ملحم عماد كاريكاتوريّ ندَف القطن ونتَف السياسيّين
لطالما دار فنّ الكاريكاتور اللبنانيّ في فضاء محلّيّ، يشاكس الوزراء والنوّاب، ويناغش رؤساء الطوائف، والأحزاب، آخذًا المنحى اليمينيّ في غالب الأوقات، واليساري العروبي في أحيان ثانية. كان ملحم عماد من هذا الخطّ، عروبيًّا من دون أن يتخلّى عن روحيّته اللبنانيّة، فكان الفنان الضرورة، لتتوازن كفّتا الميزان، في بلد أدمن لعبة التوازنات.
طوّع هذا الفنّان قلم التحبير، ليصنع الخطّ بضربة واحدة، بانسجام هندسيّ كأنّه يخفي بيكارًا سرّيًّا بين أصابعه. يرسم ملحم عماد “بحبر من مطّاط ” كما وصفته في كتابي التأريخيّ “الكاريكاتور العربيّ والعالميّ”، فلهذا الفنان ميزة الحضور المتخفّف، فلا يثقل على فنّ الكاريكاتور بأفكار غامضة، ولا يبالغ في تلوينه، فيطغى الرسم على الجانب الدلاليّ السيميائيّ.
سياحة الحرب الاضطراريّة
ولد ملحم عماد في بلدة دير الأحمر (البقاع) في العام 1939 وترعرع في منطقة الحازميّة، لتكون الشيّاح (عين الرمانة) مقرّ سكن العائلة، التي عانت كثيرًا في إبّان الحرب اللبنانيّة لمجاورة البيت طريق صيدا القديمة، خطّ النار الفاصل بين الـ”بيروتين”، فكان التهجير القسريّ من بشرّي، إلى الأرز وعاليه وبحمدون، لكنّ “عشِقَ المدينة، وقلّما زار دير الأحمر” كما تقول ابنته ندى، لـ”مناطق نت”.
ندى الصحافيّة والكاتبة الدراميّة التي تكتب مسلسلًا كلّ عام، لصالح “إم بي سي عراق”، هي أيضًا روائيّة، صدرت لها “يوميّات امرأة مغتصبة”.
بصمة البدايات
في صغره عمل عماد منجّدًا للفرش، ونادفًا لقطن الألحفة. كان ذلك في العام 1949، شاء القدر أن يلتقي شابًّا فلسطينيًّا يدعى محمّد، فأعجب ملحم عماد بثقافته، والقصص التي يحكيها بسلاسة، كما برسوماته التي كان بارعًا بتنفيذها. تعلّم منه بعض خطوات الرسم، وراح يطوّر أسلوبه، فينفّذ البورتريه عبر رسم المربّعات، لمطابقة الشبه، ثم تعرّف إلى الشاعر مارون كرم الذي طلب من عماد رسم لوحة غلاف، فكانت تلك من لوحاته الأولى التي وجدت طريقها إلى المطبعة.
كان ديوان “ورد وشوك” الذي بقي في ذاكرة ملحم عماد، كما في كلّ مرّة يسرد فيها قصّة البدايات، حال رسمه للرئيس كميل شمعون، الذي كان الوجه الأول الذي يرسمه، سنة 1952.
المدرسة المصريّة
في مجلّة “الصيّاد” كانت أولى إطلالات رسوماته، التي بدأت تلفت الأنظار انطلاقًا من العام 1961، ليرسم كذلك في “بيروت المساء”، و”السياسة”. كذلك سافر إلى مصر لتعميق تجربته وعمل أشهر عديدة في مجلّتيّ “روز اليوسف” “وصباح الخير”، وكانت في طليعة المجلّات المصريّة التي تعتمد الكاريكاتور، وتصنع الفنّانين، مقدّمة لهم الشهرة، على طبق من حبر.
في صغره عمل عماد منجّدًا للفرش، ونادفًا لقطن الألحفة. كان ذلك في العام 1949، شاء القدر أن يلتقي شابًّا فلسطينيًّا يدعى محمّد، فأعجب ملحم عماد بثقافته، والقصص التي يحكيها بسلاسة، كما برسوماته التي كان بارعًا بتنفيذها
تعرّف عماد على جورج البهجوري وصلاح جاهين وبهجت عثمان والليثي ومحي الدين اللبّاد، فرسان الكاريكاتور الذين أغنوا زمن عبد الناصر بالأحلام والتجدّد والحداثة، كردّة فعل على الزمن الملكيّ. لذلك لم تكن مجرد زيارة، إنّما غرف تقنيّ ومعرفيّ وسياسيّ من مدرسة سيراقصها ابن دير الأحمر في “الصيّاد” ذات التوجّه الناصريّ، و”الكفاح العربيّ” العروبيّة كذلك.
