منتدى التراث والثقافة في الهرمل.. حاضنة ثقافية فاعلة
تقدّم القرى والأرياف والمناطق البعيدة عن وهج المركز نماذجها الخاصّة التي تعكس عيشها للثقافة، فهما وسلوكا. فيمكن أن يُقدَّم اللون الثقافي كزينة تتيح للزاهين بها أن يمارسوا ترفا فكريا يتمايزون به عن البيئة الغالبة، فتغدو الثقافة علوّا في المرتبة الرمزية لأصحابها ليس إلا. ويمكن أن ينجح الفعل الثقافي في أن يؤدي إلى حالة تغيير في المحيط الذي أعمل به أدواته لأنه انطلق بالأصل منه، معاينا مشكلاته ونواقصه، هادفا إلى التخفيف من تبعاتها، فتقترن الثقافة بفهم ملتزم يحوّلها إلى نتاج يقصد إلى تحسين وضعية الإنسان في المجتمع.
منتدى التراث والثقافة في الهرمل هو نموذج لظاهرة ثقافية فاعلة في بيئتها، مهمومة بمشاكلها، ومنهمّة بالانفتاح على أهل الهرمل والتواصل معهم والحضور بينهم، وهذا ما نجح المنتدى في ترسيخه عبر تاريخه منذ العام 1985 حتى اليوم.
نبذة ناريخية
سبقت الانطلاقة الرسمية لمنتدى التراث والثقافة العام 2004 بعد حيازته على ترخيص، حركة ثقافية فاعلة تمثّلت بلجنة العمل الثقافي. “مناطق نت” زارت المنتدى في الهرمل وتحدثت إلى عدد من أعضائه ومنهم الأستاذ مخلص أمهز الذي عايش تلك المرحلة، فقال “إن المبادرة حضنتها مجموعة من المثقفين والأساتذة والفنانين تداعوا إلى تنشيط العمل الثقافي في الهرمل، فداوموا على إحياء المناسبات الوطنية وعيدي الموسيقى والعمال. وتواصلوا مع دور نشر للحصول على كتب بقصد إقامة معارض، وإنشاء مكتبة كبيرة منحوها للطلاب والتلامذة وفق نظام إعارة منظّم، كما شهدت هذه البداية نوعًا من توأمة مع جهات فرنسية وتبادل طلاب مع الفرنسيين.
هذا من جانب الثقافة، وبالمقابل انسجمت اهتمامات المنضوين في المنتدى مع تسميته، فأولوا حرصا على تراث الهرمل لحفظه من النسيان والاندثار، وفعّلوا حركتهم هذه مطلقين مجموعة من الأنشطة، منها تنظيف قاموع الهرمل وإحصاء الأبنية التراثية في المدينة مناشدين عدم هدمها والحفاظ عليها وترميمها. أيضاً مطالبة البلدية بإيلاء الاهتمام بالشواهد التراثية غير المعروفة في الهرمل، ككنيسة بريصا وصخرة نبوخذ نصّر في البلدة ذاتها الواقعة في جرود الهرمل.
توسّع انتشار المنتدى وترسّخ حضوره في البيئة الهرملية، حيث صار حالة ثقافية لافتة بعد مرحلة المأسسة التي شكّلت نقطة تحوّل نوعية في تاريخه. ترافق ذلك مع إنشاء بناء خاص ومستقل، فانتقلت الهيئات الفاعلة في المنتدى إلى شكل جديد وحديث في التنظيم المُرشّد من قبل رؤية وهيكلية واستراتيجية لتقسيم العمل وتوزيع الصلاحيات على اللجان وفق مهام موكلة إليها.
يتوزّع أعضاء المنتدى إلى هيئتين؛ إدارية وعامة، يتوزعون إلى لجان ناشطة في مجالات متنوّعة، حيث تم استحداث نادي الشباب ليضم الفئات الفتية والشابة. اللافت في المنتدى غلبة الحضور النسائي والدور الفاعل للنساء في مختلف الأنشطة، حيث استطعن القيام بأدوار نوعية ومؤثرة في المنتدى وفي الحقلين الاجتماعي والتربوي.
رؤية المنتدى وأهدافه
تؤكّد الأستاذة سعاد بليبل على الطابع التطوّعي الذي اختاره الناشطون للعمل في منتدى التراث والثقافة. فالجمعيات ذات الوظيفة الثقافية بحسب رأيها تنطلق من حاجة المجتمع وناسه لها. والهرمل كانت وما زالت بحاجة إلى نتاج ثقافي ينبثق من وضعيتها الخاصة كمدينة بعيدة، محرومة وموصومة بتصوّرات نمطية سلبية. لذا كان لا بد من توظيف الثقافة وإنعاشها وتحويلها إلى واجهة حضارية تُعرف الهرمل من خلالها.
المحدّد الآخر الذي وجّه أشكال العمل الثقافي في المنتدى، هو كون أغلبية الناشطين فيه يعملون في حقل التربية والتعليم. فهؤلاء المربّون يؤمنون بأن هامش التربية لا بدّ أن يتوسّع ويمتدّ خارج أسوار المدرسة، وأن يُقرن بالتنشئة الثقافية التي تبني ليس فقط إنسانا متعلّما ملمًّا بمعارف مدرسية، وإنما أيضا فردا ناشطا يحمل قيما اجتماعية منفتحة على الآخر.
وفي هذا السياق يقول الأستاذ سهيل الطشم وهو من المؤسسين الأوائل أن واحدا من مقاصد المنتدى هو تحويل الإنسان المتعلم إلى إنسان قادر على تحويل معرفته إلى ثقافة يوظّفها في الحقل والبيئة الاجتماعيين حيث يعيش. ومن أهم القيم التي شكّلت مرتكزات العمل الثقافي وتجلياته هي: قبول الآخر، نبذ التعصّب، التنشئة على قيم المواطنية، الانتماء إلى الوطن، تنمية الجوانب المبدعة في الأجيال.
من ناحيتها قالت الأستاذة لينا العاشق إننا كمؤسٍسين حرصنا على أن نترجم هذه القيم إلى سلوك عملي ممارس، لكي لا تبقى مجرد شعارات. فنحن مجموعة عمل نجحت في أن تقدّم نموذجا للانصهار بالرغم من تعدد انتماءاتنا السياسية وقناعاتنا الأيديولوجية، ولكننا غلّبنا المصلحة العامة لمنتدانا ليؤدي رسالته الثقافية التغييرية القاصدة إلى إحداث تراكم تطوّري في مدينة الهرمل.
الأنشطة والفعاليات
حكمت هذه القيم وجهة النشاطات التي تنوّعت وتعدّدت وتراوحت بين ما هو كلاسيكي صار تقليدا وجزءا من تراث المنتدى وتاريخه، وبين ما هو متجدد مواكب للحظة الحاضرة بحدود ما تسمح به الإمكانات المادية المتاحة. فاستمرّت الاحتفالات بالأعياد الرسمية وبعيد الموسيقى، وأقيمت فعاليات تحتفي بشعراء وتكرّم أدباء وشخصيات، توقيع كتب، أمسيات شعرية، بالإضافة إلى معارض صور ورسم وتفعيل المسرح والمسرح الإيمائي لعرض المسرحيات المستهدفة لفئة الأطفال والشباب بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي.
وتطوّرت فعالية الأنشطة لتلحظ المواهب لدى الفئة الشبابية لاكتشافها وتوجيهها، والمواظبة على احتضان الاطفال والناشئة في مخيمات تهدف إلى التوعية على قيم المواطنة وحقوق الطفل والإنسان والانفتاح على الآخر وقبول المختلف، فكان يتم استقبال أو زيارة أطفال من مناطق أخرى.
وتمسّكا بالحرص على الانتشار والتواجد بين أهل الهرمل، اشتغل أعضاء المنتدى كما تقول المربية ابتسام شمص على لحظ دور للمرأة الهرملية بخاصة النساء غير المتعلّمات فتوجّهن إليهن من خلال دورات محو أمية، وفكّرنا في كيفية تمكينهن عبر تعليمهن الخياطة مثلا. كما أننا خصصناهنّ بحلقات توعية للتخفيف من أثر الصدمات النفسية عليهن. وتضيف ابتسام أنه بالرغم من تنوّع الأنشطة وغناها، حافظنا على دورنا التربوي التعليمي في تقديم دروس الدعم والمساندة، وكان لنا دور كبير ومساند للأطفال السوريين الذين شكّلنا بالنسبة لهم ملاذا دافئا وآمنا في المدينة، وحرصنا على متابعة أوضاعهم النفسية والاجتماعية.
نتيجة هذا التواجد الملحوظ والفاعل والإيجابي، صار المنتدى وأعضاؤه ظاهرة مقبولة ومحببة تحوز على ثقة الأهالي واحترامهم. لكن هذا الجهد التراكمي آتى ثماره في نادي الشباب الذي أحدث تحوّلا نوعيا ومضيفا في منتدى التراث والثقافة.
نادي الشباب، إصرار على الاستمرار رغم الصعوبات.
خزامى الجوهري وهي بحسب رأيها تمثّل جيلا وسطا، بين المؤسّسين الأوائل والشباب الصاعد تروي تجربتها في المنتدى فتقول “أنا تربّيت ونشأت في أحضان منتدى التراث والثقافة حيث أُتيح لي أن أنمّي قدراتي وأطوّر مهاراتي، بخاصة بعد انخراطي في دورات تدريبية كنا نقصدها في بيروت لنكتسب منها خبرات نوظّفها في رفد المنتدى وابتكار مشاريع جديدة. إحدى هذه المشاريع تمثّلت في استحداث نادي الشباب عام 2009 موّلته جمعية Asmae.
