مصير أولاد المقتولات “شرفاً” في البقاع
بعد ما يقارب الإثني عشر عامًا على إلغاء المادة 562 المتعلقة باستفادة القاتل بدافع “الشرف” من الأحكام المخففة أو الأعذار المحلّة للجريمة، وتنطبق على كل من” فاجأ زوجه، أو أحد أصوله، أو فروعه، أو أخته في حالة الزنى المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع، فأقدم على قتل أحدهما أو إيذائه بغير عمد..”
وبالرغم من مختلف حملات التوعية والمبادرات المدنية والرسمية للحدّ من جرائم القتل والإيذاء بحجة “الشرف” على مدى السنوات الفائتة، وبالرغم من شبه الإجماع المجتمعي على رفض هذا التقليد الرجعي والوحشي. بات السّؤال ملّحًا: إلى أي مدى لا تزال هذه الجرائم منتشرة في البقاع الشمالي وخاصةً في غياب الإحصاءات الرسميّة الدقيقة؟ ما مصير هذه القضايا في المحاكم؟ وهل مهدت هذه العادات الطريق أمام الجناة للإفلات من العقوبة؟ وما مصير أولاد المقتولات “شرفًا”؟
معدلات مرتفعة وملابساتها
في لبنان، خضعت المادة 562 لنقاش وجدل في مناسبات عدة على مدار العقود الماضية. تم تعديلها عام 1999 لتضييق المعاملة التفضيلية في جرائم الشرف عن طريق استبعاد الجرائم المتعمدة من دائرة التخفيف في الأحكام. المادة 562 قبل 4 آب 1999 كانت تنصّ على أنه يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه، أو أحد أصوله، أو فروعه، أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في حالة الجماع “غير المشروع”، مثل العلاقات الجنسية المثلية، فقتل أو أذى أحد الطرفين بغير عمد.
من النافل القول، أنه من المستعصي على الباحثين بهذا الشأن إحصاء حالات جرائم القتل بدافع “الشرف” التّي حصلت في السنوات الأخيرة في بعلبك – الهرمل، فمن جهة معظم هذه الجرائم يتستر مرتكبيها تحت أعذار مختلفة بينما يتوارى غالبيتهم عن الأنظار بعد ارتكابهم الجرم، بل وأحيانًا يبرر مقتل الضحية بانتحارها، فضلاً عن السيناريوهات النمطيّة التّي تنبثق لتبرير الجريمة أو للتملص منها. ما يسهل تفلت مرتكبيها من العقاب. ثم أن هذا النوع من العنف مُرتبط بواقع اجتماعي يبرره من جهة، وبواقع قضائي محكوم بتشريع مُنطلق من أعراف وفلسفات ذكورية مهيمنة، من جهة أخرى..
معظم هذه الجرائم يتستر مرتكبيها تحت أعذار مختلفة بينما يتوارى غالبيتهم عن الأنظار بعد ارتكابهم الجرم، بل وأحيانًا يبرر مقتل الضحية بانتحارها، فضلاً عن السيناريوهات النمطيّة التّي تنبثق لتبرير الجريمة أو للتملص منها. ما يسهل تفلت مرتكبيها من العقاب
وعادةً ما تُعزى مثل هذه الجرائم المحرمة قانونًا ودينيًا في بعلبك – الهرمل لأسباب وحوافز عدّة، منها حالات “الخطيفة” وهي الزواج خلسةً أو من دون موافقة الأهل، أو من دون موافقة الطرف الآخر (المرأة عادةً)، فضلاً عن العلاقات الجنسية التّي تحدث بالتراضي بين طرفين ويكتشف ذويهما حصولها، أو حتّى في حالات الاغتصاب التّي عادةً تزوج فيها الفتاة للمغتصب (الذي هتّك شرفها) أو تُقتل بسبب الجريمة التّي تعرضت لها، فترتكب بحقها جريمتين.
أسباب كثيرة تبرر الجريمة، وموت النسوة في البقاع الشمالي واحد. وفي حين تقتل بعض النسوة، حتّى ولو لم تتوافر الحوافز المذكورة أعلاه، بل استنادًا لمجرد الشكّ أو الظنّ بالضحايا. ومما لا شكّ فيه أن انفتاح المجتمع البقاعي والعشائري منه ومع تضاؤل صلاحيات مجلس العشائر، تحديدًا قد أسهما في تضاؤل نسبي لمعدلات هذه الجرائم، إلا أن الواقع لا يزال يطغى عليه نفس النوع من القمع وإن كان نفسيًا في غالبية الأحيان.
