مشاريع صديقة للبيئة تبعث الحيويّة في حرج بيروت

لطالما شكّل حرج بيروت رئة المدينة، كونه المساحة الخضراء الوحيدة المتبقيّة فيها، وعلى الرغم من أنّ الحروب ومن ثمّ التعدّيات التهمت أجزاء كبيرة منها، فتناقصت بفعل ذلك تدريجًا، إلّا أنّها بقيت بمثابة فسحة طبيعيّة نادرة في قلب العاصمة، ومساحة تذكّر السكّان بما كانت عليه مدينتهم قبل أن يبتلعها الإسمنت والضوضاء.
يعود حرج بيروت إلى واجهة النقاش من جديد، لا بوصفه مجرّد متنزّه، بل كرمز لحقّ الناس في المدينة، ولإمكانيّة إعادة بناء علاقة صحّيّة بين الإنسان والطبيعة.
مشروع لإعادة الحيويّة
بعد سنوات من الجدل حول فتح الحرج أمام العموم، أطلقت جمعيّة “نحن” بالتعاون مع منظّمة العمل الدوليّة (ILO) ومكتب “إيفر أندلسة” مشروعًا طموحًا يرمي إلى إعادة تأهيل الحرج وتنشيطه.
يقول مدير جمعيّة “نحن” محمّد أيوب إنّ المشروع يأتي بالتعاون بين جمعيّة (نحن) ومنظّمة العمل الدوليّة كشريك تنفيذيّ، وبالتعاون أيضًا مع مكتب (إيفر أندلسة). ويتابع لـ “مناطق نت”: “هدفنا الأساس هو إعادة تفعيل الحدائق العامّة، وعلى رأسها حرج بيروت، وفتح هذا الحرج أمام العموم بطريقة منظّمة ومستدامة.”
لا يقتصر المشروع على تحسين البنية التحتيّة وحسب، بل يسعى إلى إعادة تعريف دور الحدائق العامّة في المدينة، فهو يضع الإنسان في قلب عمليّة التخطيط، ويشرك المجتمع المحلّيّ في صياغة رؤيته للمكان.

من خلال مسابقة تصميم (Design Competition)، دُعي المعماريّون والمواطنون المهتمّون والناشطون لتقديم تصوّراتهم حول مستقبل الحرج، وهذا ما أتاح نقاشًا عامًّا حول كيفيّة استخدام المساحات الخضراء في بيروت، وكيف يمكن جعلها أكثر شمولًا وعدالة.
مكتبة وفنون وحوار وتدريب
من أبرز الأفكار التي خرجت بها هذه النقاشات، إنشاء مكتبة ومساحات للدراسة والعمل الجماعيّ في الهواء الطلق، وورش فنّيّة وثقافيّة للشباب والأطفال، وأماكن للعروض المسرحيّة والموسيقيّة المفتوحة، وحديقة مجتمعيّة لتعلّم الزراعة المستدامة، ومسارات بيئيّة توعويّة حول النباتات المحلّيّة والتنوّع الحيويّ.
وبالفعل، بدأ تنفيذ بعض هذه المبادرات. فقد أُنشئ مركز مجتمعيّ داخل الحرج يضمّ مكتبة ومساحات للحوار والعمل الجماعيّ، إلى جانب حديقة مجتمعيّة (Community Garden) لزراعة الخضار والنباتات المحلّيّة، وحديقة زهور تُبرز التنوّع النباتيّ اللبنانيّ بعدما بات مهدّدًا في المدن. كذلك جرى تطوير منطقة “السكايت” وتظليلها لحماية الأطفال من الشمس، وتحسين الممرّات والبنى التحتيّة لتسهيل وصول ذوي الاحتياجات الخاصّة.
أُنشئ مركز مجتمعيّ داخل الحرج يضمّ مكتبة ومساحات للحوار والعمل الجماعيّ، إلى جانب حديقة مجتمعيّة (Community Garden) لزراعة الخضار والنباتات المحلّيّة، وحديقة زهور
يؤكّد أيوب أنّ كلّ “هذه الخطوات تتمّ بطريقة صديقة للبيئة (Eco-friendly)، باستخدام الخشب والمواد الطبيعيّة بدلًا من الإسمنت والموادّ الصناعيّة الضارّة، بهدف الحفاظ على هويّة الحرج الطبيعيّة ومنع تحويله إلى مساحة تجارية أو إسمنتية”. ويختم أيوب “”نريد أن يبقى الحرج مساحة حيّة للناس، للثقافة، للراحة، وللبيئة، من دون أن يفقد طابعه الطبيعيّ والحرّ.”
تاريخ الحرج والتحوّلات الكبرى
يعود تاريخ حرج بيروت إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين أنشأه العثمانيّون كغابة صنوبريّة طبيعيّة تمتدّ على أكثر من مليون متر مربّع. كان الحرج آنذاك وجهة للعائلات البيروتيّة التي كانت تأتي للتنزّه، تحت ظلال الصنوبر، أو لحضور المناسبات الشعبيّة.
لكن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانيّة (1975- 1990)، تضرّر الحرج كثيرًا، بخاصّة خلال الاجتياح الإسرائيليّ العام 1982، إذ احترقت مساحات واسعة من أشجاره بفعل القصف، وتحوّل بعدها إلى منطقة عسكريّة مغلقة، بعد تجدّد الحرب في العام 1984، فاختفى من ذاكرة الناس أكثر من عقد ونصف عقد.

لم تقتصر خسائر الحرج على أسباب الحرب، إذ خسر أيضًا بعدها جزءًا كبيرًا من مساحته لصالح مشاريع عمرانيّة وبنى تحتيّة، ولم يُفتح أمام العموم إلّا بشكل جزئيّ في منتصف التسعينيّات، مع فرض قيود مشدّدة على الدخول إليه، أثارت جدلًا واسعًا حول معنى “الملكيّة العامّة” في مدينة تميل أكثر فأكثر نحو الخصخصة.
منذ ذلك الحين، صار الحرج رمزًا لصراعٍ حضريّ أعمق، بين من يرى فيه مساحة يجب الحفاظ عليها مفتوحة للناس، ومن يعتبرها مكانًا يحتاج إلى تنظيم وحراسة. هذا الجدل المستمرّ جعل الحرج مرآةً للتوتّر بين السلطة والمجتمع، وبين الرغبة في الحياة المشتركة والخوف من الفوضى.
الحرج حقّ المدينة بالتنفس
اليوم، وبين الممرّات المظلّلة وزقزقة العصافير، وبين مساحات خضراء تتمايل مع النسيم، يبدو حرج بيروت وكأنّه القلب الذي لا يزال ينبض وسط جسد المدينة المتعب. هو أكثر من مجرّد حديقة، إنّه رمز صمود الذاكرة البيئيّة والاجتماعيّة لبيروت، ودليل على أنّ إمكانيّة العيش المشترك والتوازن مع الطبيعة ليست حلمًا مستحيلًا.
إنّ إعادة الحياة إلى هذا الفضاء الأخضر ليست مهمّة بلديّة وحسب، بل مسؤوليّة جماعيّة، يشارك فيها السكّان والبلديّة والجمعيّات البيئيّة، لضمان أن تبقى العاصمة اللبنانيّة مدينة يمكن أن تتنفّس، مدينة فيها ظلّ، وفسحة، وهواء نقيّ.
ربّما لا يغيّر الحرج وجه بيروت دفعة واحدة، لكنّه يذكّرها بأنّ المدن لا تُقاس فقط بمبانيها، بل بما تتيحه من مساحات للحياة واللقاء والسكينة.




