاطفا وإعجابا، فالاستنساخ على طريقة “طبق الأصل” ينطوي على قرصنة قيمة “اسكوبار” لمصلحة المسلسل، لذا كان هذا الحرص على تذويب “جبل” في شخص آخر، ولذا أيضا هذه المغامرة في التلاعب بالواقع البعلبكي ولو بابتذال لتكتمل صنعة “اسكوبار” لبناني.
لا يوجد اسكوبار في بعلبك، ولن ينوجد، والمطلوبون في هذه المنطقة لا يشبهون اسكوبار وهذه ليست نقيصة فيهم،لأن بعلبك ليست ميدلين، ولبنان ليس كولومبيا واسكوبار ابن زمانه وبيئته وظروفه، وهناك فوارق شاسعة بينه وبين أي مطلوب في لبنان، واعتقد قد نجد له شبيها بنسبة معينة، لكن ليس في عالم المطلوبين، إنما في عالم النافذين والأقوياء، وهذا ما لا يجرؤ عليه المخرج.
لا يكفي الخروج على القانون لتتماثل البشر، وليس بالتقليد يحدث “التقمص”، أو بمقابلة تجريها محطة نلفزيونية مع مطلوب، هناك سردية مختلفة بين اسكوبار وسائر المطلوبين أو القبضايات في المنطقة التي يحاول المسلسل أن يجعل منها كائنات تلفزيونية.
في كولومبيا كانت الجريمة المنظمة وبناء الكارتلات خيارا لملء فراغ السلطة، كانت عبارة عن مشروع تتشابك وتتداخل فيه الجريمة بأبشع صورها مع السياسة، وليست أية سياسة، إنما مع السياسات الدولية. أما في بعلبك فالجريمة تبقى فردية وظرفية، وإذ يتم توظيفها سياسيا أو لمآرب معينة، إلا أنها ليست مشروعا استقطابيا.
نمت الجريمة المنظمة في كولومبيا ومهربوها المشهورون في منطقة “صفرية” السلطة (من صفر) تقع بين الدولة والثوار الشيوعيين، ومنها تمددوا في كل الاتجاهات وباشروا ببناء دولة داخل الدولة، جاء ذلك في سياقات مختلفة يطول ذكرها، لكن الأهم في هذه السياقات هو التحلل الاجتماعي الذي ضرب كولومبيا وأدى إلى بروز “جبل” الكولومبي. قد تطفو على السطح البعلبكي ظواهر يضخمها الإعلام لجهة نفوذها، إلا أن المجتمع البعلبكي ما زال متماسكا، وتوازناته العائلية والعشائرية ترسي معادلة الأمن في المنطقة ولا تسمح بمثل هذه الظواهر، وما رفع أهالي المنطقة الصوت احتجاجا على الحوادث الأمنية أخيرا، إلا لحساسيتهم الشديدة من تحول جبل إلى اسكوبار.
ظهور شخصيات من طراز “اسكوبار” في بعلبك لا تحتاج إلى خصال شخصية، إنما إلى رأسمال قادر على السيطرة على الكم الأكبر من المصالح، أبطال كارتل ميدلين ومنهم اسكوبار فتحت لهم الأزمة كل الأبواب لشراء الأراضي والمصانع والملاهي والمطاعم وغيرها، هذه القوة الاقتصادية الهائلة كانت هي المقررة، ومنها تشكلت الشخصية الخارجة على القانون المثيرة للاهتمام، في بعلبك، هناك اقتصاد جريمة، لكن ما زال هذا الاقتصاد يافعا ولا يستطيع بإمكاناته فرض حصانة على المشتغلين به، أضف أن كلفته على السكان باهظة لجهة تعطيل الاستثمارات، وعليه، لا إعجاب كما يروج عن بعلبك بشخصية من طراز جبل إلا إذا عبثنا بالواقع البعلبكي.
هناك بعد آخر في شخصية اسكوبار التي حفّزت المخرج على “خلق” شخصية مثلها اسم جبل، هو تصادمه مع أميركا، بعد تعطيلها مشروع المصالحة بين الدولة الكولومبية والمهربين، لقد استخدمت واشنطن الحرب على المخدرات لأهداف سياسية، عندما عملت دعايتها على مزج الشيوعيين بتجار المخدرات، وهذا ما دفع اسكوبار إلى مواجهتها عندما أيقن أنه تحول إلى ضحية في هذه الحرب، ولقد تم قتله بقرار أميركي، وهذا سبب للتعاطف معه في أمكنة ما، فكان السؤال في كولومبيا، لماذا الأميركيون يضغطون على الشعوب الأخرى لمنع المخدرات ولا يمارسون الضغط نفسه على المستوردين والمروجين في بلدهم، كان اسكوبار فوق الدولة، بينما جبل هو تحت أكثر من سلطة.
المخرج هو من أراد أن يصوّر الواقع البعلبكي، وهذا ليس مرفوضا أو موضع اعتراض، وقد حرص في كل فقرات مسلسله، أن لا يدع في ذهن المشاهد، أي شك أن أحداث هذا المسلسل في منطقة بعلبك، لكن المشكلة هو عبثه بالواقع لتعظيم البطل أو الترغيب بسلوكيات معينة، وكان الأولى أن يتصرف العكس، وينجح في تسويق بطله، وهنا تُرفع القبعة لقدرته.