معبد ميركير في بعلبك معلم أثريّ يلفه النسيان

حين نسمع باسم مدينة بعلبك تتوجّه أنظارنا وأفكارنا تلقائيًّا إلى هياكلها الأثريّة العظيمة بما تضمّ من معابد ومعالم، ويغيب عن بالنا أنّها تحتضن في كلّ زاويةٍ منها آثارًا هي غاية في الأهمّيّة لناحية تاريخها وقيمتها الأثريّة، ومنها معبد “ميركير”، لكنّه كغيره من معالم مدينة الشمس الأثريّة، يعاني من إهمالٍ متراكم، وعمليّات نهب مستمرّة، فسُرقت أحجاره الضخمة ونقوشه الأثريّة على مرّ العصور، في ظلّ غياب الرقابة الرسميّة وضعف الحماية، حتّى بات يواجه خطر الاندثار، ويدفع ثمن عدم تقديره كتراث تاريخيّ كما يستحقّ.

ميركير معبد عابر للتاريخ

يُعدّ معبد ميركير Mercure الذي يتربّع على تلّة الشيخ عبدالله المطلّة على مدينة بعلبك، من أبرز المواقع الأثريّة في لبنان، إذ يتميّز بتشابهه الكبير مع معبد باخوس ولو أنّه أصغر حجمًا منه، ويعود تاريخ بنائه إلى العام 64 قبل الميلاد.

يقول المؤرّخ الدكتور حسن عبّاس نصرالله، صاحب كتاب “تاريخ بعلبك” بجزأيه، إنّ “ميركير أو عطارد بالعربيّة هو أحد المعابد الأربعة التي تضمّها بعلبك، لكنّ وجوده ظلّ مجهولًا بالنسبة إلى المنقّبين إلى أن عثروا على بعض حجارته فوق تلّة الشيخ عبدالله العام 1938”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “في العام 1987 اكتشفوا صولجانًا برونزيًّا يُعرف باسم كادوشة عطارد، يبلغ طوله 68 سنتيمترًا ووزنه 5600 غرام، فتأكدوا حينذاك من وجود المعبد”.

بقايا معبد ميركير في بعلبك

وفي هذا الإطار يشير الدكتور نصرالله إلى أنّ “من وجد الصولجان البرونزيّ من التجّار باعه بنحو 70 ألف دولار في العام 1987 في ظلّ غياب الدولة”. ويوضح نصرالله أنّ “المعبد يتضمّن رمزًا يحمل شكل سلحفتين بحريّتين في دلالةٍ إلى ارتباطه بالتجارة، فكان إله التجارة والسفر، بينما اعتبره البعض إله الريح لدوره في تحريك الغيوم نحو الأراضي المختلفة كي ترويها، ممّا جعله رمزًا للخصوبة. كذلك تحمل رموزه أيضًا أفعيين مجدولتين، في إشارةٍ إلى علاقته بمجال الطبّ”.

مميّزات بالغة الأهمّيّة

من ناحيته يشرح الدليل السياحيّ فهمي شريف عن موقع “ميركير” لـ “مناطق نت” فيقول: “يرتفع المعبد عن مدينة بعلبك نحو 130 مترًا عموديًّا، وعن معبد جوبّيتر بين 85 و86 مترًا، في منطقة مشرفة على المدينة الرومانيّة التي كان تعداد سكّانها في المرحلة الرومانيّة 300 ألف نسمة، وكان يجاور المعبد نبع مياه صغير، ولكنّه جفّ لاحقًا بسبب التغير الجيولوجيّ لطبيعة الأرض”.

يشرح شريف عن درج “ميركير” الذي كان يتّصل بقلعة بعلبك قديمًا فيشير إلى أنّه “يمتدّ من المعبد على التلّة إلى أوّل محطّة بسوق العدل الرومانيّة قرب المنشيّة التراثيّة وصولًا إلى المعابد الثلاثة في قلعة بعلبك، ويبلغ عدد أدراجه 366 درجة”.