الغاية من هذا النادي هو استقطاب شباب الهرمل وشابّاتها، وتحفيز قدراتهم وإشراكهم في نشاطات يتلمّسون من خلالها إمكاناتهم الذاتية لاكتشاف مواهبهم، وتأهيلهم ليكونوا مبادرين، فاعلين وقادرين مستقبلا على أن يكملوا مسيرة المنتدى.
استطاع هؤلاء الشباب من خلال ناديهم أن ينمّوا روح الجماعة بينهم، وتنبّهوا إلى التفاوت الكبير بين واقعهم الهرملي المحروم وبين حال شباب آخرين في مثل أعمارهم في المدن، فكانوا يتحمّسون إلى المشاركة في دورات تطوير وتدريب يخلقون منها أفكارا ومساهمات القصد منها سد النقص قدر الإمكان وابتكار أنشطة عصرية وهادفة، بخاصة أن الهرمل وأطفالها وشبابها يفتقرون إلى الحد الأدنى من مصادر التسلية وتطوير الذات سواء في الفن او الرياضة أو في أي مجال آخر.
واستطاع شباب هذا النادي أن يفرضوا وجودهم من خلال النشاطات المبدعة التي توجّهوا بها إلى أطفال الهرمل، فحققوا عبر هذه المبادرات المندفعة ذواتهم، وعمّقوا انتماءهم إلى المنتدى، وهذا ما يجعلهم بالرغم من ابتعاد البعض عن الهرمل بهدف التعلم أو العمل يعودون، مبدين الحرص الجمعي على الاستمرار من خلال ارتباطهم العميق بنادي الشباب.
كتب ومسرح بين الأحياء
هبة شاهين واحدة من شابات النادي تقول بأن المنتدى كان منفذا لنا للتعبير عن ذواتنا بخاصة في ظل غياب أية مجالات شبابية في الهرمل تقوم بهذا الدور. انتسبت لنادي الشباب بعد أن شدّني إليهم الدور المختلف الذي كانوا يؤدّونه في المجتمع الهرملي، فالشباب في المنتدى يتنقلون بين الناس في الأحياء حاملين المكتبة والكتب إلى الفضاء الأوسع ليقرؤوا الحكايات للأطفال، وكذلك المسرح المتنقل لتسليتهم وإفادتهم. كل هذا النشاط المندفع هو عمل تطوّعي نابع من حب الانخراط في الشأن العام لتحقيق حضور ملفت ومؤثر في البيئة.
من جهتها تقول ديما ناصر الدين أن وجودنا في المنتدى أثرانا كثيرا على المستوى الشخصي، فنحن استطعنا أن نكتسب ونتعلم ونعايش تجارب الانفتاح على الآخر، فكنا نستقبل وفود شبابية من مناطق أخرى ما جعلنا ننتبه إلى ضرورة التفكير والتفاعل خارج الدائرة الضيقة للمدينة. تضيف ديما “نحن كشباب حريصون على استمرار المنتدى ذي التاريخ المتراكم والغني، لذا يجب رفده دائما بطاقات شابة تعتمد على مخزونها من التجارب والأفكار، وهي تدعو الجهات المختصة إلى تمويل المنتدى وتقدير دوره بخاصة في هذه الظروف الصعبة التي أثرت على أداء أفراد نادي الشباب، الذين يعانون مثل كافة الجيل اللبناني الشاب من قلق المصير وضبابية المستقبل.
المنتدى برأي كل من هبة وديما يجب أن يبقى ويستمر لكي يتم الحفاظ على كل ما تحقق، ولكي يبقى واحة الهرمل الثقافية النوعية في حضورها وفي شكل الثقافة المنفتحة والمرنة والمتفاعلة التي يمثّلها.
الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها
يخشى القيّمون على المنتدى أن تنعكس التأثيرات السلبية للأزمة الاقتصادية على الأداء ذي الوتيرة الناشطة الذي دأب عليه الأعضاء الناشطون والمتحمسون باختلاف أجيالهم.
وتعبّر هيفاء صقر عن هذا القلق النابع من “تخوّف تفريغ المنتدى من طاقته الشبابية بشكل خاص، بالإضافة إلى عدم كفاية الاشتراكات الشهرية لتلبية الحاجات المادية والمتطلبات الضرورية للاستمرار”.
يبقى أن منتدى التراث والثقافة صار جزءا من تاريخ الهرمل، حاضرا في أحيائها ومدارسها ومقاهيها وبيوتها وشوارعها، التي شهدت كلها معاني الفرح والمحبة الصادقة والاندفاع لتترك بصمتها لدى الكبار كما الصغار، ولتفرد للثقافة مساحتها الخصبة وبتنوّع تلاوينها، ولتجد طرقها وقنواتها لتستقر ّ في واقع المدينة المتعطّش إلى كل هذا الدفق من العطاء الذي كتب عليه أن يعيش الحرمان منه.