مشغرة وجارتها سحمر تتقاسمان أهوال الحرب
في بلدته مشغرة، يقف الشاب الثلاثينيّ محمّد حسين أمام معمله للألبان والأجبان موجّهًا العمّال الذين ينظّفون الباحة الخارجيّة. معمل حسين لم يتمّ استهدافه بشكل مباشر خلال الحرب، ولكن الغارة التي أصابت منزلًا قريبًا منه أدّت إلى تضرّره جزئيًّا يُقدر حسين كلفتها بنحو خمسة إلى ستّة آلاف دولار.
ما حصل مع محمّد حسين ليس سوى عيّنة صغيرة من عيّنات كثيرة طالتها الحرب، بعضها جاء طفيفًا يمكن معالجته، وبعضها الآخر ذهب بجنى العمر وتعب السنين. “مناطق نت” جالت في عدد من قرى البقاع الغربيّ التي استهدفتها الغارات دون سواها، وهي مشغرة وسحمر، حيث عاينت مشاهد الدمار والخراب الذي حلّ بالبلدتين، والتقت عددًا من أبنائهما الذين عبّروا عن معاناتهم وأوجاعهم.
نزح محمّد خلال الحرب إلى بلدة القرعون المجاورة، إلّا أنّ زياراته إلى معمله لم تنقطع، إذ واظب بين الحين والآخر على تفقّد المعمل، وأيضًا للإطمئنان على العمّال الذين لم يغادروا المصنع وبقيوا هناك. وعلى الرغم من أنّ المصنع لم يُستهدف مباشرة، إلّا أنّ الغارة القريبة كانت كفيلة بإحداث هذا الضرر الجسيم. يقول حسين، في حديثه لـ”مناطق نت”، إنّه اضطرّ “إلى مدّ خطّ كهربائيّ جديد بكلفة 700 دولار كي لا تتُلف البضائع الموجودة في البرّادات والتي تُقدّر قيمتها بنحو 20 ألف دولار”.
بعد انتهاء الحرب، لم يعد معمل حسين يعمل بطاقته القصوى فـ”التاجر الذي يُورّد لي البضائع في الضاحية الجنوبيّة لبيروت ما زال غير جاهز بعد لمعاودة العمل، لذا فإنّ إنتاجنا حاليًّا ما زال ضعيفًا”. يأسف حسين على عدم تغطية وسائل الإعلام أخبار البقاع الغربيّ عمومًا ومشغرة خصوصًا في إبّان الحرب. وقبل أن يتابع حديثه يُقاطعه أحد الأشخاص ليُشير إلى أنّ “الأخبار كانت تُنقل عبر مراسل واحد لإحدى القنوات التلفزيونيّة، وهو يقطن في بلدة سُحمر القريبة، في حين أنّ بقيّة وسائل الإعلام لم يكن لديها أيّ تواجد في هذه البلدات”.
مشكلة الإيواء وإزالة الركام
تضمّ مشغرة نحو ثمانية آلاف نسمة شتاءً وقرابة 14 ألف نسمة صيفًا، تعرّضت إلى نحو 40 غارة نتج عنها تدمير 20 منزلًا بشكل كامل، وبعض هذه المنازل طالته الغارات أكثر من مرّة. يشرح نائب رئيس البلدية، عبدالله هدلا، في حديث لـ”مناطق نت”، واقع البلدة في الوقت الحالي، ويُشير إلى أنه “بعد إعلان وقف إطلاق النار وعودة النازحين طغى الإرباك على المشهد العام في البلدة لعدّة أيام، لكن بعد نحو أسبوع استقرت الأمور، وباتت الكهرباء والمياه تصلان إلى معظم المنازل، باستثناء تلك التي تضرّرت خطوط المياه والكهرباء فيها وتحتاج إلى إزالة الركام قبل إصلاحها”. أما عن شبكة الإنترنت والاتصالات، فيلفت هدلا إلى أنها “ما زالت بطيئة نتيجة تدمير إحدى محطات الإرسال في البلدة”.
ويؤكد هدلا أن “المشكلة الأساسية التي تواجه البلدة حاليًّا هي إزالة الركام وإيواء المواطنين الذين فقدوا منازلهم أو تضرّرت بشكل كبير، وتُقدّر بنحو 50 منزلًا”، مضيفًا إنّ “ما يزيد من صعوبة الموضوع هو عدم وجود منازل للإيجار، وهذا ما أدّى إلى عدم عودة جميع أهالي البلدة”.
وكان أبناء “جارة القمر”، التي قدمت 24 شهيدًا خلال الحرب، قد نزحوا بثلاثة اتّجاهات، الأوّل نحو الخطّ الغربيّ من عيتنيت إلى كفريّا، والثاني باتجاه الخطّ الشرقيّ من القرعون إلى غزّة البقاعيّة، والثالث باتّجاه راشيا الوادي، في حين قرّرت نحو 150 عائلة البقاء في البلدة.
