مكتبتي التي نزحت عنها.. كوني بخير!

تفتتح الإسبانيّة إيريني باييخو كتابها الرائع “اختراع الكتب” (دار الآداب- بيروت) بالعبارة ألآتية: “إنّما الكتاب إناء يستقرّ فيه الزمن قبل كلّ شيء. إنّه حيلة إعجازيّة ينتصر بها الذكاء والرهافة البشريّة على الزوال الجارف”.

ليس الكتاب في هذا السياق مجرّد غرض من جملة أغراض البيت، ليس مجرّد أوراق مصفوفة بين دفّتين، فنحن مع هذه العبارة إزاء تصوّر عن الكتاب يرتقي بالكتاب لأن يكون شرط وجود الإنسان في العالم.

من الأمور التي لفتتني على صفحات التواصل الاجتماعيّ منذ بداية هذه الحرب تلك الصور التي يبثّها بعض النازحين لمكتباتهم العامرة بالكتب. عندما تندلع الحروب تراها في متنها الأعمّ تندلع ضدّ كلّ ما هو جميل في هذا العالم، والمكتبات ضمنًا.

تعويذة ضدّ شرور العالم

في كتابها “إبادة الكتب” (عالم المعرفة – 461) تقول المؤرّخة ربيكا نوث، “بالإضافة إلى ما تتّسم به الكتب من حيويّة جوهريّة فهي تنفخ الروح في المجتمعات…أمّا المكتبات فتنسج القصص التي تمنح الحياة معنى”. إنّ الكتب بالنسبة إلى الذين يهوون اقتناءها تنفتح على عديد الدلالات، فهي في بعض وجوهها انفتاح على العالم وبوجوه أخرى هي انزواء عنه، مداراته وأيضًا الخوض فيه في آن معًا. ولعلّ النزوح عن مكتباتنا يتماهى في صورته الأعمّ مع النزوح مع جزء من أرواحنا.

ثمّة علاقة جدليّة تقوم بين الكتب ومقتنيها، ثمّة أسرار لا تني تنشأ، وثمّة ذاكرة تفيض، وثمة نصّ غير مدوّن يزيّن علاقة صاحب المكتبة مع عديد كتبه… فالمكتبة في بعض تصوّراتها هي تعويذة ضدّ كل شرور العالم.

ليست المكتبة مجرّد تدفّق الكلمات المطبوعة فوق الصفحات وهي ليست ذلك الحيّز الذي يحتلّ هذا الركن من البيت أو ذاك، هي بالعمق تدفّق الإنسان في العالم بل وإسرافه الممتع في الوجود. إنّها الصخب الهامس والحميم المدوّي وهي في متنها الدافىء تلك الأنامل التي تقلّب الصفحات حيث الماضي والحاضر والمستقبل محلّ لمس وانسياب.

لا يفضي الكتاب إلى مطرح بعينه، أمّا النزوح عن المكتبة فيفضي إلى كلّ ضروب الخلاء، وأيضًا يفضي إلى التيهان.

‌كتب تستكمل الجسد

ليس من يسر الأمور أن ينزاح المرء عن جلد كتبه، عن بشرة هذه الكتب وما بثّتني إيّاه بعض البوستات على صفحات التواصل الاجتماعيّ حيال النزوح عن المكتبات يشي أنّ الكتب هي بدورها بشرة إنّما من نمط آخر، هي جلد وأظافر وتنشّق عميق للورق ونظرات لامتناهيّة بين السطور وفي أروقة الأحرف والكلمات.

قيل في المكتبات كثير ومن جملة ما قيل إنّها عبارة عن هويّات متغايرة، هويّات متنافرة، رصف لـ “أنا” أصحابها في أفق بعينه وإعادة نظر جذريّة في كلّ الآفاق والهويّات. أمّا عند النازحين من الذين يعشقون مكتباتهم فالمكتبات مع هذا النزوح ربّما تتحوّل لأن تكون استكمالًا للجسد، امتدادًا له بل واستراحة هذا الجسد في ذكرى تقليب الصفحات وتعقّب الكلمات وطيّ الزمان والمكان.

بالنسبة لي أنا المهووس بجمع الكتب فإنّ مكتبتي هي البيت، أمّا سائر محتويات البيت من كراس وطاولات وستائر وطناجر وصحون وكاسات وإلى آخره، فهي مجرّد أسباب لإيفاء شرط المكوث في بيتي الأصليّ، في المكتبة لساعات وساعات ولا أخال أنّ بعض النازحين عن مكتباتهم يخالفونني الرأي حيال هذا الأمر.

ليس من يسر الأمور أن ينزاح المرء عن جلد كتبه، عن بشرة هذه الكتب وما بثّتني إيّاه بعض البوستات على صفحات التواصل الاجتماعيّ حيال النزوح عن المكتبات يشي أنّ الكتب هي بدورها بشرة إنّما من نمط آخر

أيّ وشم هذا؟

أين سيضع النازح عن مكتبته تعبه وإرهاق نهاره وهو معتاد على وضع هذا التعب بين دفّتي كتاب؟ أيّ وشم هو هذا الذي يقدر أن يغالب وشم الكتب اللامرئيّ فوق الجسد وداخل القلب وداخل العين؟ إنّ النزوح عن المكتبة هو نزوح عن الذات وليست كلّ كتب المكتبة إلّا وسيلة لجمع شتات هذه الذات.

إن النزوح عن المكتبات هو نكث لوعد قطعناه مع أنفسنا حيال علاقتنا مع المكتبة إذ أروع ما في المكتبة هو أنّها على الدوم بمثابة استئناف لذاكرة أخرى… ذاكرة اقتنائنا هذا الكتاب أو ذاك، هذه المجموعة القصصيّة أو تلك، هذا المعجم الضخم أو تلك الرواية الطافحة بالملاحظات. المكتبة هي ذاكرة تفور بماضينا في معارض الكتب ودور النشر وأكشاك بيع الكتب فوق أرصفة مدينتنا وفوق أرصفة مدن أخرى في بلاد الله الواسعة. أمّا النزوح فهو نسف لكلّ هذه الذكريات.

لا أرى أنّ للمبالغة مكانًا في اعتقاد ذلك النازح عن مكتبته أنّ الحرب هي بمثابة ثأر شخصيّ ضدّ مكتبته، فلكلّ منّا على كل حال سرديّته الخاصّة عن الحرب… عن هذا النزوع الهائل إلى حرق الكتب وتدميرها.

الحرب النقيض الأشرس للمكتبات

قد يقع بنا الظنّ أنّ الكتب التي تحتويها مكتبتنا منطوية داخل أذهاننا وبين طيّات هذا الذهن، لكنّ النزوح كما أخال الأمر يؤكّد حقيقة أخرى: كلّ كتاب في المكتبة ينطوي على جزء منا. نحن شتات الكتب الكثيرة المصطفّة فوق الرفوف، وأيضًا الموزّعة بلا انتظام في أرجاء غرف البيت، وليس النزوح عن المكتبة إلّا نقيض هدأة مكوثنا داخل كتبنا.

بالعودة إلى إيريني باييخو في “اختراع الكتب”، “نعرف الكلمات المجنّحة عن طريق نقيضها”… والحرب هي النقيض الأشرس للمكتبات. الحرب هي نقيض السكنى بين صفحات كتبنا، نقيض تمرير أناملنا فوق الأغلفة والعناوين البارزة ونقيض تقليب هذا الكتاب أو ذاك بين الأكفّ ونظرات العيون وصولًا إلى استنشاق رائحة الورق كما أفعل على الدّوم. فالتشظّي الأمتع في هذا العالم هو تشظّينا بين ما نملك من كتب؛ أمّا النزوح، أمّا ذلك الهجران المذلّ فهو تكثيف لغربة المرء عن الأغلفة والعناوين والصفحات… غربة المرء عن ذاته ومكوثه بين براثن الخواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى