مشاعات بعلبك تحت سطوة النافذين والمحاسيب
لم ينحصر التعدّي على المشاعات في لبنان على بلدة دون سواها أو منطقة دون أخرى، بل طال معظم المناطق، ولكن بنسب متفاوتة، حيث تختلف نسبة تلك التعدّيات بين منطقة وأخرى، وهي لا تؤشّر إلى غياب الدولة وضعفها ووهنها فحسب، بل أيضًا إلى غياب الثقافة المجتمعيّة المتعلّقة بمفهوم المُلك العام الذي هو ملك الناس، وذلك يعود إلى العلاقة الملتبسة التي حكمت علاقة ناس الأطراف بالدولة تاريخيًّا، وهذا موضوع آخر، لكنّه يتّصل بموضوع المشاعات التي اعتبرتها الناس في تلك المناطق ملك الدولة، وهي بوعيهم الجمعيّ كيان مفصول عنهم، لا تمثّلهم، لذلك استباحوها.
وإن كان التعدّي على المشاعات قديم، ويعود إلى عمر الكيان، لكنّه استفحل خلال الحرب، ولم يتوقّف زمن السلم، ففي حالة الحرب كان بقوّة السلاح وبغياب القانون، وفي السلم بقوّة الفساد والمحسوبيّات وتغييب القانون.
لا يختلف التعدّي على المشاعات في بعلبك عن غيرها من المناطق، وهو ليس بالأمر الجديد، إنّما يعود إلى الفوضى التي سببتها سنوات الحرب، حيث عمد كثيرون من أهالي المنطقة إلى البناء في المشاعات، وعامًا بعد عام تزايد العمران وازداد معه التعدّي حيث بنى الأولاد والأحفاد جميعهم في المشاع، وبات متوارثًا وكأنّه ملك خاص، ومع الوقت باتت إزالة هذه التعدّيات في غاية الصعوبة. لكن في الوقت نفسه لم تتوقّف هذه التعدّيات على مستوى المنطقة إن لجهة البناء أو لجهة إضافة المشاع إلى الممتلكات الخاصّة والتصرّف بها على أساس ذلك.
مشاعات بعلبك شاهدة على التعدّيات
تتراوح مساحة مشاعات بعلبك بين 3500 إلى 4000 دونمًا، أما المساحة المُعتدى عليها فتبلغ النصف تقريبًا، حيث تتوزع تلك المشاعات بين أحياء المدينة، المنطقة السهلية لمدينة بعلبك وتل الأبيض.
تعود ظاهرة التعدّي على المشاعات إلى أواخر السبعينيات، وقد استفحلت إبان الحرب الأهلية بسبب النزوح من بيروت إلى المناطق ومنها بعلبك، ولكن بحسب مصادر في “لجنة عوائل بعلبك” وهي لجنة تُعنى بشؤون المدينة وقضاياها وتضم فعاليات منها وممثلين عن عائلاتها، فإن “التعدّي بدأ بشكل ممنهج في المنطقة في التسعينيات، وبرعايات سياسية، وتفاقم وتطوّر ولا يزال مستمرّ حتى اليوم، وهو لا يقتصر بالاستيلاء على الأرض وإقامة أبنية عليها، بل وصل الأمر ببعض المسؤولين النافذين إلى تخصيص جزء من المشاعات لأشخاص تربطهم صلة بهم، وكأنها ممتلكات خاصة يتهادون بها بين بعضهم البعض”.
اعتداءات في العسيرة
في حي العسيرة ثمّة عقارات كثيرة مشاعات، منها العقار 135 والعقار 107. في العام 2018 قامت “لجنة عوائل بعلبك” بمسح بعض العقارات المشاعيّة التابعة لبلديّة بعلبك، بعدما أخذت الإذن من البلديّة، في مبادرة للتشجير في حيّ العسيرة في مدينة بعلبك. وبحسب مصادر اللجنة فإنّ المسح كان عبر مهندس مساحة متخصّص ومحلّف، حيث تم تسييج العقار الرقم 135 في حي العسيرة، وزُرع بألفي شجرة من السنديان والصنوبر الجويّ بعد معاناة للحصول على هذا العدد من الشتول من وزارة الزراعة. وشملت الحملة أيضًا العقار الرقم 107 الذي تبلغ مساحته 136500 متر مربّع، وقد تمّ تشجير ما يقارب 40 بالمئة من هذه المساحة.
تشرح المصادر في “لجنة عوائل بعلبك” إلى “مناطق نت” أنّه وبعد حملة التشجير كانت المفاجأة، حيث قامت بعض العناصر الحزبية بالاعتداء على العقار 135 من خلال اقتلاع عدد من الأشجار وحراثة جزء من هذه الارض. وقد كشفت المصادر أنّ المعتدين كان لديهم إذن من أحد الأشخاص مّمن تعاقبوا على رئاسة البلدية.
الجدير ذكره أنّ أراضي الملكيّة في هذه المنطقة المجاورة للعقار الرقم 135 لها قيمتها، حيث يراوح ثمن متر المربّع من الأرض فيها بين 40 و70 دولارًا.