حرب “مؤذية وصعبة”
يسود مشهد الدمار في الشوارع الداخلية لمشغرة، يقف علي حسين عمّار أمام ركام منزل ابن عمّه الذي استشهد بداخله. ينظر إلى الركام ويستذكر تلك الليلة التي ودّعه فيها واتّجه إلى منزله القريب، وما هي إلّا ساعات، وتحديدًا عند الـ 11 والنصف ليلًا، حتّى سمع دويّ انفجار قويّ ليكتشف أنّ المستهدف هو منزل ابن عمّه الذي قضى فيه على الفور.
وكان أبناء “جارة القمر”، التي قدمت 24 شهيدًا خلال الحرب، قد نزحوا بثلاثة اتّجاهات، الأوّل نحو الخطّ الغربيّ من عيتنيت إلى كفريّا، والثاني باتجاه الخطّ الشرقيّ من القرعون إلى غزّة البقاعيّة، والثالث باتّجاه راشيا الوادي
كان المنزل الذي يقطن فيه ابن عم علي عمّار يضم دكّانًا صغيرًا وخلفه مزرعة أبقار “فنحن عائلة تعمل في تربية الطرش (الأبقار)، وهذا ما دفعنا إلى عدم النزوح، إذ إنّنا في حال نزوحنا سنكون مضطرّين إلى نقل الأبقار وإيجاد مزرعة لها، وهذا أمر في غاية الصعوبة، والخيار الآخر هو المجيء يوميًّا لإطعامهم مع ما يتضمّنه ذلك من مخاطر التنقّل على الطرقات، لذا قرّرنا البقاء في منازلنا”، وفقًا لما يقوله عمّار لـ”مناطق نت”.
يؤكّد عمّار أنّ هذه الحرب كان صعبة للغاية فهي “مُؤذية وفيها تدمير كبير، بعكس حرب تمّوز (يوليو) 2006 التي تركّزت فيها الغارات على قطع الطرقات”.
سُحمر تدفع الثمن الأكبر
من مشغرة، إلى جارتها سُحمر الواقعة على الضفة الأخرى، البلدة التي يسكنها نحو سبعة آلاف نسمة على مدار العام، تعرّضت إلى أكبر عدد من الغارات والضربات بين جميع بلدات البقاع الغربيّ. فما إن تطأ قدماك أرض البلدة حتّى تشاهد أحد الأبنية الضخمة سُوّي تمامًا بالأرض، لتكتشف لاحقًا أنّه مبنى “معصرة زيتون” استهدفها العدو الإسرائيليّ عدّة مرّات. إلى الأمام قليلًا، نصل إلى الشارع الرئيس في البلدة حيثُ تقع معظم المحال والمؤسّسات التجاريّة، إلّا أنّ هذا الشارع تحوّل إلى أكوام من الركام والمنازل المُصدّعة أو المحترقة.
يسارع المهندس علي قمر، الذي نزح منذ اليوم الأوّل للحرب إلى بلدة جبّ جنّين، وعاد إلى بلدته فور إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إلى تصليح الزجاج المحطّم في منزله. يشرح قمر، في حديث لـ”مناطق نت”، أنّ أكثر ما آلمه عند عودته هو أنّ “في هذه البلدة، لا يوجد منزل إلّا وقدّم شيئًا، شهيدًا أو منزلًا أو أضرارًا مادّيّة”، مضيفًا أنّ “الشهداء الذين سقطوا لا يعوّضون بثمن”. ويلفت إلى أنّ “أهالي البلدة عادوا بسرعة مذهلة حتّى من كان منزله متضرّرًا، وهذا دليل على تشبّثهم بقريتهم ويدلّ على مدى حبهم لها”.
ويوضح قمر أنّ “الحركة الاقتصاديّة في البلدة قائمة على المصالح الخاصّة من الصناعة والحدادة والبناء وغيرها، في حين أنّ نسبة المغتربين فيها محدودة”. ويسترسل في حديثه عن بلدته شارحًا معاناتها من التهميش والإهمال فـ”الدولة مقصّرة بكثير من الجوانب معنا، مثلًا، إنّ نسبة الموظّفين من أبناء البلدة في مؤسّسات الدولة متدنّية جدًّا، ولم يُعيّن من أبنائها أيّ شخص في منصب مدير عام أو رئيس مصلحة أو أيّ منصب رفيع آخر، ومن أصل سبعة آلاف مواطن هناك فقط ضابطتان، بينما يختلف الوضع في قرى الجوار”. ويؤكّد أنّ “البلدة بنت نفسها بنفسها من خلال أبنائها القاطنين فيها والمغتربين عنها”.
تحسّن الحركة التجاريّة
في إحدى زوايا ساحة البلديّة، يجلس قاسم قزويني وهو في العقد الرابع، أمام متجره لبيع الأدوات المنزليّة ينفث النرجيلة. يتحدّث قزويني إلى “مناطق نت” عن يوميّاته خلال الحرب إذ كان يغادر بلدته ليلًا إلى إحدى البلدات القريبة، ليعود في صباح اليوم التالي إليها “وأوّل ما كنت أفعله هو سقاية الورود وإطعام القطط”، يبتسم متفاخرًا بأنّه “على رغم الحرب والتهجير أستطعت الحفاظ على الورود أمام محلّيّ”.
ويلفت قزويني إلى أنّه “فور وقف إطلاق النار، قمت بتنظيف المحلّ من الزجاج المتطاير جرّاء القصف، وإعادة فتح أبوابه أمام الزبائن”، مضيفًا أنّ “الحركة التجاريّة اليوم أفضل من فترة ما قبل الحرب، إذ أن هناك كثيرًا من المنازل التي تضررت وبات أهلها بحاجة إلى أدوات منزليّة جديدة”. ويؤكّد أنّ “هذه الحرب هي بمثابة “دمار شامل”، ثمّ تقاطعه سيدة سبعينيّة تجلس إلى جواره قائلة: “هذا عدوان وليس حرب”، في إشارة منها إلى حجم الأضرار الكبيرة الذي شهدته البلدة.
130 وحدة سكنية حصيلة العدوان
في أثناء جولتنا نلتقي برئيس البلديّة المُنتخب حديثًا أيمن حرب، بعد استشهاد رئيس البلديّة السابق حيدر شهلا إثر غارة إسرائيليّة استهدفته في بلدة بعلول. يشرح حرب، في حديث لـ”مناطق نت”، أنّ “البلدة تعرّضت إلى قصف طاول 70 مبنى بعضها يحتوي على مؤسّسات تجاريّة وبعضها الآخر يضمّ أكثر من ثلاث إلى أربع وحدات سكنيّة”، مضيفًا أنّ “مجموع الوحدات السكنيّة التي تعرّضت للاعتداء تجاوز الـ 130 وحدة من أصل نحو 1200 وحدة سكنيّة في البلدة”.
حرب: مجموع الوحدات السكنيّة التي تعرّضت للاعتداء تجاوز الـ 130 وحدة من أصل نحو 1200 وحدة سكنيّة في البلدة
يستذكر حرب شهداء البلدة البالغ عددهم 54 شهيدًا، وفي مقدّمهم شهلا الذي “كان حاضرًا بين الأهالي منذ اللحظة الأولى للعدوان، فبعد توسّع الحرب نزح الأهالي إلى القرى المجاورة، فتوجّه شهلا إليها للمساعدة في تأمين مراكز للإيواء وتقديم المساعدات”، موضحًا أنّ “تلك البلدات استضافت أهالي البلدة بكلّ محبّة وانشالله نقدر نوفيهن حقن”.
يضيف حرب أنّه “فور وقف إطلاق النار باشر عمّال البلديّة بالعمل على إزالة النفايات وتصليح ما أمكن من الأضرار وفقًا للإمكانات المُتاحة”. ويلفت إلى أنّه “جرى تصليح معظم أضرار الكهرباء لتصل إلى نحو 80 في المئة من المنازل، وهذا التأخير يعود سببه إلى أنّ هناك فرقة واحدة مؤلّفة من ثمانية أفراد تعمل في خمس بلدات هي سحمر ويحمر وزلّايا وقليا ولبّايا”. ويُشير إلى أنّ “شبكة الإنترنت التابعة لأوجيرو تعطّلت، ويعتمد أهالي البلدة في الوقت الحالي على شركات خاصّة، وكانت البلديّة قد واكبت هذه الشركات خلال الحرب فأمّنت التيّار الكهربائيّ إلى محطّاتهم”.
وتحدّث حرب عن أنّه “في خلال الحرب لم يبقَ في البلدة سوى 15 عائلة، حتّى إنّ هذه العائلات نزح بعض أفرادها. أمّا اليوم فقد عاد معظم أبناء البلدة باستثناء جزء قليل”، موضحًا أنّ “عدم عودة هؤلاء يعود إلى تعرّض منازلهم إلى لدمار الكلّيّ أو تضرّرها بشكل كبير ممّا دفعهم إلى البقاء في المنازل التي استأجروها خلال الحرب، بانتظار الانتهاء من تصليح منازلهم، كذلك فإنّ ثمة فئة لا تملك الإمكانات المادّيّة لتصليح منزلها قرّرت السكن عند أقربائها في البلدة”. ويختم مؤكّدًا أن “الحركة التجاريّة والاقتصاديّة في البلدة تعود تدريجًا”.