مكتبة ومختبر حمزة شمص في بوداي.. حين صار القنّب حليبًا
يقول ناظم بن إبراهيم مترجم كتاب “الفراديس المصطنعة في الحشيش والأفيون” للشاعر الفرنسيّ شارل بودلير عن نبتة القنّب: “يجب على النّاس ممّن لديهم فضول التعرّف على ملذّات استثنائيّة، أن يعرفوا أنّهم لن يجدوا في الحشيش أيّ شيء خارق، أيّ شيء مطلقًا سوى الطبيعة في صيغتها المضاعفة والمفرطة. لقد تجهّزت الآن بما يكفي لرحلة طويلة. دقّ الجرس، واتّخذ الشراع وجهته، بينما لديك مقارنة ببقيّة المسافرين امتياز أنّك لا تعرف إلى أين تذهب”.
الطريق لا الوصول، هو ما دفع الشاب حمزة شمص، من بلدة بوداي، إحدى القرى في ضواحي مدينة بعلبك، للبحث عن المعرفة. وليس الكتاب وحده معقل أسرار العالم، المعرفة بكلّيّتها، تتواجد في كلّ مكان يذهب إليه الخيال في الموسيقى، السينما، والتجربة العلميّة.
حقّ الوصول لمصادر المعرفة
أثّرت “العدالة المعرفيّة”، في رؤية حمزة للواقع، فبعد دراسته للإخراج السينمائيّ والتلفزيونيّ في بيروت، وفي رحلاته الدائمة بين المدينة وبلدته في “ڤانات” بعلبك الهرمل، وجد نفسه في فضائين مختلفين. المدينة بفضائها الثقافيّ والسياسيّ الواسع، ومركزيّتها المعرفيّة، وقرى البقاع في هامشيّتها وافتقارها للوصول إلى مصادر المعرفة، إلّا التي يبثّها التلفاز والإعلام التقليديّ.
وما بين صدمة المدينة ودوائرها الاجتماعيّة والثقافيّة، وشحّ الموارد وتنميط القرى، تراكمت لدى حمزة فكرة إنشاء مكتبة في بوداي، بمبادرة فرديّة منه، وتشجيع ودعم من معارفه وأصدقائه.
يقول حمزة شمص في دردشة مع “مناطق نت”: “في البداية لم أكن مدركًا بشكل واضح لما أفعله، فبدأت بمنشور على وسائل التواصل الاجتماعيّ في العام 2017، جامعًا الفارق بين ما يشكّله أسلوب التربية في القرية وغياب المعرفة في نموّ مخاوف وهميّة تعيقنا عن التقدّم من جهة، وبين رغبتي في جمع الكتب والأفلام السينمائيّة وغيرها من جهة ثانية”.
يتابع: “عقدت إتفاقية مقايضة مع أحد المقاهي Resto-Café عملت بموجبها في تحضير الطعام على أن يكون بدل أتعابي عبارة عن كتب، حيث استطعت تجميع حوالي ألفي كتاب، وألعاب تعليمية للأطفال، و133 فيلمًا، عدت بهم إلى الضيعة.”
يضيف: “مشروع المكتبة هو بمثابة نافذة على المعارف الأخرى، وعلى العالم، خلقناها من اللّاشيء. لكن في الوقت الذي رفضنا فيه الأجندات التي تفرضها الجهات المموّلة، هناك تحديات أخرى نواجهها، إذ لم يكن من السهل إدخال ثقافات جديدة إلى مناطق محرومة من أدنى مقوّمات العيش، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى تصادم مع البيئة التي نتفاعل معها، وهذا شيء لا بدّ منه”.
نبتة القنّب العجيبة
لا يكتفي المشروع بكونه مكتبة فحسب، بل يطوّر إمكانيّة تشكّله المستمرّ، وقد أطلق عليه حمزة اسم والدته “شهربان” وهو اسم فارسيّ يعني أميرة المدينة. ولكي تكون المكتبة مساحة للتعلّم والتجربة والخلق، تحوّلت من مساحة لجمع الكتب والأفلام، إلى مختبر، يتم من خلاله تحويل الموارد المحلّيّة إلى مصنوعات يمكن الاستفادة منها، وضمان حلقة التمويل الذاتيّ للمكتبة بأدواتها وأنشطتها.