بدأ من العام 1962 في جريدة “الحياة” حتّى 1975، كذلك نشر في “البيرق”، “الدنيا”، “اللواء”، “الجمهور الجديد” و”الديار”. ومنذ العام 1975 رسم بشكل منتظم في “الكفاح العربيّ” حتّى تاريخ وفاته في 9 آذار/ مارس 2017. مراحل متنوّعة بأساليبها وأفكارها، استتبعها عماد بالرسم المتحرّك على تلفزيون “المشرق” مطلع التسعينيّات. فعليًّا كان المنافس الوحيد للفنّان بيار صادق الذي ابتدع هذا الأسلوب على شاشة “إل بي سي”.
الرسم للأطفال
الجميل في مسيرة ملحم عماد رسمه للصغار في مجلة “سامر” التي نفّذ فيها صفحات عديدة، أشهرها تلك المستفيدة من شخصيّة “حسني البورظان” (نهاد قلعي) الذي شكّل ثنائيًّا مع غوّار (دريد لحّام). كانت ريشته تلعب في تلك المساحة البريئة، كأنّها خلقت لتكون ها هنا، في عالم حرّ الخيال. لسنوات طويلة بقي عماد في “سامر” التي توقّفت قبل “الكفاح العربيّ” بسنوات.
التقنيات الصانعة للهويّة
تقنيًّا، رسم عماد بقلم الحبر المخصّص للرسّامين والمهندسين، بعد أن يحدّد بعض الخطوط بقلم الرصاص ليبقى مسيطرًا على المساحة التي يشتغل بداخلها. فإذا كان الرسم من غير ألوان، كان يعمد لتعبئة المساحات بتدرّجات الرماديّ الذي ينشره بواسطة الفرشاة.
على شاشة “المشرق” اعتمد عماد التحريك والتلوين بواسطة الكمبيوتر، فكان سهيل ماضي مساعدًا له في الأمور التقنيّة آنذاك، بينما كان بيار صادق يرسم يدويًّا على أن يكون التحريك بتقنيّة المونتاج.
مفارقة الولادة والموت
جمع ملحم عماد أكثر من خمسة آلاف من رسوماته في ثلاثة ألبومات، أصدرها في ثلاثة كتب كان أوّلها “خطوط من معركة” في العام 1967، وثانيها “كاريكاتور ملحم عماد” العام 1977، أما الثالث فكان “الحلم الذاتي” في العام 1993. وفي العام 2009 صدر له عن دار “المحرّر العربيّ” كتيّب يتضمّن رسومات للرئيس الشهيد رفيق الحريري التي عرضت في معرض في ساحة البرج في العام 2005 ، والجدير ذكره أنّه رسمها كلّها في خلال 24 ساعة فقط.
هي كلّ ما أصدره في حياته، بينما كان الكتاب الرابع تتويجًا للتجربة بأعمال متنوّعة، فاشتغلت ابنته ندى على هذا العمل الذي جرت تحضيراته خلال فترة مرض عماد لتكون المفارقة المؤلمة. تقول: “في الوقت عينه الذي أسلم فيه والدي الروح، جاءنا الاتّصال من المطبعة مبشّرًا بصدور الكتاب”. ندى التي أكملت باقي الخطوات بعد أشهر بحفل تكريميّ كبير، تخلّله إطلاق الكتاب، وعرض بعض أعمال الفنّان الراحل. كانت القاعة محتشدة في بلديّة الحازميّة، المنطقة التي بقي وفيًّا لها وكانت وفيّة له.
ريشة في صحيفتين
حين رسم عماد في جريدتين يوميّتين هما “الكفاح العربيّ” و”اللواء”، كان الأمر مستغربًا للبعض، حيث التناقض السياسيّ بين المؤسّستين البيروتيّتين، لكن فعليًّا لم يكن الأمر بالجديد على ريشة عماد، وكثيرين ممّن رسموا في الصحافة اللبنانيّة، مثل ستافرو جبرا ونبيل قدوح، وهو أمر شائع كذلك في مصر، حيث كان عدد الفنّانين قليلًا نسبة لكمّ الصحف التي تصدر يوميًّا ودوريًّا.
على العموم لجأ عماد إلى طريقة ذكيّة غيّر فيها شكل توقيعه المعروف، ليكون في اللواء بتوقيع كثير الدوائر، فكان في اليوميّتين بتوقيعين. هكذا حلّ إشكاليّة الظاهر، بينما في الباطن كان مع هذا الفريق وضدّه، وهي إشكاليّة حلّها هذا الفنّان اللامبالي، حيث لم يكن “يقبض” الطبقة السياسيّة اللبنانيّة برمّتها، ليجد أربابها جميعًا مخطئين يستأهلون العقاب، على طريقة قصّة “عشرة عبيد صغار” لأغاتا كريستي.