مشروع حوريّة لذوي الإعاقة من حكاية تهميش إلى قوة وإرادة

على تخوم الألم، وفي ظلّ غياب رسميّ تامّ، حيث بات التهميش قدرًا يوميًا لأبناء البقاع، ومضاعفًا للمعوّقين جغرافيًّا وإنسانيًّا، رفضت حوريّة الفليطي، ابنة بلدة عرسال، أن تُؤدّي دور الضحيّة. الشابة المفعمة بالحيويّة والنشاط، نشأت وترعرت وكبرت مع شلل الأطفال، لم تكتفِ بتجاوز الإعاقة الشخصيّة، بل حوّلت ما يُفتَرض أنَّه ضعف إلى قوّة، فأسّست منذ ثلاثة أعوام مركزًا لرعاية الأطفال ذوي الإعاقة، بدأت بغرفة صغيرة مع طفلين، أمّا اليوم فبات مركز “متلي متلك” يحتضن أكثر من خمسين طفلًا يمنحهم العناية والرعاية وفرصة الاندماج والدعم.

من الجرح يولد الحلم

ليست حوريّة مجرَّد ناشطة في مجال الرعاية. بل هي ابنة تجربة مريرة، عرفت خلالها معنى الإقصاء لمجرّد الاختلاف، والتهميش بسبب العجز. لكنها وفي حديثها إلى “مناطق نت” شرحت كيف أنّها “أبَت الهزيمة والاستسلام”. بل وبإصرار هادئ وابتسامة دائمة، قرّرت أن تكون “صوت من لا صوت لهم، فمددت يدي إلى عشرات الأطفال، ممّن يواجهون الإقصاء والإبعاد نفسه في بلدتنا البعيدة عن المراكز المتخصّصة بذوي الإعاقة”.

تقول حوريّة: “أنا لا أقدّم خدمة، ولا أصنع معروفًا، بل أحاول إعادة أجزاء من الحياة، إلى أطفال سُرقت منهم براءتهم في لحظة ما. أزرع بسمة على وجوههم المتعبة، فكلّ طفل هنا هو مرآة لحلمي الذي كبرت معه”.

حوريّة الفليطي مؤسسة مركز “متلي متلك” لذوي الاحتياجات الخاصة في عرسال
مركز يصنع الفارق

يضمّ المركز الذي أسّسته حوريّة ما يزيد على 50 طفلًا من عرسال ومحيطها. لا يقدّم خدمات تعليميّة أو ترفيهيّة وحسب، بل يعمل على تمكين الأطفال نفسيًّا واجتماعيًّا، وتأهيلهم للاندماج في مدارسهم ومجتمعهم، في منطقة تغيب عنها المؤسّسات الدامجة الداعمة وتتراجع فيها يد الدولة.

استند المشروع كما تؤكّد حوريّة “إلى جهود فرديّة في البداية، ومساعدة واحتضان عائلتها الصغيرة، اليوم بات الفريق مُكوَّنًا من ثمانية أفراد، خمسة متخصّصين، وثلاثة إداريّين، نعمل في مجالات علاج النطق، الصعوبات التَّعلُّميّة، العلاج الانشغاليّ حركيّ حسّيّ وظيفيّ”. هذه الأنشطة تهدف إلى كسر عزلة الأطفال، وتعمل على فتح نوافذ جديدة لهم في جدران الحياة السميكة.

حكايات صغيرة إنجازات كبيرة

وراء كلّ طفل في المركز حكاية، بدأت مريرة حزينة، لكنّها اليوم باتت مليئة بالأمل والفرح، ومع كلّ خطوة تقوم بها حوريّة يولد إنجاز صعب. تقول إحدى الأمّهات: “ابني لم يكن ينطق أبدًا، ولا يختلط بأحد. اليوم تحسّن لفظه ونطقه، وبات لديه أصدقاء، يحبّ الذهاب إلى المركز أكثر من أيّ مكان آخر. هذا ليس مجرّد مركز تأهيليّ، بل بيت ثانٍ لأولادنا”.

إنّ الدعم الحكوميّ عبر وزارة الشؤون الاجتماعيّة معدوم كلّيًّا، الموارد قليلة ومحدودة، بينما الصعوبات كثيرة لتشغيل المركز وتأمين رواتب العاملين فيه

تحديات الغياب الرسميّ…

على رغم أهمّيّة مشروع المركز، ووضوح أثره النفسيّ والعلاجيّ على الأطفال، لا تزال حوريّة تواجه تحدّيات كبيرة. إنّ الدعم الحكوميّ عبر وزارة الشؤون الاجتماعيّة معدوم كلّيًّا، الموارد قليلة ومحدودة، بينما الصعوبات كثيرة لتشغيل المركز وتأمين رواتب العاملين فيه.

تقول حوريّة: “لا شيء مضمون وثابت سوى عزيمتنا، لسنا بحاجة إلى الشفقة، بل إلى شراكات ودعم مستدام كي نصل إلى مركز متخصّص شامل لذوي الإعاقة، ففي بلدتنا وفق إحصاء أُجري العام 2022 يوجد 953 معوّق يحملون بطاقات، أمَّا هؤلاء الأطفال، فهم يستحقّون فرصة عيش حياة كريمة، وفرصة اكتشاف هواياتهم واتّجاهات ذكائهم الفطريّ ليس أكثر”.

يشيد نائب رئيس البلديّة خالد زعرور في حديث إلى “مناطق نت” بما تقوم به حوريّة والجهد الذي تبذله في سبيل الأطفال المعوّقين واصفًا إيّاها “بالشخصيّة الاستثنائيّة، التي تعمل بجهد وصمت دون ضجيج وضوضاء. نعرف جميعنا أنّ الأطفال قضيّتها، تبذل في سبيلها الجهد والوقت والمال الشخصيّ أحيانًا”. ويؤكّد زعرور أنّ “دعم مركز “متلي متلك” سيكون ضمن أولويّات واهتمامات البلديّة في الفترة المقبلة، وهذا واجب مؤسّساتيّ وإنسانيّ”.

من جهته يثني مختار عرسال الأستاذ هلال الحجيري على بالجهود المبذولة في مركز “متلي متلك” واصفا مؤّسِسَته حوريّة بـ “دينامو عمل لا يكلّ ولا يملّ، أينما تذهبْ إلى ورشة عمل، أو دورة تدريب وبناء قدرات، تكون حوريّة في الطليعة، هي مثال يُحتذى في الإرادة الصلبة والعزيمة، لكن للأسف إنّ جهدها مظلوم إعلاميًّا ولم يأخذ حقّه، كونها ابنة بلدة نائية في موقع جغرافيّ هامشيّ”. ويؤكّد الحجيري وقوفه كمختار منتخب حديثًا إلى جانب المركز وفريقه بكلّ ما يستطيع، مطالبًا وزيرة الشؤون الاجتماعيّة الدكتورة حنين السيّد بدعمه ورعايته.

رسالة أبعد من المكان

ما فعلته حوريّة الفليطي لا يقف عند حدود بلدتها. بل هو دعوة صريحة ومبادرة إنسانيّة رائدة، لعلَّها تُشكّل حافزًا لإعادة النظر في معنى الإعاقة، في دور المجتمع الأهليّ، وفي مسؤوليّة الدولة تجاه أطفالها جميعًا، وبخاصّة من يحتاجون إلى رعاية استثنائيّة.

لقد نجحت حوريّة في تحوّيل الإعاقة من حكاية ضعف وتهميش إلى قصّة قوة وإرادة، ومن همّ شخصي إلى مشروع حياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى