معالجة الألم بالإبداع.. تجارب إنسانيّة تتفوّق على الإعاقة
في خضمّ الحياة، غالبًا ما تنسج خيوط المعاناة قصصًا أكثر إلهامًا. وبينما تبدو المعاناة ذات أفق مسدود، فإنّها عند البعض نعمة خفيّة، ربّما تولد منها قصّة نجاح عظيمة. هذه هي حال ريّان اسماعيل من بلدة أنصار (النبطية)، الشابّة التي تحوّلت رحلتها من مأساة الطفولة ومرض ضمور العضلات المستمرّ السالب منها قدرتها على المشي، إلى منارة للأمل والإلهام.
لأنّ الفنّ شكل من أشكال العلاج، لجأت ريّان إسماعيل إلى فنّ “المكرميّة” كمشروع عمل ومصدر رزق لها، أطلقت عليه تسمية “مكرم كرافت”. هذا الفنّ عبارة عن تقنيّات لصياغة المنسوجات بطريقة العقد المختلفة، بالرغم ممّا تعانيه صاحبة المشروع من ضعف عضلات يديها وضمورها.
مستمدة إلهامها من فنّانتها المفضّلة “فريدا”، تبدأ ريّان البالغة ستة وعشرين عامًا، حديثها، مستعينة بمقولة للفنّانة التشكيليّة المكسيكيّة فريدا كاهلو، تساعدها على التحليق يوميًّا فوق الألم وقسوة المرض، فتردّد تعويذة فريدا: “الأقدام وما حاجتي لها طالما لديّ جناحان أطير بهما”. تقتنع بالتعويذة وهي تشاهد موت عضلاتها تدريجيًّا، أمر تركها حبيسة كرسيّ متحرك، عاجزة عن المشي، ليس عن الإصرار.
تعتزّ ريّان بما تمتلكه من قدرة، “في يدين تجترحان فنًّا وإبداعًا، ودماغ يلهم كلّ إنسان”. هي لا تعرف الاستسلام أبدًا، ورسالتها دائمًا للآخرين: “في مواجهة التحدّيات التي لا هوادة فيها لمرض نادر -ضمور عضليّ مستمرّ ودائم- أفقدني القدرة على المشي، لم يكن أمامي سوى خيارين اثنين، الأوّل الاستسلام للكرسيّ المتحرّك، والثاني التحليق، طبعًا اخترت الثاني”.
ومع ذلك، تضيف ريّان: “حافظتُ على قدرة لا بأس بها في عضلات أطرافي العلويّة، التي تساعدني على تنمية مشروعي، لذا على كلّ إنسان يريد أن يحقّق نفسه وأحلامه أن يتوقّف عن اختلاق الأعذار والحجج، وأن يبدأ الآن”.
مشروع التحدّي والإصرار
بدأت ريّان مشروعها منذ نحو عامين، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وواجهت التحدّيات المزدوجة المتمثّلة في محاربة الاكتئاب والتغلّب على التأثير الواسع لجائحة “كوفيد 19”. مع ذلك، ظلّ دعم والدها ثابتًا حتّى وفاته المفاجئة، التي شكّلت لها صدمة كبيرة.
ولد مشروع ريّان في إحدى الليالي الحاسمة، وقد اتّخذ طريقه إلى التحقيق مع شراء الأغراض اللازمة في اليوم التالي، تطبيقًا لقرار ببدء حياة جديدة، تقول: “يجب ألّا ننتظر البتّة. في قاموسي لا مكان لكلمة التأجيل. علينا أن نبدأ في تحقيق أحلامنا الآن. لذلك وفي لحظة معيّنة اتّخذت هذا القرار”.
وتضيف لـ”مناطق نت” موصّفة البدايات: “بسبب ضعف عضلات الذراعين المستمرّ، بقيت مدّة طويلة أعيد صناعة “المكارم” مرارًا وتكرارًا. الإصرار واجب علينا، لأنّ الحياة مستمرّة معنا أو بدوننا، ويجب ألّا ننتظر أحدًا أو طويلًا”.
ريان اسماعيل: بسبب ضعف عضلات الذراعين المستمرّ، بقيت مدّة طويلة أعيد صناعة “المكارم” مرارًا وتكرارًا. الإصرار واجب علينا، لأنّ الحياة مستمرّة معنا أو بدوننا، ويجب ألّا ننتظر أحدًا أو طويلًا.
انطلاقًا من إيمانها بالاستقلال والمسؤوليّة كان “مكرم كرافت” مصدر إنتاج مادّي مستقلّ، ليس لتأمين حاجاتها فحسب، بل يتعدّى ذلك ليكون مصدر رفاهيّتها ومصدر حياة كريمة. تقول: “من خلال عملي هذا، أستطيع اليوم تغطية جميع حاجاتي وأغراضي ومشترياتي الخاصّة من الألف إلى الياء، حتّى أنّني أستطيع السفر لأكتشف العالم والثقافات المختلفة من خلال المدخول المادّي الذي أحصل عليه من مكرم كرافت”.
وتضيف: “هذا المشروع جعل حياتي سهلة ومريحة، وجعلني إمرأة حرّة ومستقلة”. وعن زبائنها تقول ريّان: “الملفت أنّ أكثر فئة تشتري من منتجاتي هي فئة الناشئة من الإناث، ثمّ فئة كبار السنّ، ثم فئة البالغين، لأصل في نهاية الأمر إلى فئة الذكور”.
وتتابع: “هذا الأمر يسعدني جدًّا. أشعر بأنّ مرضي يترك أثرًا جميلًا في كلّ بيت ولدى كلّ شخص، من خلال هذا الفنّ الذي أقدّمه”.
