معابر التهريب في البقاع الشمالي.. رسم دخول للأفراد وتفاوت في البضائع والأسعار
“أستخدم “جيب شيروكي” خاص خلال عملية تهريب الدخان، فأثني المقاعد الخلفية وأعبئها بالصناديق، وأستعمل دراجة نارية (بارت) لنقل السوريين إلى الداخل اللبناني عبر معابر قرية القصر في الهرمل”.. هذا ما يقوله أحد المهربين م. ن. لـ “مناطق نت” ويختصر إلى حدٍ بعيد حال الحدود السائبة بين لبنان وسوريا، والتي تمتد على طول 375 كيلومتراً بدءاً من ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً وصولاً إلى السلسلة الشرقية لجبال لبنان، لتنتهي جنوباً عند مزارع شبعا المحتلة.
الحديث عن أعمال التهريب لا يُعدّ جديداً، خصوصاً في بعلبك-الهرمل، حيث تعتبر هذه الأعمال جزءاً من الحياة الإقتصادية للقرى الحدودية المتاخمة لسوريا، وهي ليست وليدة الأزمة المستجدة، بل ترقى إلى ستينيات القرن الماضي حيث برزت منذ ذلك الحين كمشكلة اقتصادية وَجُب معالجتها، لكنها لم تعالج، فاستمر أبناء المنطقة يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وإذا كانت الطبيعة الجغرافية الوعرة والمتداخلة التي تتميز بها المناطق حيث معابر التهريب، هي ما يجعل أمر مكافحتها أمراً صعباً، فإن انهيار الدولة بأجهزتها كافة، معطوفاً على الأزمة الاقتصادية والنفوذ الحزبي والعائلي، هو ما يجعل التهريب يتم على نطاق واسع، بحيث أصبح ظاهرة كبيرة تصعبُ مكافحتها، وهذا ما ينعكس سلباً على الاقتصاد اللبناني أكثر من أي وقت مضى بسبب الأزمة الحالية التي يعاني منها لبنان.
أكثر من 136 معبراً غير شرعياً
أكثر من 136 معبراً غير شرعياً (بحسب وثيقة أمنية عرضت في البرلمان اللبناني العام 2019) تنتشر على طول الحدود بين سوريا ولبنان. أكثرها نشاطاً هي المعابر اللبنانية المتاخمة للأراضي السورية، بحيث يوجد أكثر من 33 أرض حدودية مشتركة على الجانبين سكانها من اللبنانيين. وفي ظل هذا الشيوع الحدودي واشتداد الأزمات الاقتصادية في كلا البلدين برزت ظاهرة التهريب كنتيجة طبيعية لهذا الواقع خاصةً على الحدود الشرقية وهي الأكثر نشاطاً في محافظة بعلبك-الهرمل.
بالمقابل ينظم هذه الحدود سيادياً، 6 معابر شرعية على الجانبين اللبناني والسوري وهي المعبر الحدودي الساحلي العريضة، معبر الدبوسية، معبر تلكلخ، معبر جوسيه، معبر حمرا الحدودي الذي تم افتتاحه العام 2022 ومعبر المصنع (جديدة يابوس) الّذي يُعد المعبر الرئيسي بين البلدين.
أكثر من 136 معبراً غير شرعياً تنتشر على طول الحدود بين سوريا ولبنان. أكثرها نشاطاً هي المعابر اللبنانية المتاخمة للأراضي السورية، بحيث يوجد أكثر من 33 أرضاً حدودية مشتركة على الجانبين سكانها من اللبنانيين
شرقاً حيث محافظة بعلبك-الهرمل والتي تمتد على طول 210 كيلومترات، تنتشر المعابر غير الشرعية من شرق بعلبك وصولًا إلى شرق الهرمل، حيث تنشط فيها عمليات التهريب بشكل شبه يومي، بدايةً من قرية جنتا وحام ومعربون إلى سرغايا والزبداني، ومن طفيل إلى عسال الورد. تتميز هذه المعابر بطرقها الجبلية الوعرة، وتستغلها بعض الجهات الحزبية لموقعها الأمني الّذي يخدم مصالحها، كما تنتشر على مداخلها حواجز عسكرية للجيش اللبناني للتدقيق بالهويات.
لكن للمهربين طرقهم الخاصة بالوصول إلى المعابر وإلى الطرقات الأطول والأكثر وعورةً، وهي المعابر الجردية في بلدة عرسال التي اشتهرت قديماً بتهريب مادة المازوت والتبغ، وهي اليوم أكثر انضباطًا من غيرها لما نتج عن معركة فجر الجرود من انتشار كبير للجيش اللبناني في جرود البلدة، ما ساهم بزيادة الحذر وتقليل نسبة عمليات التهريب فيها.
يستخدم المهربون مختلف وسائل النقل في عمليات التهريب، بحسب وعورة طريق المعابر وبحسب الحمولة المراد تهريبها. ففي المعابر الجبلية ذات الطرق الوعرة عادة ما يتم استخدام سيارات ذات الدفع الرباعي مثل الـ “بيك أب” للحمولة الكبيرة والـ “جيب” للحمولة الخفيفة. مع الإشارة إلى أن المعابر ليست مجهزة جميعها للسيارت، حيث أنّ غالبيتها معابر وجسور صغيرة وضيقة، لا تسمح بمرور إلا الدراجات النارية فقط.
هذا ما يؤكده م. ن. لـ “مناطق نت” قائلاً بإن بعض المهربين يستخدمون شاحنات متوسطة الحجم لنقل البضائع، والبعض يستعمل الحافلات بعد إفراغها من مقاعدها الخلفية، والبعض لا يزال يستعمل الطرق البدائية مستخدمين الدواب في التهريب، خصوصاً في المناطق الجردية ذات الوديان والجبال التي يُصعب العبور من خلالها مثل جرود عرسال وشبعا.
