مشاعات الجنوب… “الأهالي” ينهبون الأهالي!
تتخطى مسألة الإعتداء على المشاعات العامة في قرى قضاء الزهراني منذ فترة، موضوع الاستيلاء على أراضٍ هي ملك عام، لتقفز بقوة قضية مركزية أخرى أشدّ تعبيرًا، وهي مسار العلاقة الملتبسة بين الدولة ومواطنيها، والأخيرة قد تلاشت وانهارت وتعيش موتاً سريرياً عميقاً، وما نراه منها اليوم هو أشلاء، لكن الذي يموت في قضية الاستيلاء على الملك العام والمشاعات اليوم هو “فكرتها” التي يشكل موتها القضية الأبرز في رحلة الالتباس بالعلاقة بين الدولة ورعاياها والتي تعيش مراحل متقدمة من احتضارها.
تعكس مسألة التعدي على المشاعات واحتلالها أيضاً، نظرة المواطن للملك العام ومن خلاله الدولة، حيث تترسّخ ثقافة تجهيل مكانة الملك العام في حياة الاجتماع المدني، بما هو ملك للناس، ومساحات تتنفس منها البلدات والقرى والمدن، والتي هي بطبيعة الحال مرشّحة لمشاريع تنموية وبيئية لخدمة المجتمع وتطويره، والجهل موصول لمسألة ثفافة العلاقة مع الملك العام والنظرة إليه، والذي يشكل الاستيلاء عليه جريمة يعاقب عليها القانون.
تعكس مسألة التعدي على المشاعات واحتلالها أيضاً، نظرة المواطن للملك العام ومن خلاله الدولة، حيث تترسّخ ثقافة تجهيل مكانة الملك العام في حياة الاجتماع المدني، بما هو ملك للناس
تشكل مساحة المشاعات، حوالى 13 في المئة من مساحة لبنان، وهي مملوكة من أبناء القرى والبلدات بموجب مرسوم صادر عن المفوض السامي الفرنسي من دون الحق ببيعها. هذه المشاعات يمكن الإستفادة منها في مجالات التنمية على مختلف الصّعد. بداية من إقامة المشاريع السياحية والترفيهيّة أو من خلال تأجيرها إلى السكان في مختلف المناطق بحيث يتم استغلالها في إطار التنمية المحلية المستدامة، والاستفادة منها من خلال مشاريع استثمارية تعود بالمنفعة على المجتمع والدولة والدينامية الإقتصادية للبلد. وهذا ما ذكره الدكتور بلال شحيطة في بحثه المطوّل حول ترشيد استخدام أراضي المشاعات وانعكاساته على عملية التنمية في لبنان.
تكرر المشهد و”الدولة سمحَت بالبناء”
عمليات التعدي على المشاعات في لبنان وتحديداً في الجنوب ليست بجديدة، فهي بدأت منذ أن بدأ انفراط عقد الدولة مع بداية الحرب الأهلية في العام 1975، حيث بدأ النّاس بالبناء العشوائي على المشاعات في ظل غياب الحد الأدنى لمعايير البناء والتنظيم المدني. الحروب والهجرات الداخلية ساهمت أيضًا بشكل كبير في ذلك، فمنهم من بنى في المشاعات بقوة الأمر الواقع ومنهم من بنى فوق البيوت المبنيّة دون ترخيص.
تكرّر المشهد في محطات كثيرة، منها في العام 2010، حيث أصبح التعدي على المشاعات وأيضاً مخالفات البناء ظاهرة عامة، لا يمكن أن تحصل دون موافقة من قبل سلطات الأمر الواقع.
من الصرفند مروراً بعدلون والبيسارية وتفاحتا وغيرها من بلدات قضاء الزهراني، وصولاً إلى الخرايب والمنصوري والزرارية. بلدات شهدت جولة جديدة من التعدي على المشاعات أو البناء دون ترخيص، تم تسجيل فيها عشرات الأبنية الجديدة المخالفة، حيث تنوعت تلك المخالفات بين شقق للسكن وبين محال تجارية للبيع أو التأجير، أو إضافة أقسام لأبنية موجودة سابقاً.
اللافت في الأمر ما كشفه أحد سكان بلدة البيسارية لـ “مناطق نت” عن خبرٍ انتشر بسرعة بين ليلة وضحاها من أنّ الدولة سمحت بالبناء، فانتشرت أعمال البناء كالنار في الهشيم، حيث تحوّلت المشاعات إلى ورش بناء “شغالة” ليل نهار، وبدون حسيب أو رقيب، ولم تقتصر على الأملاك العامة فقط، بل تعدتها إلى الأملاك الخاصة.