موجة التعدّي الأخيرة
تجدّدت موجات التعدّي على المشاعات في حي العسيرة في بعلبك سنة 2022، وازدادت آنذاك من خلال البناء فوق الأبنية المخالفة أصلًا، وهي أتت كردّة فعل على قرار الدولة الذي حظر البناء في المشاعات، حيث تضاعفت عمليّات البناء المخالفة وكانت وتيرتها أعلى بكثير من وتيرة البناء في الأملاك الخاصّة.
تجدّدت موجات التعدّي على المشاعات في حي العسيرة في بعلبك سنة 2022، وازدادت آنذاك من خلال البناء فوق الأبنية المخالفة أصلًا، وهي أتت كردّة فعل على قرار الدولة الذي حظر البناء في المشاعات
وتقول مصادر اللجنة إنّ ردّة الفعل العشوائيّة التي أدّت إلى التفلّت، كانت بشكل من الأشكال اعتداء على الناس من خلال الاعتداء على الأملاك العامّة التي هي ملك للجميع. وهذه الاعتداءات لم تقتصر على بعض الأحياء في المدينة، وإنّما طالت المشاعات الجنوبيّة والغربيّة في مدينة بعلبك.
مَن المسؤول؟
كثيرون هم المتواطئون في عمليّة تخريب المدينة ومشاعاتها وزعزعة أمن أهل المنطقة؛ بحسب “لجنة عوائل بعلبك”، حيث “يتمّ ذلك برعاية السلطة المحلّيّة مصحوبًا بالغطاء السياسيّ من بعض المسؤولين في الأحزاب، على رغم أنّ هذه التصرفات تتعارض مع القرارات الصادرة عن قيادة حزب الله، فالقرار الأوّل يقضي بأنّ كلّ عنصر حزبي يعتدي على أملاك عامّة يتمّ تحويله إلى المكتب التنظيميّ ثم يُفصل من الحزب. أمّا القرار الثاني فتشجع فيه القيادة على حملات التشجير الفرديّة والجماعيّة مع توصيات بتأمين ما تحتاجه هذه الحملات- ضمن الإمكانيّات- من مؤسّسة الإرشاد الزراعيّ، ولكنّ المسؤولين يسيئون إلى هذه المنهجيّة” وذلك بحسب تلك المصادر.
وهنا يبرز التناقض في التعاطي مع ملف المشاعات في مدينة بعلبك بين القيادة التي تمنع التعدّي بشكل قاطع، وبين الواقع الذي يحمل كثيرًا من التعدّيات.
حرمان من المتنفّس
خُصّصت المشاعات لكي تكون في خدمة الحيّز العام وضمن نواح متعدّدة، منها أن تكون متنفّسًا لأهالي المدينة، في حين أنّ بعلبك تحتوي على متنزّه وحيد وهو متنزّه رأس العين. لكن التفلّت حرم كثيرين من التنزّه والاستمتاع بأماكن مخصّصة للجميع، كذلك حرمهم من المساحات الخضراء والاستثمار في المشاعات التي كان من الممكن أن تعود بالنفع على مدينة بعلبك والحركة السياحيّة فيها.
نتيجة ذلك، رفعت “لجنة عوائل بعلبك” الصوت مطالبة القوى الأمنيّة، بتأمين الحماية اللازمة من هؤلاء الأفراد، الذين يحرمون الأهالي من التنزّه، لافتة إلى أنّ “هذه الأملاك العامّة من الممكن أن يقام عليها متنزّهات أو حتّى استثمارات لصالح البلديّة كأماكن سياحيّة أو مساحات خضراء، والاعتداء على المشاعات يحرم الأهالي من أبسط حقوقهم في هذه الظروف الصعبة”.
تضيف المصادر: “من واجبات البلديّة أن تبادر في مشاريع كهذه، ولكنّ البلديّات المتعاقبة لم تعمل لمصلحة الأهالي ومصلحة المدينة، ويعزو بعضهم الأمر إلى عدم توافر الكفاءات في المجلس البلديّ، والبعض الآخر إلى المسؤولين الحزبيّين الذين يفتقدون إلى الرؤيا ويتصرّفون بحسب أهوائهم الشخصيّة مخالفين حتّى أدبيّاتهم الحزبيّة التي يفترض أن تقوم على خدمة الناس”.
وهنا تؤكّد مصادر اللجنة أنّ هذه التصرّفات فرديّة وشخصيّة، وتدعو القيادات المركزيّة إلى محاسبة هؤلاء المسؤولين ومتابعة أعمالهم وتصحيح أخطائهم وإعادة تصويب البوصلة.
متابعة وشكاوى
شكاوى عديدة قدّمتها اللجنة باسم أهالي بعلبك وعوائلها إثر التعدّيات المتكرّرة على المشاعات، منها واحدة لوزارة الزراعة وأخرى لحزب الله، بالإضافة إلى مراجعات للقوى الأمنيّة والبلديّة.
