مطعم العجمي: أكثر من 100 عام في بعلبك.. أكلت منه أم كلثوم وفيروز وهذه حكايته!!
حكاية مطعم العجمي في بعلبك واسترجاع سيرته، ليسا تأريخا لهذا المشروع التجاري فقط، وما كان لـ”مناطق نت” يوما شأنٌ بهذه الأمور، إنما هما فصلٌ من حكاية المدينة الطويلة وصيرورتها، فالتاريخ لا يُكتب بالكلمات والحوادث وحدها، إنما يُخطُّ أيضا بالأشياء والمعالم والمنشآت.
وإذا كان نشوء وتأسيس المطاعم في مثل هذه الأيام أمرا لا يتعدى الحالة الشخصية والبحث عن الارتزاق والتربح، إلا أن تأسيس مثل هذه المشاريع في بدايات القرن الماضي هو أمر مختلف جدّا، فيه الكثير من الدلالات والمؤشرات، تعيدنا إلى طفولة المدينة ورحلة نموها ونضوجها، واجتهادها بالمبادرات الفردية لأبنائها في ركوب موجات العصرنة والتحديث، لنصل إلى فهم ما هي عليه الآن.
“العجمي” ليس مجرد مطعم خُطّ إسمه في سجلات وزارة السياحة ليكتسب رخصة افتتاح وشرعية عمل، إنما هو اسمٌ خُطَّ وحُفر في الذاكرة الحية لأبناء وأهالي بعلبك. حتّى إنّه صار ركناً من أركان المدينة واسم يلازمها، فلو سألت غريباً ماذا يعرف عن بعلبك حتماً ستكون إجابته مختصرة ببعض المعالم كقلعة بعلبك ومطعم “العجمي”.
يجسّد المطعم حكاية أخوين لم يملكا سوى العزم والإرادة والهمة القوية فاستثمراها ليصبح هذا المطعم لاحقًا، معلمًا تراثيًا وتاريخيًا ذائع الصيت، ارتبط بحضارة وثقافة المدينة مرسّخًا إسم آل “العجمي” على مر العصور، فمن هي تلك العائلة ومن أين وفدت.
في العام 1920 قام علي محمد الاصفهاني (العائلة التي عُرفت لاحقًا بالعجمي) وأخوه رضا بتأسيس مطعم “العجمي” في بعلبك. جاء ذلك بعد هزيمة الأتراك وانتهاء الحرب العالمية الأولى وأيضاً مع بداية مرحلة الانتداب الفرنسي. كان علي محمد العجمي في العشرين من عمره، التحق به شقيقه رضا ليساعده لاحقاً عندما أصبح في سن يؤهله لذلك، فعملا جنباً إلى جنب ممّا حقق لهما النجاح بعد مسيرة من العمل المتعب والمشقات التي رافقتهم.
حسب الروايات، كانت عائلة الاصفهاني وقتها قد قدمت حديثا من نجف آباد إيران إلى بعلبك، وذلك في ثمانينيات القرن التاسع عشر (١٨٧٠-١٨٨٠)، فأعجبتهم المدينة وراق لهم العيش فيها، فاستقروا حتى صاروا من عداد العائلات البعلبكية القديمة. وكان أول مشروع استثماري لهم فيها قبل المطعم، أن افتتحوا مقهى في ساحة السراي يقدمون فيه الشاي والقهوة فقط، و”كانت تلك الأيام ايام فقر وأوضاع اجتماعية صعبة”، وبعدها تحولوا إلى صنع الطعام، الذي كانوا بارعين فيه في إيران ، وهكذا افتتحوا مطعم العجمي.
هاجر آل العجمي من إيران، وتحديداً من نجف آباد – حسب الروايات – في ثمانينيات القرن التاسع عشر (١٨٧٠-١٨٨٠) إلى لبنان، وبالتحديد إلى بعلبك، فأعجبتهم المدينة وراق لهم العيش فيها، فاستقروا حتى صاروا من عداد العائلات البعلبكية القديمة والمعروفة في بعلبك
تاريخ مطعم “العجمي”
في تعداده للأنشطة التجارية في بعلبك ببداية القرن الماضي، يقول ميخائيل موسى ألوف في “تاريخ بعلبك”، أن سوق المدينة آنذاك، كانت “تشتمل على 170 دكانا وصيدليتين وثلاث قهاو وأربعة عشر طاحونًا وحمام واحد وثلاث نُزُل (لوكندات) متقنة لقبول الغرباء”. واضح آنذاك، أن بعلبك لم تكن تستثمر في مجال صنع الطعام وبيعه، لذا جاء تأسيس مطعم العجمي في ال 1920 أي بعد 20 عامًا ليسد نقصًا مدينيًا، ويلبي حاجات توسّع السوق فيما بعد بتزايد قدوم الغرباء وغير المقيمين فيها إليها.
تمّ توقيع أول عقد إيجار بين الحاج علي محمد والسّيد ميشال المطران والد رياض المطران عام 1920 مقابل ليرة “مجيدية ذهبية” ومع بداية العام 1924 تحوّلت العملة إلى اللبنانية -السورية، وذلك بعد إنشاء بنك سورية ولبنان، حيث تم اعتمادها إلى حين إعلان استقلال البلدين.
كان المطعم من بداياته إلى مراحل نضوجه وشهرته أي إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، مشروعًا عائليًا صرفًا حكرًا على آل العجمي ذكورًا وإناثًا، فقد كانت نساء آل العجمي يطهون جزءًا من الطعام في منازلهن منذ تأسيس المطعم حتى العام ١٩٩٠، متل الكبة، وورق الملفوف، وورق العنب أو العريش، بينما كان يتم طهي الأطباق الأخرى في داخل المطعم، مثل البامية والفاصوليا والكوسا والملوخية وهي أطباق من المطبخ التركي بالإضافة إلى المشاوي.
عمل الجيل الأول من آل العجمي الأخوان علي ورضا على مدار سنوات وكتبا للمطعم درب النجاح الذي استكمله الجيل الثاني من آل الاصفهاني وهما “أبو قاسم أحمد علي الاصفهاني” و”حسان رضا الأصفهاني”. يروي أبو حسين اسماعيل الاصفهاني احد أبناء علي محمد المؤسس الاول لمطعم العجمي لـ “مناطق نت” أنه في تلك الفترة، وتحديداً في العام 1967 بدأ انتشار العمران في مدينة بعلبك، حيث تم توسعة الطرقات عند نزلة العجمي، فتم تسمية الطريق بـ “نزلة العجمي”، والشارع المقابل بـ “طلعة العجمي” نسبة إلى المطعم نفسه. ولا تزال هذه التسميات سارية حتى وقتنا هذا كإشارة يستدلّ بها الأهالي على بعض المحلات والمؤسّسات.
مع بدء انتشار العمران في مدينة بعلبك، تم توسعة الطرقات عند نزلة العجمي، فتم تسمية الطريق بـ “نزلة العجمي”، والشارع المقابل بـ “طلعة العجمي” نسبة إلى المطعم نفسه. ولا تزال هذه التسميات سارية حتى وقتنا هذا
لاحقًا تمّ توسيع الطريق ما استدعى اقتطاع جزء من المطعم، فتم شراء المحل المجاور له من السيد يوسف الرفاعي، والذي كان متخصّصًا ببيع الحنطة. في تلك المرحلة تم تعديل وتحسين ديكور المطعم بالعديد من الإضافات التي تتناسب مع متطلبات العصر، بالإضافة إلى تحديث الأدوات والأواني مع الإبقاء على نوعية الطعام نفسها التي هي سر من أسرار نجاح المطعم.
في العام 1970، انضم إلى العمل في المطعم الحاج “بهزاد” و”علي” و”فيروز” الأصفهاني لمساعدة آبائهم وأشقائهم لاستكمال المسيرة. ولاحقاً تحول “العجمي” إلى معلم ورمز ومرجعية في المطاعم، كان له الفضل في تخريج العديد من الطهاة الذين تركوا بصمة في العديد من مطاعم المدينة لاحقًا بحسب قول أبو حسين.
من بعلبك إلى العالميّة
من المعروف أن الطعام الذي كان يُقدّم على طاولات مطعم العجمي له نكهة خاصة ومميّزة. يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أنه كان يُحضّر في منازل آل العجمي تطبخه نساءهم، وبخبرتهنّ الواسعة في هذا المجال كنّ يحضرنَ الطبخ المنزلي من “الفاصوليا” و”البامية” والملوخية” و”الأبلما” و”الكوسى” و”ورق العنب” و”الملفوف” وكل المقبلات والمتبّلات والسلطات بالإضافة إلى “الكبة” و”الصفيحة البعلبكية”، إلى أن تم الاعتماد لاحقاً على طهاة وطبّاخين، تقاعد آخرهم منذ حوالى السنتين.
في الماضي، كان مطعم العجمي يقدم المشروب والكحول، غير أنه كان يمتنع عن تقديمه في شهر رمضان وخلال محرم، وكان يعتذر من زبائنه لا سيما الأجانب عن تقديم المشروب في هذه الفترات، فيما بعد أقلع المطعم عن تقديم المشروب نهائيا بعد أن اشتدت النزعة الدينية في بعلبك والتي ترافقت مع تهديدات واعتداءات على أماكن بيع الكحول وشربها، حيث كان يتم وضع انذار تحت الباب للمحلات التي تقدم مشروباً، وفي حال عدم التزامها كان يتم تفجير المحل، وفي تلك الفترة تم تفجير ثلاث محلات.
ذاع صيت مطعم العجمي في أنحاء العالم كافة، بعد أن كان المطعم الوحيد في بعلبك والأشهر في زمن الانتداب الفرنسي حيث كان أفراد من الجيش يتهافتون على المطعم. من جهة أخرى، لعب السيّاح الأجانب من مختلف دول العالم دورًا كبيرًا في ذلك، حيث كانوا يقصدون المطعم بعد زيارة قلعة بعلبك. يقول الاصفهاني إنّ العديد من الإيرانيين الذين كانوا يزورون مقام السيدة “خولة” في بعلبك كانوا يقصدون مطعم العجمي، وكانوا يكتبون عن المطعم في مقالاتهم وكتاباتهم الصحافية. ففي صحيفة “كيهان” الايرانية كُتب مقال يتحدّث عن مطعم العجمي وأكله المميز، وكذلك الأمر بالنسبة للأجانب والفرنسيين الذين ذكروا مطعم العجمي قي العديد من كتاباتهم.
في تلك الحقبة كان مطعم العجمي من المطاعم الأهم في بعلبك ومن المعالم السياحيّة المميزة فيها، تم تسجيله في الدليل السياحي الصادر عن وزارة السياحة اللبنانية بدرجة خمس نجوم، بالإضافة إلى توقيع عقد بين أصحاب المطعم والشركات السياحيّة، مما ساهم في تطوّره وشهرته أكثر. كان المطعم مقصدًا للخاصة والعامة، وأبرزهم الرئيسين صبري حمادة ورياض الصلح، ويذكر أبو حسين اسماعيل أنه كان هناك علاقة جيدة ومميزة بين الرئيس حمادة وجدوده آل العجمي وهو الذي سعى لهم ليأخذوا الجنسية اللبنانية، وكان حمادة من رواد المطعم، وكان دائماً يطلب الطعام من المطعم ويرسل سائقيه ليأخذوا الطعام إلى الهرمل. هذا بالإضافة إلى العديد من النواب منهم على سبيل المثال محمود عمار، وشفيق مرتضى ونايف المصري. وغيرهم من نواب المنطقة.
كما زاره العديد من المشاهير والفنانين والشعراء والممثلين، أمثال الرحابنة والمطربة صباح ووديع الصافي وميشال طراد ونصري شمس الدين، وكل الفعاليات التي كانت تزور بعلبك في فترة المهرجانات الدولية. أمّا أم كلثوم فلم تزر المطعم شخصيًّا، ولكنهم طلبوا لها الطّعام من مطعم العجمي وتناولته في القلعة.
زار العجمي العديد من الشخصيات الرسمية أبرزها الرئيسين صبري حمادة ورياض الصلح والفنانين والشعراء والممثلين، أمثال الرحابنة والمطربة صباح ووديع الصافي وميشال طراد ونصري شمس الدين. أمّا أم كلثوم فقد طلبوا لها الطّعام من مطعم العجمي وتناولته في القلعة
تحوّل عبر الزّمن
كان مطعم العجمي مقصدًا لكلّ من يتجوّل في بعلبك. لم تكن طاولات المطعم ناقصة يومًا، كان النّاس يتناولون الطعام ويشربون الشاي العجمي ويأكلون سويّة ويقضون بقية النهار يتسامرون في المطعم. لم يكن هناك طاولات متفرّقة في المكان، كان المطعم يبدو من البعيد طاولة واحدة، طاولة جمعتها الأجواء المؤنسة بين أصحاب المطعم وزبائنهم.
بقي مطعم العجمي محافظًا على وجوده وإسمه، وظلّ يعبّر عن نسب آل العجمي على الرغم من تبدّل إدارته منذ حوالي الثلاث سنوات كما يقول أبو حسين العجمي. حيث انتقل العمل داخل المطعم من آل العجمي إلى آل حبيب بموجب عقد استثمار مدته خمس سنوات. ومع ذلك التبدّل بدأ المطعم يتشبّه بسائر المطاعم في مدينة بعلبك مقدّمًا الوجبات السريعة والأكلات الحديثة التي انتشرت موخّراً، مبتعدًا عن الطبخ الذي لم يعد مطلبًا لشباب اليوم.
وبالرغم من أن مطعم العجمي لا يزال راسخاً في ذاكرة بعلبك وفي جغرافيتها، إلا أن هويته قد تغيّرت، فالطعام الذي كان يقدّمه تبدّل بحكم تبدّل أذواق العامّة وطلبات الزّبائن. صار مطعم العجمي يبحث عن “ديكورات” جديدة تستهوي الجيل الجديد الذي أصبح يبحث عن أمكنة تضيف جمالًا لصور “السلفي” التي يلهو بالتقاطها، غير باحثٍ عن طعام يستلذّ بطعمه، طعام مشوب بطعم التراث والزمن وسيرة أوّل مطعم في بعلبك الساحرة.