د. نصرالله: من وجد الصولجان البرونزيّ من التجّار باعه بنحو 70 ألف دولار في العام 1987 في ظلّ غياب الدولة

عن مواصفات بناء “ميركير” يشرح شريف أنّ المعبد “تميّز بأحجاره الضخمة المقصّبة والمزخرفة” لافتًا إلى أنّ “الحجارة التي بنيت منها معظم الأماكن الأثريّة في بعلبك هي من ثلاثة مقالع صخريّة، يختلف الحجر في كلّ منها عن الآخر بكثافته وصلابته، وهي: مقلع حيّ الواد الذي كان يُستخدم في بناء الأسس والقواعد، مقلع الشراونة وكان يستخدم في الأعمدة، ومقلع الكيال الذي كان يستخدم في التيجان والزخرفة. وبهذه الآثار التي بنيت في المدينة الرومانيّة القديمة، تشكّلت بعلبك التي كانت تمثّل المجمع الوثنيّ الأكبر في العالم”.

بقايا أثريّة ضائعة

يؤكّد شريف أنّه “على مرّ العصور، تعرّض ميركير لاعتداءاتٍ متتالية، بدءًا من البيزنطيّين الذين دمّروه كغيره من المعابد، بذريعة أنّه رمزٌ وثنيّ حوّلوا حجارته إلى كنائس”. ويروي شريف أنّ “هذا التدمير امتدّ مع الفتح الإسلاميّ في العام 637 الميلاديّ، فقطع الفاتحون الحجارة الكبيرة منه لبناء المساجد، هكذا فقد المعبد كثيرًا من حجارته الأثريّة”.

اليوم، لم يبقَّ من ميركير سوى بقايا صغيرة، بعد أن تقلّصت مساحته بفعل العمران الذي انتشر على أنقاضه، وأيضًا لتعرّضه إلى عمليّات نهبٍ واسعة واستخدامه كموقعٍ عسكريّ، نظرًا إلى موقعه المطلّ على بعلبك خلال فترة الحرب الأهليّة. “المعبد كان مجموعةً من أعمدة وتيجان ولم يَنجُ منها إلى اليوم سوى 10 في المئة فقط من أصل هيكله، وأصبح ملحقًا سياحيًّا بمعبد جوبّيتر في قلعة بعلبك”، يختم شريف.

نهب وجرف

لا يختلف رأي المهندس في مديريّة الآثار خالد الرفاعي عن رأي الآخرين لناحية تعرّض ميركير للنهب والتدمير على مرّ التاريخ، فيوضح لـ “مناطق نت”: أنّ “ميركير تعرّض للجرف العام 1982 بحثًا عن الذهب والآثار، وسط غياب أيّ رقابة خلال فترة الحرب. ولم يبقَ سوى الدرج الذي يصل إلى المعبد لكنّه طُمر، ويحتاج إلى ترميم”.

عقود من الإهمال

في خمسينيّات القرن الماضي، بدأت وزارة السياحة الاهتمام بمعالم مدينة الشمس الأثريّة ومعابدها. فجرى العام 1958 تنظيم مهرجانات بعلبك الدوليّة التي ساعدت في تسليط الضوء على قيمة المدينة الأثريّة، وجذب السيّاح إليها. واستُحدثت في العام 1960 المديريّة العامّة للآثار ضمن وزارة الثقافة، للحفاظ على هذه الآثار وحمايتها.

لكن وعلى الرغم من ذلك، وعلى مر السنين وتعاقب الحكومات، لا يزال هذا المعبد بعيدًا من دائرة الاهتمام ومهدّدًا بالنسيان والاندثار. وهو مستبعد حتّى اليوم من جهود الحماية والترميم من قبل الدولة، ما يعكس تأخّر أو غياب الاهتمام الحقيقيّ للحفاظ على هذا التراث. ويوضح الرفاعي أنّ “معهد الآثار الألمانيّ هو من يموّل عددًا كبيرًا من مشاريع ترميم المعابد الأثريّة في بعلبك، لذلك طلبنا إليه كمديريّة عامّة للآثار، وضع ميركير ضمن جدول أعمالهم. فاستجابوا بالفعل، ويجري العمل حاليًّا على مشروع ترميم المعبد”.

ويؤكّد أنّ “المشروع يرتكز على وضع أسس لاستكشاف حدود المعبد، والبحث عن أجزائه الباقية وجمع حجارته، والعمل على بعض الحفريّات لتظهر الأسس والدرج المطمور بهدف ترميمها”. وحين تنتهي أعمال ترميم معبد ميركير سيصبح مؤهّلًا كموقعٍ سياحيّ جديد وحيويّ، بعد أن شهد إهمالًا وتجاهلًا مستمرًّا. وسيحظى باهتمام الدولة الرسميّ، ويُنصفه السيّاح الذين يفضّلون عادةً معابد جوبّيتير وباخوس عندما يزورون مدينة بعلبك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى