منتديات الجنوب تحيي نشاطاتها الثقافيّة على وقع الحرب
مع أزيز المسيّرات التي لا تفارق سماء الجنوب، ورُعب جدار الصوت الذي تبقى الآذان والقلوب متيقظة له، يُناقش هُواة الثقافة والقراءة في الجنوب الكتب ويحيون الأماسي وينتجون أعمالهم الفنّيّة والأدبيّة. يقطع هؤلاء الطرقات بين البلدات قصد حضور أمسية شعريّة أو محاضرة ثقافيّة أو مناقشة كتاب. ولو استثنينا مقولة “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” قد يبدو ذلك عملًا انتحاريًّا أو فعلًا ساذجًا في زمن الحرب، أو نوعًا من الترف.
منذ تاريخ السابع من تشرين الأوّل 2023 وإلى اليوم، والجنوب في قلب نار الحرب يعيش تداعياتها القاسية، وهو ما يظهر جليًّا في نمط عيش كثيرين من الجنوبيّين، حيث سلَبتهم الحرب طمأنينتهم وأمانهم.
وعلى الرغم من قساوة ما يحدث على الحدود، إلّا أنّ الجنوبيّين اعتادوا ذلك وخبروه مراراً وتكراراً طوال عقودٍ من الزمن، فالجنوبيّ متمسّك بأرضه مؤمن بها، مسكون بالأمل، وفي الوقت ذاته متمسّك برغبته في العيش وممارسة ما يغويه ويحبّه، كأداة للصمود وإحياء الأمل. في ظلّ كلّ هذا، ما هو حال الوسط الثقافيّ والأدبيّ في الجنوب؟ هل تمكّنت الحرب منه، كما نكّلت بمختلف القطاعات السياحيّة والاقتصاديّة وكذلك الحياة الاجتماعيّة للناس؟ أم أنّه استطاع المقاومة والصمود حتّى الآن؟
مع أزيز المسيّرات التي لا تفارق سماء الجنوب، ورُعب جدار الصوت الذي تبقى الآذان والقلوب متيقظة له، يُناقش هُواة الثقافة والقراءة في الجنوب الكتب ويحيون الأماسي وينتجون أعمالهم الفنّيّة والأدبيّة
الثقافة في زمن الحرب
يُعرّف العالم الإنكليزيّ إدوارد تايلور الثقافةَ بأنّها “تلك الكُلّيَّة المُعقَّدة التي تشمل المعرفة والفنّ والأخلاق والإيمان والقانون والعادات، وأيَّ قدراتٍ أو عاداتٍ يكتسبها الإنسان كعضوٍ في المجتمع”.
لا يوفّر سليم يونس، ابن بلدة الصرفند الجنوبيّة، وهو ناشط بيئيّ وثقافيّ، ناديًا للقراءة إلّا ويرتاده، يدعو نفسه للبحث والتفتيش عن كلّ ما يتعلّق بعالم الثقافة والكتاب، هو الشغوف بالقراءة منذ الصغر، لا يضيّع مناسبة ثقافيّة أو محاضرة أو أمسية. وليس غريبًا أن يكون همّه البيئيّ مواكبًا لهمّه الثقافيّ، فكان قد أسّس مركزًا لفرز النفايات في بلدته، ومن الكتب التي كانت تُرسل مع المفروزات الورقيّة والإلكترونيّة كوّن مكتبة.
خلال شهر أيّار وتزامنًا مع عيد المقاومة والتحرير قامت بلديّة النبطيّة بالتعاون مع الجمعيّة التنظيميّة لتجّار النبطيّة بافتتاح مهرجان “صامدون” الذي تضمّن كثيرًا من الفعاليّات الترفيهيّة والتجاريّة التي تعكس نوعًا من ثقافة التصدّي والمواجهة في ظّل الظروف الأمنيّة والاقتصاديّة الصعبة.