توريث “العار”
تقليديًا، وبعد قتل الجناة بناتهم أو زوجاتهم أو أخواتهم، يحتفل المؤيدين والمقربين “بغسل شرف العائلة المنتهك،” بالدم، ويمشي الجاني مرفوع الرأس جذلانًا بغسل العار الذي لن ينسحب بعد قتل التي هتكته لأبنائها وأحفادها أو يلازم عائلتها. لكن فعليًّا ماذا يحلّ بهؤلاء الأطفال الذين فقدوا أمهاتهن على وجه التخصيص؟ ما تبرير غيابهن؟
وعليه، تواصلت “مناطق نت” مع سارة (اسم مستعار) (25 سنة، لبنانية من إحدى البلدات البعلبكية)، للاستفسار عن مقتل والدتها بحجة “الشرف” (تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا التسمية الدارجة بالرغم من اعتبارنا أن جرائم الشرف هي جرائم قتل لا شرف فيها أبدًا). وكيف تعايشت مع غياب والدتها، والنظرة الاجتماعية الدونيّة التّي لحقت بها وبأخوتها.
تقول سارة: “أمي قتلت وأنا أبلغ حوالي العاشرة من عمري. لم أكن أفهم سبب غيابها وغياب أبي في آن واحد، أُجبرنا أنا وأخوتي الصغار على العيش في منزل جدي لفترة وجيزة. في البداية كنا نسأل فلا نسمع إجابة منطقية، تارةً يقولون “يلا شوي وبيجوا” وتارةً أخرى لا يجيبوننا، مع الوقت عاد أبي وأخذنا إلى المنزل لكن من دون أمي التّي قالوا لنا أنها انتحرت، عندما تقدمت بالسّن صرت أسمع الهمز واللمز من وراء ظهري، حتّى أدركت أن والدتي قد قتلت بحجة “الشرف” فقط لأنها قررت أن تُطلق والدي المعنف.
تركت منزل أبي واليوم أكمل تحصيلي العلمي في المحاماة لتحقيق عدالة والدتي”. تُضيف: “عانينا أنا وأخوتي أفظع أشكال العنف المجتمعي، من السخرية والشتيمة وصولاً لمقاطعة المقربين، لأننا وصمنا بعارٍ وهمي. أما أبي فكان بطلاُ في عيونهم، أبي الذي سجن ثلاث سنوات فقط بتهمة قتل زوجته وأمي التّي قتلت لأنها أرادت أن تنجو بنفسها وبنا منه”.
سارة: عندما تقدمت بالسّن صرت أسمع الهمز واللمز من وراء ظهري، حتّى أدركت أن والدتي قد قتلت بحجة “الشرف” فقط لأنها قررت أن تُطلق والدي المعنف.
أما عن محمود (22 سنة، لبناني من مدينة بعلبك) فيروي تجربة إحدى قريباته والتي قُتلت فقط لكونها قررت الزواج من طائفة أخرى منذ حوالي السنتين، حيث أطلق عليها والدها الرصاص ليلاً ورماها إلى جانب مكب النفايات المحاذي لمنزلهم. قريبته التي لا يتجاوز عمرها العشرين قُتلت ورميت في الشارع العمومي. لم تتحقق عدالتها لليوم، إذ أن الجاني قد قامت القوى الأمنيّة بتوقيفه لحظة العثور على الجثة للتحقيق معه وأطلق سراحه بعد يومٍ واحد إثر تدخل الوساطات الحزبية.
ويقول محمود: “والد الضحية يمشي مرفوع الرأس اليوم متفاخرًا بغسل شرفه، بينما ترقد ابنته المقتولة بلا عدالة ولا من يتأسف على حياتها وشبابها الضائع”.
بانتظار العدالة
سجلٌ طويل من الضحايا المقتولات ظلمًا، ولا يزلن بانتظار العدالة كمواطنات في دولة تنصّ تشريعاتها على تجريم القتل بكل أسبابه، كجريمة عنيفة لا مسوغ إنساني، أو أخلاقي، أو قانوني، أو منطقي لها، وفي حين تتقاعس السّلطة اللبنانية القاتلة والهادرة للأرواح والحقوق عن أداء واجباتها تجاه هؤلاء النسوة، عبر التغاضي عن الجناة أو إنزال عقوبات مخففة بحقهم، صارت معالجة مثل هذه القضايا الأساسيّة في يدّ المواطنين لا السّلطات المولجة والمعنية. إذ يضطر بعضهم للثأر من الجناة وقتلهم، وتكريس شريعة أخذ الحق باليد لا بالقانون.
واليوم، على السّلطة والقضاء اللبناني الذي يقع على عاتقه الحكم باسم العدالة، أن يبدأ بمعالجات جديّة لاجتثاث هذه الآفة التّي راح ضحيتها عشرات النسوة اللبنانيات والبقاعيات ولا يزلن.