معرض لبنان للكتاب حافلٌ بلا زوّار.. ظلّلته وطأة “حرب غزّة”
كثر هُم الذين تمنّوا تأجيل “معرض لبنان الدوليّ للكتاب”، قبل افتتاحه في صالة “فوروم دي بيروت” في الثالث عشر من تشرين الأوّل الجاري، إذ تيقّنوا أنّ الحرب على غزّة قد خطفت الإهتمام، وامتدّت شراراتها كذلك باتّجاه المناطق اللبنانيّة الجنوبيّة الحدوديّة، بل نحو الجولان.
برعاية وزير الثقافة محمد وسام المرتضى جرى افتتاح المعرض على إيقاع الأغاني العربيّة والأجنبيّة، رافقه حفل كوكتيل متنوّع بين الحلو والمالح. إنّها مشهديّة طبيعيّة في الظروف الطبيعيّة، لكنّ الواقع الأمنيّ لم يكن كذلك، فبرز بعض التململ عند الوزير، وعند المنظّمين، إذ كثرَ “الهمس” في الكواليس، بل وشوهد الممثل الفنّان طارق تميم في حالة غضب، أكثر من مرّة، وهو أحد المقدّمين لفقرات الحفل.
بعيداً عن كلّ هذه الحيثيّات، وقبل انطلاقة هذا المعرض بأشهر، كان ثمّة سؤال مركزيّ مطروحاً بقوّة في الأوساط الثقافيّة: “هل تحتمل عاصمة صغيرة مثل بيروت، معرضين للكتاب؟ وفي توقيتين متقاربين؟!”. إشارة إلى معرض “بيروت الدوليّ” للكتاب، الذي ينظّمه سنويًّا “النادي الثقافيّ العربيّ” منذ سنوات طويلة، ليكون عميد المعارض العربيّة للكتاب. فعليّاً، المعرضان، انعكاس للتشرذم اللبنانيّ، الذي يتجلّى في كلّ نقطة وفاصلة.
رايات في الأروقة
في وقت سريع، تدارك “اتّحاد الناشرين في لبنان” الموقف لناحية خلق رابط ما بين المعرض وأحداث غزّة، فتمّ نشر أعلام فلسطينيّة عدّة بين أجنحة الدّور، في دلالة على التضامن مع الشعب الفلسطينيّ. كذلك استحدثت أمسية شعريّة مُعنونة تحت المضمون التعاضديّ والثوريّ ذاته. إضافة إلى الأغاني التي تحاكي فلسطين وصدحت في فضاء المعرض “الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان” و”الآن الآن وليس غداً أبواب العودة فلتقرع”، وغيرها من الأغاني.
أمّا عن التفاعل مع المجزرة التي ارتكبها الصهاينة في المستشفى المعمدانيّ في غزّة، فقد أغلق معرض الكتاب أبوابه، تضامناً ليوم واحد، كان الأربعاء في 18 تشرين الثاني الجاري.
لكنّ هذا، وإن كان قد ردم بعض الهوّة بين الحدثين، لكنّه لم يبدّل شيئاً من واقع إحجام الجمهور عن ارتياد المعرض، كون الحرب قد انعكست على الجميع، كهاجس ملحّ، حيث يدور الكلام عن تدحرج الأحداث التي قد تتحوّل إلى حرب كبرى. لذلك انقلبت الأولويّات عند عشّاق القراءة، إضافة إلى أزمة لبنان الاقتصاديّة التي يرزح الجميع تحتها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
شكوى وتذمّر
في المعرض دارُ نشر عراقيّة كبيرة، يشكو المشرفون عليها من نسبة المبيع المنخفضة، التي تكاد لا تغطّي كلفة شحن الكتب من بغداد إلى بيروت، ناهيك عن أجرة جناح الدار، وباقي الإستحقاقات التنظيميّة والخدماتيّة الضروريّة لكلّ جناح مشارك. أمّا الدار العربي القادم إلى بيروت من تركيّا، فهو يحدّث عن فداحة خسائره، إذ لم يبع كتاباً واحداً خلال الأيام الثلاثة الأولى من المعرض، الذي سيستمرّ حتّى مساء الثاني والعشرين من تشرين الأوّل.
دارُ نشر عراقيّة كبيرة، يشكو المشرفون عليها من نسبة المبيع المنخفضة، التي تكاد لا تغطّي كلفة شحن الكتب من بغداد إلى بيروت، ناهيك عن أجرة جناح الدار، وباقي الإستحقاقات التنظيميّة والخدماتيّة الضروريّة لكلّ جناح مشارك
الحال لم تكن أكثر سخاء مع الدور اللبنانيّة، وها إنّ مشرفاً على أحد الدور العريقة، يسأل بسخرية: “يُقال إنّ هناك معرضاً للكتاب، لكن متى يبدأ بحسب علمكم؟”. يردّد هذا، بينما هو جالس في جناح الدار، منشغلاً بهاتفه الجوّال في مراسلة الأصدقاء، وتصفّح وسائل التواصل الاجتماعيّ.
على الرغم من هذا الواقع القاتم، كانت هناك إضاءات واضحة في المعرض، مع دور نشر متعاملة مع أبرز المؤلّفين، وأهمّ الكتب العربيّة والمترجمة والمعرّبة، فلم تفرغ تلك الأجنحة من الروّاد طوال فترات ما بعد الظهر، بينما كانت فترات الصباح والظهيرة، خاوية مثل أجنحة الدور.
أنشطة أغنت المعرض
بالرغم من غياب الجمهور عن المعرض، إلا أن ذلك لم يمنع استكمال برنامجه المرسوم بدقّة، فكانت الأنشطة الغنيّة، والمحاضرات، مع نجوم في عالم الكتاب، مثل الروائيّين الكويتيّين سعود السنعوسيّ وبثينة العيسى. وكانت أمسية مع الشاعر زاهي وهبي، والشاعرة لوركا سبيتي. وفي يوم آخر كانت أمسية للشاعر عبّاس بيضون، والشاعر عبده وازن، بينما دار حوار مع الإعلاميّ هشام حدّاد عن علاقة الإعلام بالثقافة.
ناهيك عن التواقيع التي تحتضنها أجنحة الدور، والتي تحرّك المشهد بعض الشيء، وهو ما ساهمت به بعض الزيارات من قبل تلامذة المدارس في فترة الصباح، كذلك المعاهد ووفود الجمعيّات والكشّافة.
إعلام بديل ورسوم وأفلام مصوّرة
غزة وأحداثها كانا الحاضرين الكبيرين في المعرض، وذلك من خلال تسمّر العيون على شاشات الهواتف المحمولة التي لم تبرح الأيدي، تتابع تدفّق أخبار “طوفان الأقصى”، و”السيوف الحديديّة”، كذلك أخبار الجنوب، أوّلاً بأوّل، ونكاد نجزم أنّ أيّ حديث بين شخصين اثنين في أروقة المعرض، كانت فلسطين ثالثهما، لقوّة وطأة الحدث وتفاقمه، والأخبار العاجلة التي تتناسل بعضها من بعض، من دون توقّف. بهذا فقط صار المعرض ومقهاه، مكانين للتعبير و”التنفيس”، حول الحرب ومآلاتها.
لكن تزامناً مع متابعة أخبار غزة و”طوفان الأقصى”، شهدت بيروت ومعرض الكتاب فيها طوفاناً من نوع آخر، هو طوفان المياه جرّاء الأمطار الغزيزة التي تساقطات وغمرت الطرقات والتي تحوّلت كالعادة إلى بحيرات. هذا الأمر انسحب على المعرض الذي طاف بالمياه في أحد جوانبه، حيث انتشرت العديد من الڤيديوات تُظهر شلالات المياه تتدفق على الكتب وفي أحد الممرات، لكن ذلك لم يؤثر على سير المعرض الذي استمر وفق المعتاد.
من ضمن اللمسات الإبداعيّة، خصّصت إدارة المعرض جداراً للرسّامين المحترفين، ضمن فئة الرسوم التعبيريّة، والشرائط المصوّرة، فكانت مساحات للفنّانين: طوني أبو جودي، طوني معلوف، غيدا يونس، ياسمين كيروز، بّاميلا منصور، مايا زنكول وأيفان دبس. تميّز بعض تلك الرسومات بمضمون نقديّ لبنانيّ، وفي رسوم الآخرين إشارات حول الحرب الدائرة في فلسطين. كذلك خصّص جناح للفنّ التشكيليّ، فيه العديد من اللوحات، لأكثر من فنّان وفنّانة.
بث مباشر
يوميًّا، وقبل نشرة الأخبار المسائيّة، يدور بثّ مباشر من المعرض، على شاشة المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال، في برنامج مخصّص لشؤون الكتاب وشجونه، والكتّاب والنشر، وتقاطع هذه العناوين مع النخب الفنّيّة المثقّفة. قدّم البرنامج أكثر من مذيع، من بينهم الإعلامي ريكاردو كرم. يترافق الأمر مع إعلانات يوميّة مكثّفة عن المعرض على الشاشة، وهناك رعاة كثر واكبوا المعرض يوميّاً، وسجلوا حركته ويتابعون أنشطته.
استحقاقات المعرض القادم
في الخلاصة، يُعتبر “معرض لبنان الدوليّ للكتاب”، نقلة نوعيّة من حيث الشكل والمضمون، والأفكار المرافقة، وهي تشبيكات كادت أن تكتمل لولا غياب الزوّار، على خلفية الحرب الدائرة في غزّة وفلسطين من جهة، والأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة اللبنانيّة من جهة ثانية.
ليبقى السؤال معلّقاً حول معرض “النادي الثقافيّ العربيّ للكتاب”، القادم، الذي سوف ينطلق في 27 تشرين الثاني 2023، وحتماً سيكون أمام تحدّيات التميّز عن سلفه، أو مجاراته على أقلّ تقدير. هذا في حال وضعت الحرب الدائرة أوزارها.