التهريب وشلل الاقتصاد
تعتبر معابر الهرمل الأكثر مرونةً في التنقل والتهريب، فهي التي تتداخل حدوديًّا مع الأراضي السورية. بينما تُعد الطريق الجبلية التي تربط بين عكار والهرمل منطقة مشاع للحدود مع سوريا حيث يشكل كلّ حاجز فيها معبرًا، وهناك تظهر السواتر الترابية من الضفة السورية التي ساهمت في تخفيف عمليات التهريب لكنها لم تمنعها. ومن طريق الهرمل_عكار، إلى طريق الهرمل-القاع-رأس بعلبك، حيث تحتوي المنطقة على أكثر من 26 معبراً غير شرعي، أهمه معبر “حوش السيد علي” ومعابر قرية القصر مع قرى مدينة حمص السورية، التي تسكنها العديد من العائلات اللبنانية.
بعض المهربين يستخدمون شاحنات متوسطة الحجم لنقل البضائع، والبعض يستعمل الحافلات بعد إفراغها من مقاعدها الخلفية، والبعض لا يزال يستعمل الطرق البدائية مستخدمين الدواب في التهريب
في تلك المنطقة يُعد التهريب الشريان الإقتصادي الأول والأهم للسكان، ومن الصعب جداً ضبطه، فتُطلق على بعض المعابر في بلدة القصر وحوش السيد علي، أسماء العائلات المسيطرة عليها، مثل معابر بيت جعفر، ناصر الدين، الحاج حسن.. والتي لا تخلو من النفوذ الحزبي، فقد شكل معبر “حوش السيد علي” غير الشرعي نقطة عبور للصهاريج المحملة بالمحروقات الإيرانية التي أدخلها حزب الله إبان أزمة المحروقات العام 2021 الى لبنان.
وبالرغم من انتشار أفواج الحدود العسكرية التابعة للجيش اللبناني على طول السلسة الشرقية، تبقى عمليات التهريب نشطة من قبل مهربين نافذين وعصابات تهريب المحروقات والمواد الإستهلاكية وبعض التجّار.
في خلال الأزمة شكّلت البضائع المتوفرة بأسعار مخفوضة أو تلك المدعومة في السوق اللبنانية مادة مربحة للتهريب والعكس صحيح، فقد نشطت أخيراً عمليات تهريب “البيض” من سوريا إلى لبنان ومضاربة الأسعار في السوق اللبنانية، وصولاً إلى تهريب السوريين بطرق غير شرعية إلى الداخل اللبناني وذلك بسبب القيود التي فرضها الأمن العام على السوريين الراغبين بالدخول إلى لبنان، ما دفع بالمهربين إلى استغلال حاجة السوريين إلى اللجوء وإدخالهم من خلال معابر التهريب مقابل مبالغ مالية وصلت إلى 100 دولار للشخص الواحد.
المعابر.. تفاوت في الأسعار
يقول ع. م (35 عاماً) وهو أحد الناشطين في مجال التهريب لـ “مناطق نت” إنّه يعمل على تهريب أنواع عدة من “الدخان” إلى الداخل السوري عن طريق معابر عرسال وشبعا، نظراً لأن أصحاب المعابر في الهرمل، يطلبون أرقاماً تصل إلى 70$ مقابل مرور كل صندوق، بينما يدفع 20 دولاراً عن الصندوق الواحد عن طريق معابر شبعا وعرسال.
يتابع ع. م أنّه يعمل اليوم على تهريب منتجات موسمية مثل البطاطا والتفاح والعنب، من سوريا إلى الأسواق اللبنانية عن طريق معبر “حوش السيد علي”، مؤكداً وجود متخصصين في طرقات ومعابر التهريب ونقاط وجود “الهجانة” وحرس الحدود، وهناك أسلوب خاص للمهربين في التعامل مع الحرس، ما يجعل التهريب مهنة قائمة بحد ذاتها تُدار عن طريق مجموعات خاصة. ويضيف أنّه على علم بخطورة التهريب على الإقتصاد المحلي، وآثاره السلبية على السوق ولكنه لا يجد بديلًا عنه لتأمين رزقه ومعيشته، في ظل تفشي ظاهرة البطالة في البقاع خاصة ولبنان عامةًّ.
يتاجر المهربون بكل شيء يحقق منفعة مادية، حتى الدواء السوري غير المرخص في لبنان، قد انتشر بشكل كبير في الهرمل وقراها الحدودية عن طريق معابر التهريب نفسها، وذلك لسعره الزهيد مقارنة بأسعار بعض الأدوية اللبنانية أو الأجنبية المستوردة إلى لبنان.
في هذا الصدد يقول علي عبد الله وهو تاجر مواد غذائية في بعلبك لـ “مناطق نت”، من الملاحظ أنّ كل مادة استهلاكية يرتفع سعرها في سوريا، سرعان ما يتم تداولها وتهريبها من لبنان إلى سوريا، ما يفسر ارتفاع أسعار بعض المواد الاستهلاكية في لبنان، من دون أي مبرر تجاري أو زيادة الطلب عليها كما هو معروف اقتصادياً، ويتابع بأن إدارة الجمارك اللبنانية قاصرة ولا تكفي وحدها لمكافحة التهريب، وأن عملية مكافحة التهريب تحتاج إلى تنسيق أمني جدّي بين الأجهزة الأمنية والجهات الحزبية صاحبة النفوذ في مناطق التهريب ذاتها.