“مناطق نت” والمليون الأول..إلى صحافة أخرى
زهير دبس
العنوان كبير جدا، ما زال بعيدا، ليس فقط بالوصول إليه، إنما أيضا بالإمكانات، لكن بالطموح والعزيمة والإرادة نحن هناك، جواز عبورنا إلى هذا العالم أن نكون إضافة جديدة.
مليون زائر وأكثر قليلاً هو عدد الذين دخلوا موقعنا “مناطق نت” الذي انطلق قبل حوالى الست أشهر من الآن. بعض هذا المليون مرّ مروراً سريعاً، وبعضه الآخر فلفش مواضيعنا وواظب على القراءة، والبعض علّق. ومنهم من وجه شتيمة . لكنهم بالنسبة إلينا هم قراء وليسوا أرقاما، نفرح لمرورهم ونسعى لزيادتهم زواراً ومقيمين. بهم نكبر ومعهم نستمر.
قد يكون رقم المليون مثار تساؤل وجدل عند البعض يشككون فيه في زمن تُرمى فيه الأرقام جزافاً ولم تعد فيصلاً في عملية الحسم التي تدور عادة رحاها ما بين التأويل والحقيقة، حيث تحاول الأخيرة جاهدة أن تحجز لها مكاناً في هذا الفضاء المترامي والضبابي. قد يكون الرقم متواضعاً بالنسبة للعديد من المواقع التي تسجل ملايين الزيارات وتملك إمكانات كبيرة وقد يكون متواضعاً أيضاً إذا ما أدخلنا هذا الرقم في سوق شراء الأرقام الوهمية التي تشهد رواجاً في عالم المواقع والصفحات التي تلهث خلفه بعيداً عن المضمون الذي تقدمه.
الاحتفاء بالمليون ليس احتفاءً «رقمياً» بقدر ما هو احتفاء «كيفي» نلج من خلاله إلى كيفية قدوم هؤلاء الزوار إلى الموقع، والموضوعات والأخبار ومقالات الرأي والتحقيقات التي جذبت هذا المليون وراكمت هذا الرقم. وهنا نشير إلى أن عدد الموضوعات المتواضع والذي بالكاد بلغ حوالى ٣٠٠ موضوع لا يتضمن أي واحد منها خبر فضائحي أو إيحائي أو عناوين تشويقية وجميعها ابتعد عن النسخ واللصق و«التشيير» و«الغوغلة». موضوعاتنا كانت صناعة ذاتية عكست إلى حدٍ بعيد عنوان منصّتنا الإلكترونية وابتعدت إلى المناطق ومنها صنعت العديد من المواضيع التي نُشرت.
رقم المليون ليس هو ما نحتفي به اليوم بالرغم من أنه مصدر فخر واعتزاز، إلا أن الولوج منه إلى بيت القصيد هو ما سنتحدث عنه في هذه المناسبة التي ندعي أننا ربحنا الرهان فيها وهو التلمُّس الذي أدركناه في العطب الذي تشهده الصحافة الإلكترونية من تناظر وتشابه وسباق محموم على الخبر (كما هو). والنسخ واللصق والنقل مما حوَّل تلك الصحافة إلى صحافة خبرية جافة ومكررة يلهث القيمون عليها في التسابق وراء الخبر الذي ينتشر كالبرق في فضاء الشبكة العنكبوتية الشاسعة.
لقد أدّى السباق المحموم على نشر الخبر إلى ضياع المضمور منه وإلى تبديد مقصود لوقت القارئ والمتابع وإغراقه في بحر من المعلومات بقيت قاصرة عن بلوغ عتبة مضامينها الحقيقية. حيث تحوّل معها الصحافي إلى «زجال» رقمي يقوده الخبر من مكان إلى آخر بعيداً عن التحليل أو التدخل أو الإضافة التي تعطي الخبر بعداً آخر يحوله إلى مادة صحافية حقيقية بعيدة عن التجريد وقريبة من التأثير الصحافي في مسار الحدث.
منذ البدء العكسي لانحدار الصحافة الورقية وحلول الإلكترونية مكانها شهدت الأخيرة مخاضاً كبيراً وتحولات وتحديات حقيقية. كان أولها التحول المهني الذي فرضته أدوات النشر الالكتروني وثانيهما مسألة التمويل والاعلانات وثالثهما وليس آخرهما مسألة تبلور هوية الصحافة الالكترونية وآليات عملها والمعايير التي تستخدمها. لكن الواقع الجديد الذي أفرزته تلك الصحافة يبقى التحول الأبرز في مسارها وهو كسرها لاحتكار الصحف ووسائل الاعلام لمسألة النشر، وأيضا كسرها للهرم البنائي لتلك العملية والتي تقلصت وتضاءلت الى ادوات بسيطة ومكان متواضع، حيث تحولت الصروح الضخمة إلى مكتب متواضع وطاولة وكرسي يجلس عليها صحافي امامه كمبيوتر. ومعهم اصبح اطلاق صحيفة مسألة متاحة أمام من أراد إليها سبيلا.