الكل استغل الفوضى و”الفرصة”
رغم محاولات القوى الأمنيّة الخجولة في قمع التعديات، إلا أنّ مواجهتهم بالقوة والرشق بالحجارة والضرب كانت أقوى، حيث وصلت إلى حد إطلاق النار عليهم أثناء عمليات الدهم والهدم. اللافت في الأمر أنه تم توقيف رئيس بلدية البيسارية نزيه عيد بإشارة من المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم لساعات في نظارة فصيلة عدلون، بعد رفضه “تحمّل وزر قمع مخالفات البناء الجارية”. وقد طلب منه التوقيع على تعهد بتأمين جرافة تقوم بهدم المخالفات وتوفير عناصر من شرطة البلدية لمؤازرة القوى الأمنية التي ستحضر للإشراف على هدمها، إلا أنّ عيد رفض التوقيع و”وضعه في خانة المواجهة مع أهالي بلدته”.
بدوره رئيس بلدية الصرفند “علي خليفة”، أشار في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “قلبه محبّل” من الموضوع، لافتاً أنّه لم يسجل في البلدة أي بناء جديد على الأملاك العامة، إنّما فوضى حصلت على الأملاك الخاصة. وعزا خليفة السبب في ذلك إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه أبناء البلدة، خصوصاً فئة الشباب الذين يسعون للاستقرار والزواج، خصوصاً أولئك التي لا تسمح حالتهم المادية بشراء شقق أو أراضي للبناء عليها.
كل ذلك يقول خليفة “أدى إلى انتشار الفوضى خصوصاً أن محاولات حثيثة جرت على مدى السنوات الماضية من أجل الحصول على تراخيص بناء، إلا أن جميعها باءت بالفشل.
“حاولنا أن نقنّن الفوضى”، بهذه الكلمات يصف خليفة مساعيه، معتبرًا أنّ كل ما يحصل هو ردة فعل على الظروف الصعبة، وفي جزء منه ثأر من الدولة على خلفية سرقة أموال المودعين ووقوفها كمتفرج أمام كل ما يحصل. واستغرب خليفة السرعة التي تمّت بها عمليات البناء، ووضع علامات استفهام حول المواد الأولية وطريقة البناء التي تحصل. وأبدى تخوّفه قائلاً “نحن بانتظار كوارث في المستقبل، وأمام كل ذلك لا يوجد هناك من تحرّك يعوّل عليه، كلٌ متروك أمام مصيره. وخير ما ينطبق علينا “حارة كل مين ايده اله”.
رشوة دسمة ومخاطر كبيرة
لم يعد خافيًا على أحد أن كل ما يحصل، ما هو إلا استثمار في صندوقة الاستحقاق البلدي، والتي وللمفارقة أصبح تأجيلها أمرًا حتميًا، حيث تحاول الجهات السياسية حماية وتغطية المخالفين من أجل “صوت” في صندوق الاقتراع، وهي رشوة اعتادوا عليها في كل استحقاق.
العشوائية في البناء واضحة في أعمال البناء حيث تفتقد إلى الحد الأدنى لمعايير السلامة العامة، وهي تتم من دون أدنى تخطيط أو تنظيم ويمكن أن تشكل أضراراً جسيمة ومخاطر في المستقبل. وفي جولة على الأبنية المخالفة في البلدات والقرى لوحظ في إحدى البلدات، أن أحد الأشخاص قام ببناء محلات عدة أمام منزله، أي “سكر ع حاله”. وفي منطقة عدلون يظهر بوضوح بناء وهو مائل، وهذا يدل أن السرعة التي تُشيّد فيها الأبنية الجديدة لا تراعي أية معايير، مما ينذر بكارثة في المستقبل.
في جولة على الأبنية المخالفة في البلدات والقرى لوحظ في إحدى البلدات، أن أحد الأشخاص قام ببناء محلات عدة أمام منزله، أي “سكر ع حاله”. وفي منطقة عدلون يظهر بوضوح بناء وهو مائل
من غير الطبيعي أن تحصل تلك المخالفات من دون ضمانات لأصحابها ووعود بتشريعها مستقبلاً. لذلك تبدو الأمور منظمة وتحت السيطرة الحزبية. حيث أشارت بعض المعلومات أنّ بعض الجهات ترسل رسائل سرية للمخالفين بأن التسويات جارية كي لا تتم عمليات الهدم والإزالة، ليحافظوا على هدوئهم ومخالفاتهم، وهذا ما ظهر جلياً من قبل المخالفين الذين لم يُظهروا أي علامات خوف من الملاحقة أو التوقيف.
أمام تأجيل الاستحقاق البلدي والاختياري والذي أصبح بحكم المؤكد، ستهدأ موجة التعدي على المشاعات وأيضاً مخالفات البناء، بانتظار استحقاق آخر يؤدي إلى موجة تعديات أخرى من جديد. كل ذلك يحصل على أنقاض الدولة التي يبدو أن تعميق فكرة انتفائها هو النتيجة الكبرى التي تعكس كل ما يحصل من تعدٍ على المشاعات.