أمل يعزّزه التفاف عائليّ
في بوتقة المعاناة، تشبّثت ريّان بشعار: “حتّى في الجحيم، يمكن للأمل أن يزدهر”. لقد أصبح ضوءها في نفق المرض المعتم، ومصدرًا لمرونتها النفسيّة ونظرتها المتوازنة تجاه الحياة.
تقول: “ممّا لا شك فيه، إنّ الأمل كالطعام، حاجة بشريّة، لكنني في الوقت عينه أؤمن بالقوّة المتأصّلة في طلب المساعدة من الآخرين، لذا أنا ممتنّة لنظام الدعم الاجتماعيّ الخاص بي، المتمثّل بالعائلة والأصدقاء، وتحديدًا خالتي رشا، فهي دعامة للاستقرار الماليّ والعاطفيّ والنفسيّ”.
وتضيف بسعادة كبيرة: “وجود خالتي رشا في حياتي وإلى جانبي، يشبه سكّر الطعام، فهي تضيف حلاوة على كلّ جوانب حياتي. أنا ممتنّة جدًّا لوجودها، وليديها اللتين تأخذان بيديّ لأستمرّ نحو الأمام”.
من بطل على الذات إلى “بطل العرب”
من أنصار إلى بلدة الشبريحا، حيث الألم مشترك والأمل واحد. حسين غندور، سلبت الكراهيّة قدمه وذراعه، عندما كان في السابعة من عمره في العام 1988، إذ أسفر انفجار لغم أرضيّ زرعه العدوّ الإسرائيليّ عن تغيير مسار حياته، ما مهّد الطريق أمام رحلة مليئة بالتحدّيات.
يقول حسين: “عامان من إعادة التأهيل النفسيّ والجسديّ المكثّف أبعداني عن المدرسة مؤقّتًا. ومع ذلك، علّمت نفسي بأن لا تردعني النكسات، حتّى عدت في النهاية، عازمًا على الاستمرار، بقدم واحدة وساق واحدة وأمل كبير”.
يضيف: “اخترت دراسة المحاسبة، ثم وجدت أنّ الموضوع لا يتردّد صداه مع تطلّعاتي. كان قلبي يتوق إلى مسار مهنة مختلفة، كانت سببًا في تغيير مسار حياتي، فكانت خسارتي لقدمي وذراعي سببًا كافيًا لأفوز في معادلة الخوض في عالم صناعة الأطراف الصناعيّة”.
مع ذلك، فإنّ دخول هذا المجال “مثّل تحدّيًا كبيرًا إذ تطلّب العمل مهارة جسديّة. هذا التحدي جعلني أخرج منتصرًا، لأصبح موظّفًا ناجحًا في الجمعيّة اللبنانيّة لرعاية المعوّقين، في بلدة الصرفند”.
لم يترك حسين غندور فرصة لتطوير نفسه، فشارك في المؤتمرات وورش العمل، تاركًا بصمة لا تمّحى على المسرح الدوليّ. كذلك شارك في تأسيس فريق كرة قدم، “في إصرار على التزامي بكسر الحواجز. لم أتوقّف، بل تابعت في تحقيق انتصارات في المسابقات الدوليّة، وحصلت على جوائز عديدة”.
لم يترك حسين غندور فرصة لتطوير نفسه، فشارك في المؤتمرات وورش العمل، تاركًا بصمة لا تمّحى على المسرح الدوليّ. كذلك شارك في تأسيس فريق كرة قدم. في إصرار على التزامه بكسر الحواجز لم يتوقّف، بل تابع في تحقيق انتصارات في المسابقات الدوليّة.
حصد غندور لقب “بطل العرب في الجري لمسافات قصيرة”، كذلك “بطل العرب” في الجزائر والمغرب وفي لبنان. وفضلًا عن مآثره الرياضيّة، كرّس نفسه لزيادة الوعي تجاه مخاطر الألغام، إذ شارك في أكثر من 100 مسرحيّة تسلّط الضوء على هذه الآفة.
المعاناة للإلهام ليست للكسل
شكّلت الكرة التي انفجرت به وهو طفل، وكانت سببًا في معاناته وخسارة طرفيه، إلهامًا لتأسيس فريق كرة قدم مؤلّف من نحو خمسة وعشرين عضوًا، جميعهم من الناجين من انفجارات الألغام، ولديهم أطراف مبتورة.
يقول غندور ابن بلدة شبريحا: “هذا الفريق طاف كلّ المناطق اللبنانيّة، هدفه التأكيد للجميع أنّنا قادرون على خلق المعجزات، وأنّ إعاقتنا ليست مصدرًا لنظرات الشفقة، بل مصدر إلهام للآخرين، ودرس لكلّ إنسان”.
يقول فيكتور فرانكل في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى”: “كلّ شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان إلّا شيء واحد: الحرّيّة الإنسانيّة، أيّ القدرة على اختيار موقف واحد تحت مجموعة معيّنة من الظروف، لاختيار الطريقة الخاصّة به للعيش”. هذا ما قامت به ريّان اسماعيل وحسين غندور. لقد اختارا ألّا يبقيا أسيريّ معاناتهما، وأصبحا صوتين لمن لا صوت لهم، وشهادة على فكرة أنّ كلّ عقبة هي فرصة لإلقاء الضوء على حياة الآخرين.
معنى مكرميّة: الكلمة الإسبانيّة مكرميّة مُشتقة من الكلمة العربيّة migramah (مقرمة)، والتي يُعتَقد أنّ معناها “المنشفة المُقلّمة”، “أهداب الزينة” أو “الحِجاب المُطَرَز”. بعد الفتح الإسلامي، وصل هذا الفنّ إلى إسبانيا وإيطاليا، خصوصًا في منطقة ليجوريا، ومن ثمّ انتشر في أوروبا.