لقد أدَّى الانتشار السهل للمواقع الالكترونية وتقلُّص المسافة بين الصحافة والقرَّاء، إلى ظهور جيش من الصحافيين من خارج «القيد الصحافي»، وأدى إلى تحرُّر الخبر من كواليسه وخروجه عن انتظام المادة الصحافية كجزء منها. ومهّد لنهاية صحافة الخبر. وهذا يحيلنا إلى رئيس تحرير “بلومبرغ” جون ميكلثوايت في حواره مع الروبوت الصحافي تحت عنوان «عودة النوعية» (نشره موقع المدن) فيقول «في العام 2006 كنا معتادين على شبكة الانترنت المجانية مع بعض الاستثناءات ومن ضمنها “الايكونومست”. لكن في زمن “نتفليكس” و”سبوتيفاي”، عاد الناس لعادة شراء المحتوى. إنهم يعيشون في عصر اقتصاد المعرفة حيث هناك أهمية حيوية للأفكار والمعلومات فيما تبقى صناعة الخبر بخسة الثمن. بإمكانك اليوم أن تشتري كل ما سبق ذكره بسعر أكواب الكابوتشينو التي تستهلكها في أسبوع واحد».
كلام ميكلثوايت ينعي «صحافة الخبر» في الصحافة الالكترونية ويصفها بأنها بخسة الثمن لكنه يؤذن لعصر جديد هو «شراء المحتوى» الذي عادت الناس لتهتم به بديلاً عن التعمية التي يتسبب بها طوفان الأخبار، وفي هذا الإطار يقول ميكلثوايت: «ما زلنا بحاجة للبشر ليس فقط لكتابة مقالات ذكية بل للنظر أيضاً في أي إختلالات في النص». لقد تغيرت مهمة الصحافيين من وصف ما يحصل الى الإجابة عن أسئلة من نوع لماذا وكيف؟ يقول ميكلثوايت ويتابع: «عمل الصحافيين الذين يكشفون معلومات لا تتمكن الحواسيب من الوصول اليها، يرتدي أهمية كبرى في عالم يسهل الحصول فيه على المعلومة لتصبح مادة التعليق الصحافي فائقة الأهمية».
لا ندعي في «مناطق نت» حصرية تلمُّسنا لذلك التحول، بل بإنجاز حققناه في فترة وجيزة بأن حجزنا لنا مكانة مميزة بين مثيلاتنا من مواقع النشر الإلكترونية بالرغم من الإمكانات المتواضعة التي نعمل بها. في «مناطق نت» ابتعدنا عن التشويق الرخيص والإثارة في جذب القارئ، لكننا نحونا إلى جاذبية أخرى هي خاصة بنا ونعمل على تطويرها. وفي اعتقادنا أن الصحافة الالكترونية ليست هي من «يغربل» نفسها بل ستترك للقارئ الذي هو من سيقوم بهذه المهمة.
في «مناطق نت» كان لنا سياسة خاصة بالخبر، وعلى قواعدها ننشر ونهمل. وهو ما قاله ميكلثوايت من أن «الصحافة تعيش مرحلة انتقالية وما يطفو الى السطح هو مزيج من التكنولوجيا الجديدة والحقائق القديمة». فالصحافة ليست «خبراً على ورق» إنما بدأت تندرج ضمن عالم جديد هو إقتصاد المعرفة. «مناطق نت» عقدت العزم أن تحكي عن اللامحكي، وتقول الذي لا يقال. فمناطقنا ليست خبرا عابراً بل موضوعاً يُسلط الضوء عليه فهناك في مناطقنا أشياء جميلة ومميزة تنقصها الكلمات لينكشف الواقع كله لنا.
في مليونية «مناطق نت» تبقى معايير النشر وآلياته هاجسان يحكمان عملنا، فالخبر بالنسبة إلينا لا يصنع صحافة والتسابق في نشره لا يصنع موقعاً طليعياً، بل المادة المنتقاة وطريقة تقديمها والغوص فيها هو من يصنع صحافة متميزة يفتقدها القارئ في بلاد يتقاسم فيها أهل السلطة والنافذين كل شيء بما فيها وسائل الإعلام. وبالرغم من اتساع فضاء الحرية في لبنان إلا أن الاعلام يتعامل بانتقائية مع هذا الفضاء، فهو يتمدد إلى حدوده القصوى في مواضيع وينحسر إلى حدوده الدنيا في مواضيع أخرى.
في مليونية «مناطق نت» يبقى الشكر الأكبر للقراء والزوار الذين هم مصدر استمرارنا وتقدمنا، فلولا مرورهم لما استطعنا الاحتفال بمليونيتنا هذه ولولا مواظبتهم لما استطعنا أن نقول أن مليون وردة لا تكفي… شكراً.