لا يكتفي المشروع بكونه مكتبة فحسب، بل يطوّر إمكانيّة تشكّله المستمرّ، ولكي تكون المكتبة مساحة للتعلّم والتجربة والخلق، تحوّلت من مساحة لجمع الكتب والأفلام، إلى مختبر، يتم من خلاله تحويل الموارد المحلّيّة إلى مصنوعات.
يعتمد حمزة شمص في صناعته على نبتة القنّب الهنديّ أو الحشيش (الكانابي إنديكا) وتعرف بذوره بالـ “قنبز”، وهي النبتة التي وسمت الدولة اللبنانية زارعيها في بعلبك الهرمل بغير القانونيّين منذ زمن طويل، حيث تحوّل قسم منهم إلى طفّار ومطاردين بسبب ذلك، لكن تشريعها في سنة 2020 للاستخدامات الطبّيّة، أتاح لحمزة الكشف عن خباياها.
يقول: “ما تبحث عنه يبحث عنك، وهذا ما ساعد في إزاحة الصور النمطيّة حولها وعن حصرها ضمن الموادّ المخدّرة أو في إطار تدخينها”. ويحيل إلى المعرفة “الدور الأساس في تطوير المختبر واستخراج موادّ متعدّدة من نبتة القنّب في دورة حياتها، من البذرة حتّى القش، ففي الحضارات القديمة عرفوا طرق استعمال مواد هذه النبتة، وطريقة تصنيعها، إلّا أنّ صناعتها حوربت لصالح النفط والصناعات الحديثة”.
شجرة شهربان
“انبثقت شجرة العائلة من المساحة الأمّ، مصدر المعارف الأوّليّة”.. لعلّ هذه العبارة التي وضعها حمزة على “الإنستاغرام” تشرح بوضوح مشروعه، حيث يقول: “كانت مكتبة الكتب، وهي مساحة للعب الأطفال واستكشافهم، تقام فيها الأنشطة الفنّيّة والثقافيّة المتنوّعة من ورش رسم للأطفال، وعروض مسرح تفاعليّ، سيرك، دورة تصوير فوتوغرافي، دورة موسيقى، تصميم ألعاب، تكنولوجيا، روبوتيكس، ومشتل زراعيّ لا يزال قيد التطوير”.
إضافةً للمكتبة أنشأ حمزة مختبرًا أطلق عليه تسمية “شام”، والتسمية مستمدة من اسم أوّل حفيدة في عائلة حمزة، وهي ابنة شقيقته.
الأولى من نوعها
اللافت للنظر في مشروع المختبر هو تحضيره وتصنيعه لمنتجات أطلق عليها حمزة أسماء مختلفة، وتُعتبر الأولى من نوعها في لبنان، وتُستخرج جميعها من نبتة القنّب وهي:
خيط ستّ البنات: أنتج حمزة هذا الخيط في المختبر، وأطلق عليه هذا الإسم، وهو يُستخرج من قشّ نبتة القنب الذي كان مزارعو بوداي يستعملونه للحرق لأغراض معينة، في حين يحتوي الخيط على ألياف لصناعة القماش، وحبال الصيد، ويعتبر أقوى خيط في العالم، إذ كانت البزّات العسكريّة تصنع منه، ناهيك عن بعض مواد البناء (حجر ألماسة) والبلاستيك الذي يتحلّل بسهولة في الطبيعة”.
ورق القنّب أو المحروسة: وهو من الصناعات القديمة، وقد عُرف في أقدم نسخ من الإنجيل. يكتب على هذا الورق بكلّ أنواع الحبر والرصاص، باستثناء الألوان المائيّة إذ يتسرّب اللون إلى الجهة الأخرى، فيُدهن بشمع النحل لمنع التسرب. وقد صنع حمزة في مختبره أوراقًا من هذا النوع، ودفاتر ملاحظات صغيرة متعدّدة الألوان، لكنّه لا يزال في إطار العمل اليدويّ ويحتاج إلى المكننة ليصبح شبيه بورق الـ A4، وبذلك يكون المختبر أول من قام بتصنيع الورق في لبنان.
“لبن العصفور”
حليب القنّب: أو ما أطلق عليه “لبن العصفور”، والاسم “كناية عن المستحيل الذي صار حقيقة، وكذلك لأن القنبز غذاء الدواجن والطيور” كما يقول ويضيف حمزة: “لم نكن نعرف من قبل قيمة القنبز الغذائيّة، بالرغم من أنّنا أكلناه في طفولتنا كثيرًا، وقد أظهرت الفحوصات المخبريّة احتواءه على قيم غذائيّة عالية، وخلوّه من المواد المخدّرة”.
عن كيفية إعداده، يحضّر حمزة الحليب “عبر تقشير القنبز، ونقْعِ اللبّ الأبيض ثمّ طحنه وعصره وأخيرًا تصفيته. أمّا طعمه فخليط من نكهة المكسّرات (بندق، لوز، وجوز) لا يشبه النكهات المألوفة، وفيه القليل من الحلاوة”. ويشير حمزة إلى “أنّ الناس في البداية تردّدت من تذوّقه خشية أن يخدّرهم أو “يسرّد” لكن عندما أريتهم الفحص اطمأنّوا وأقدموا على تجربته”.
أمّا عن أضراره الجانبيّة فيقول حمزة: “لا وجود لضرر فعليّ، سوى أنّه كسائر البروتينات لا يفضّل الإكثار من تناوله، فقط بما يعادل ثلاث ملاعق، أو كوب من الحليب. وهو مفيد لمن يعانون من حساسيّة تجاه اللاكتوز”.
ويتحدّث حمزة عن وجود “ما يعادل 25 منتجًا يمكن استخراجه من النبتة وبذورها، مثل أعلاف الأسماك والدجاج، والزيت النباتيّ، والطحين. ومن الألياف الموادّ العازلة، لكنّها تحتاج إلى آلات متنوّعة والكثير من الأبحاث”، لذلك يحاول حصر اهتمامه فقط بتطوير المنتجات الحاليّة.
ويؤكّد “أهميّة نبتة القنّب على البيئة، فهي لا تستهلك الكثير من المياه، ولا تسمّم التربة، إذ لا تحتاج إلى موادّ كيماويّة، كما أنّها تعيد ترميم التربة في عمليّة نموها”.
رؤية مستقبليّة
عن الخطّة المستقبليّة للمشروع، يسعى حمزة شمص إلى تطويره لكي يصبح شركة أو تعاونيّة، تضمّ الأفراد الذين احتضنوا المشروع منذ بدايته، وتسجيله في وزارة الصحّة. وتحسين لائحة المطبخ التي تضمّ : كوكيز، شيبس، قنبز محمّص بطعمات مختلفة وحليب.
ويسعى كذلك إلى إعادة التوزيع، “لكي يصل إلى أشخاص جدد وأماكن أخرى. بالإضافة إلى خطّ الإنتاج الجديد في التوضيب والتغليف، خصوصاً أنّ السوق يتّجه نحو البزنس الأخضر، Green Business، إلّا أنّ التكلفة لا تزال مرتفعة، وحاجتنا إلى آلات تسهّل لنا الدخول إلى السوق اللبنانيّة والسوق العالميّة في ما بعد”.
يختم حمزة حديثه بالقول: “أنا لا أسعى إلى تحرير العالم، بل إلى وضع المعارف على الطاولة أمام الجميع، لإعادة التأكيد أنّ أهمّيّة المعرفة توازي كلّ شيء في العالم، وطالما أنّ احتكار المعرفة موجود لا يمكن للناس القيام بأشياء جديدة. وأنّ الوصول إلى مصادر المعرفة حقّ لا يمكن تجاهله أبدًا، وحتّى لا نبقى مهمّشين”.