معرض وسام ملحم لعبة أبعاد بين عالميّ الرسم والنحت

تحت عنوان”STRATA” نظّم الفنّان وسام ملحم معرضًا لمنحوتاته في غاليري “كاف للفنون” في الأشرفيّة الشهر الماضي. وقد جاء في تعريف المعرض أنّه مجموعة من الطبقات التي تُعدّ استعارة للعمليّة المعقّدة التي يجسّد بها البشر أفكارهم ويشكّلونها، مسترشدين بخوارزميّة الحياة.
تأتي أعمال النحّات ملحم لتحاكي مفاهيم اجتماعيّة وفلسفيّة في أشكال مطروحة منها: التجويف، التكثيف، التكرار، التشابك، الفوضى. وهي عناصر محدّدة، كالسلّم الموسيقيّ، لحياةٍ فقدت موسيقاها، حيث العناصر المعزوفة هي: غيمة، عصفور، إنسان، بيت، تاج، زهرة.
تتباين لعبة الأبعاد بين عالمي الرسم والنحت. فقلّة الأبعاد الملموسة، تزيد عَوزَ الفنّان إلى تقنيّة احترافيّة عالية. وهنا، أقصد “الرسم” الذي يدخل إلى دائرة الفنّ التشكيليّ، فاللوحة ذات البعدين، تُبرِز موضوعًا من خلال استخدام تقنيّة وحِرفة عالية، هي عبارة عن خطوط وألوان، تفتح عالمًا ثلاثيّ الأبعاد يلامس الواقع والطبيعة.
أمّا في عالم النحت، فالنظّارات التي نشاهد من خلالها الأعمال النحتيّة مُغايرة. إذ إنّ العمل النحتيّ، فائض الأبعاد عن اللوحة. في المنحوتة (مهما كانت المادّة: خشب أو معدن أو حجر) تتجسّد الأبعاد الثلاثيّة بدون مجهود إضافيّ، حتّى لو بقيَ العمل ف يوضعه الخام (طول/ عرض/ عمق أو سماكة). لكنّ النحّات مُطالب بتركيز الجهد المبذول على الموضوعات المطروحة في أعماله.
حرفيّة عالية
يخدم التناقض فكرة المستحيل، لذا فالطابع الذي يطغى على معرض ملحم، يأتي من الموادّ المستخدمة في تشكيل الأعمال، فالقصدير الصلب يرقص بمرونة كالمطّاط. وهذه الصورة الثابتة المستحيلة (فيزيائيًّا) تعلن بأنّ مرونة الأشياء في الحياة الواقعيّة تجمّدت وأصبحت صفحة من كتاب الواقع المرير، جسّدها الفنّان ليس بالأعمال “القصديريّة” فقط، بل بشريط مرسوم- كما الشرائط المصوّرة في السينما- على الجدار والذي بدوره يعكس ثبات الحالات المتكرّرة المرتبطة بحياة المواطن اليوميّة.
الأسلاك المتينة في أعمال ملحم، متشابكة كخيوطٍ ترسم فضاءاتٍ كي تصطاد فرائسَ ترمز إلى الفرح والحرّيّة والطموح.. وعلى رغم سلبيّة اصطياد الفرائس، إلّا أنّ إخراجها إلى العلن يُظهرها كأطفال يحملون بالونات رُبطت بخيطانٍ متشابكة. إنّه “الحزن السعيد”! ولا يمكنني إلاّ أنّ أكون واقعيًّا برؤية الناحية الجماليّة الفنّيّة لأعمال ملحم، فالتقنيّة الاحترافيّة العالية، تخدم أفكار الفنّان.
الأسلاك المتينة في أعمال ملحم، متشابكة كخيوطٍ ترسم فضاءاتٍ كي تصطاد فرائسَ ترمز إلى الفرح والحرّيّة والطموح
الإنسان الملتفّ حولَ نفسه، ليشبه جسده الحلزونة، يوحي لك بأنّه “توم” يطارد “جيري” (بطلا الرسوم المتحركة) ويلصق بقدمه غيمةً وبيتًا وتاجًا وعصفورًا!
توازي البساطة العميقة في هذا الأسلوب، الكوميديا السوداء في المسرح من جهة احترافيّة، فإتقان العمل الفنّي نحتًا كان أو مسرحًا أو غير ذلك، من أهمّ شروط معياريّة الفنّ.
تشكيل طفوليّ بالمعجون
بالعودة إلى وصف أعمال ملحم النحتيّة، حيث الانطباع الذي تعكسه حاسّة النظر، حصرًا، يُفضي إلى تشكيل طفوليّ بالمعجون. وهذا الأسلوب التبسيطيّ في رسم الأشكال، انتهجه عديد من الفنّانين العالميّين (ماتيس، بيكاسو..) لمحاكاة الحالات النفسيّة التي تعصف بالإنسان.
إنّ ازدحام المدينة يكسر وداعة الغيمة من خلال نسج بيوت مكثّفة كهموم الحياة اليوميّة، وفي هذا يقول ملحم: “إنّ رمز الوداعة والحلم (أيّ الغيمة) مليئ بالمشاكل والهموم، وهذا قمّة الواقعيّة، وحِرَفِيّة العمل هي احترام رمز الوداعة اليائسة”.
إنّ التكرار في إظهار الرموز في أعمال ملحم، يظهر كطفلٍ يريد شيئًا فيطلبه قولاً لا يُلبّى، فيكرّر طلبه أكثر: “بدّي آكُل، بدّي أشرب، بدّي عيييييش”. والإنسان في المعرض يظهر بشكل استغاثة مُكرّرة، رافعًا يديه ورجليه ويصرخ، لأنّ بطنه مليء بالهموم (البيوت المُكثّفة) التي تربطه طرق مُخطّطة كما المدن الجميلة، مع طلاء جوف الإنسان بألوان ترمز في عالم السياسة اللبنانيّة إلى الأحزاب المُهيمنة على حياة اللبنانيّ ودولته المنهوبة، وسيطرة الأحزاب تتجسّد من خلال التيجان التي توحي إلى الناظر بالاستغاثة، وطلاؤها بالألوان عينها، يعني بأنّ الأزمة تطال من يظنّ نفسه مسيطرًا، لكنّه هو من افتعلها بفساده.
بين الخاص والعام
تبقى لعبة الفنّان في أعماله، هي التنقّل في العزف على وتريّ الخاص والعام. فتارةً يكون “البيت” مساحة عامّة تحتضن تفاصيل الحياة، وطورًا يكون عنصرًا يشارك عناصرَ تائهة عن مسارها الحياتيّ العاديّ ليجسّد فعل الطيران راكبًا على سطحِ غيمة. وعلى الأرجح ليست غيمة وُلدَت من عناصر طبيعيّة (بخار ماء..) بل غيمة أقرب إلى حلم يصبو إليه أيّ إنسان، كمن يبحث عن استقرار أو كعصفور يسعى إلى رزقه، فيرقى إلى “التاج” رمز الوصول إلى العلوّ.
ويبقى الأساس في التشكيل، إبراز جسد الإنسان، على شكلٍ ممتدّ بليونة المطّاط، مع أنّ المادّة من قصدير!
إنّ التناقض بين خصائص المادّة الصلبة وتطويعها لتعكس ليونة بشكلٍ “مُجمّد”، يقطع أمل التغيير نحو الأفضل، لا بل يُجمّد الجسد بلحظة التمدّد التي توحي بالمرونة، فمن منظور علم النفس، يعرّف علماء النّفس المرونة والقدرة على المجابهة بأنّها: “عمليّة التكيّف بشكل جيّد في وجه الشدائد والصدمات النفسيّة والمآسي والتهديدات أو مصادر الضغط النفسيّ الكبيرة، مثل المشاكل العائليّة والشخصيّة أو المشاكل الصحّيّة الخطيرة أو عوامل الضغط النفسيّ في مكان العمل والضغوط الماليّة”.
وعمليًّا، مثلّت الأسلاك المعدنيّة القصديريّة في أعمال ملحم مجموع الضغوط التي أعْلَنَ علم النفس بأنّ مواجهتها تتمّ بالمرونة.. أو لا تتمّ! فالبيئة غير الحاضنة تجعل من الإنسان معتادًا متكيّفًا مع الواقع السائد، دون اعتراض أو مواجهة.
وسام ملحم فنّان لبنانيّ فتح بابًا جديدًا برأيي، ليدخل عالم الفنّ النظيف الطامح إلى الإصلاح من مستخدمًا التفكير النقديّ. فالتفكير النقدي في عالمنا قليل عند الحديث عن الهويّة الوطنيّة. الهويّة الوطنيّة تعاني من غلبّة الهويّة الجماعيّة على الفرديّة. فالأفراد المتميّزون بإبداعهم مُحاربون من أفراد ذائبين في ظلام الجماعة. لبنان يتميّز بجمالٍ، لكن لا يشاهده عميان “المواطنة”ّ! هم فقط اعتادوا على قربِ البحر من الجبل، وفسحة السهر الليليّ. كان لبنان في أغنية وديع الصافي: “قطعة سما”، لكنّ “زناخة” السياسيّين وفسادهم جعله: “قطعة سمااااااك”.