مشاعات بلدية في إيعات
يختلف المشهد في بلدة إيعات عن بعلبك، وفق رئيس بلديّتها الحاج حسين عبد الساتر، والذي يقول لـ”مناطق نت”: “إنّ التعدّيات توقّفت منذ العام 2016 حيث قامت البلديّة بتحديد المشاعات وإصدار أوراق نفي ملكيّة، وإزالة أيّ تعدّيات تتمّ بمؤازرة قوى الأمن”.
ويتابع: “أمّا بالنسبة للتعدّيات القديمة فلم تتمّ إزالتها بسبب البناء والعمران فيها، وهي لا تتجاوز الخمسة بالمئة من مساحة المشاعات، ومعظم المعتدين على تلك المشاعات مستعدّون لتسوية أوضاعهم بشكل قانونيّ في حال مبادرة الدولة اللبنانيّة إلى إصدار قانون بهذا الشأن”.
شكاوى عديدة قدّمتها اللجنة باسم أهالي بعلبك وعوائلها إثر التعدّيات المتكرّرة على المشاعات، منها واحدة لوزارة الزراعة وأخرى لحزب الله، بالإضافة إلى مراجعات للقوى الأمنيّة والبلديّة
ويضيف عبد الساتر: “تنقسم المشاعات في بلدة إيعات إلى قسمين، الأولى جمهوريّة لا تتعدّى الدونمات القليلة وقد زرعتها البلديّة بأشجار الزيتون وأنشأت عليها حدائق عامّة، وبلدية سُجلت ملكًا لها مثل البيادر وأراضي الرعي التي يستفيد منها أهالي بلدة إيعات كافة”. يتابع عبدالساتر: “لقد تمّ توقيع تنازل من قبل الأهالي وأصبحت ملكًا بلديًّا خاصًّا مسجّلًا في الدوائر العقاريّة، حيث تراوح مساحة تلك المشاعات ما بين 400 و500 دونم”.
مشاعات مقنة
أيضًا تختلف أحوال مشاعات بلدة مقنة عن سواها في البلدات والمدن المجاورة، فمعظم تلك المشاعات هناك مصنّفة على أنّها “أرض متروكة مرفقة مرعى لعموم مواشي قرية مقنة، ملك”. تبلغ المساحة الإجماليّة لتلك المشاعات 2605991 مترًا مربّعًا.
في حديث رئيس بلدية مقنة فوّاز المقداد إلى “مناطق نت” يقول: “يبلغ عدد عقارات المشاع في البلدة 81 عقارًا، منها خمسة عقارات جمهوريّة، وعقار واحد هو ملك بلديّ تقع عليه جبّانة البلدة، بالإضافة إلى بعض العقارات التي تمتلك البلديّة جزءًا منها، كالعقار الذي يقع عليه المستوصف وبناه البنك الدوليّ، وآخران يضم واحد منهما حقل الطاقة الشمسية والآخر القصر البلديّ”.
أمّا في ما يخصّ التعدّي على المشاعات يقول المقداد: “هذه الظاهرة سابقة لوجود الدولة وتعود إلى أكثر من 80 عامًا، حيث كانت أراضي مقنة مقسّمة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث يخصّ آل المقداد وثلث يخصّ آل حيدر وثلث لباقي العائلات. في حينه، كانت الملكية إقطاعيّة وليست فرديّة، وبحسب العرف فإّن مالك أيّ عقار يستحوذ على العقار المجاور له، واللافت هنا أنّ المستحوذين على عقارات المشاع بحكم الجيرة كانوا غالبًا ما يقدّمونها لأشخاص كي يبنوا عليها بيوتًا، والبعض يبيعها بأسعار زهيدة”.
ويلفت المقداد إلى “أنّ أراضي مقنة ممسوحة، ولكلّ مشاع له حدوده، وغالبية المشاعات تقع شرق مقنة أو ما يتعارف عليه بمقنة القديمة فوق طريق السبيل، ويطلق عليها أيضًا اسم الأراضي البعليّة”.
ويختم المقداد: “اليوم لم تعد فوضى المشاعات كما كانت، والتعدّي عليها صار نادرًا إثر تدابير اتّخذتها البلديّة، حيث أزالت عديدًا من المخالفات بالتفاهم، إضافة لقيامها بإنشاء محميّة على أحد المشاعات عند مدخل مقنة الشماليّ، وزرعت أشجارًا مختلفة منها ما هو مثمر، والهدف من ذلك كان تجميليًّا بيئيًّا أكثر من كونه استثمارًا”.
بلدة مقنة وإيعات ومدينة بعلبك هي مجرّد نماذج لضعف السلطات المحلّيّة وغياب الثقافة المجتمعيّة التي تتعلّق بالخير العام، فالممتلكات العامّة حقّ للجميع من دون استثناء، ومحاسبة المعتدين واجب، ولكن إن وجدت هذه المحاسبة فإنّ هؤلاء المغتصبين للمشاعات لديهم “ما يستندون إليه في اعتداءاتهم”، ولا أحد يستطيع المساس بهم، ممّا يطرح عديدًا من الأسئلة: من هم؟ ومن المسؤول عن حمايتهم؟ ولماذا التستّر عليهم في الوقت الذي يجب أن يُرفع عنهم الغطاء؟