وضمن هذا الإطار وبين مدّ وجزر تعمل جمعيّة تقدّم المرأة في النبطية بالتشبيك مع بعض الجمعيّات كالمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، بعقد ندوات وأمسيات مناسباتيّة، هذا وقد دأبت بعض الأنديّة على استئناف أنشطتها بعيدًا من المناطق الحدوديّة والتي تشهد دمارًا هائلًا.
منتديات القراءة
يشارك يونس في منتديات مناقشة الكتب، ويذكر منها “منتدى خير جليس” الذي انبثق منذ خمس سنوات عن “جمعيّة سوا الثقافيّة الاجتماعيّة” في البيساريّة، يجتمع الأعضاء شهريًّا، يتّفقون على اختيار كتاب، يقرأونه في مدّة معيّنة ويناقشون أفكاره مجتمعين.
“تأقلم الناس مع التهديدات الإسرائيليّة” يقول يونس في جواب على حال الأنشطة الثقافيّة في الجنوب اليوم. يخفي مصطلح تأقلم كثيرًا من الخبايا النفسيّة والثقافيّة إن صحّ التعبير، فهو في غائيّته نوع من التحدّي والمواجهة مع واقع يعمل على إيقاع الجنوبيّ في دوّامة البحث عن الأمن والأمان، فتبدو الثقافة في آخر الأولويّات مع غياب الدعم الحكوميّ للمنطقة بشكل عام.
يقول المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد: “إنّ مهمة المثقّف والمفكّر تتطلّب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة..”، وانطلاقًا من هنا تحلّ هذه المنتديات كوعي مجتمعيّ بديل عن كثير من الأنشطة الثقافيّة شبه المغيّبة في الجنوب أو الغائبة تمامًا كالمسرح والسينما.
فلسطين حاضرة
في بداية الأزمة جمّد “منتدى صور الثقافيّ” كثيرًا من أنشطته الثقافيّة وأجّل عديدًا من برامجه المتنوّعة التي تراوح بين محاضرات تثقيفيّة وتوعويّة واستقبال شخصيّات سياسيّة وفكريّة، وإقامة معارض كتب ورسوم مدرسيّة، وأمسيات شعرية وعروض الأفلام ضمن نادي السينما، بينما حصر عمله ضمن محور غزّة ونضال الشعب الفلسطينيّ.
وضمن حرصه على تعميم ونشر الثقافة والحقوق وتعميم ثقافة محاربة الفساد مع مبدأ المساءلة والشفافيّة كما جاء في التعريف، يقول رئيس الهيئة الإداريّة للمنتدى الدكتور ناصر فرّان في حديث إلى “مناطق نت”: “لا يتبع المنتدى أيّ جهة سياسيّة وهو مفتوح لكلّ محبيّ الثقافة والفنون، وقد استأنفنا بعض أنشطتنا بعدما أدركنا أنّ الحرب قد طالت، كمناقشة الروايات واستقبال وجوه الفكر والثقافة وخلق جوّ من التفاعل الثقافيّ ونشر الوعي المجتمعيّ”.
هذا ومن أنشطة المنتدى التي تشمل الأعضاء المنتسبين إليه، المشاركة والتشبيك الثقافيّ مع كثير من الأنديّة الثقافيّة على امتداد الوطن.
“ألف ياء”: بما يتوافر لنا
دار “ألف ياء.. حتّى تكتمل ألف باء اللغة”، ليست مجرّد مؤسّسة للنشر في قنّاريت (قضاء صيدا)، بل هي فضاء ثقافيّ يتّسع لكلّ مهتمّ بالشأن الفكريّ السياسيّ والأدبي. تستضيف المؤسّسة بحسب المؤسّس الدكتور علي خليفة في خلال حديثه إلى “مناطق نت”: “الندوات والمحاضرات التي يقيمها أهل الفكر والاختصاص، منها سلسلة الندوات الدوريّة التي تعقدها حركة “تحرُّر من أجل لبنان”، وقد تناولت منذ مدّة قصيرة موضوعًا شائكًا حول العنف بأشكاله المختلفة في الأسرة وفي المجتمع والثقافة والسياسة والدين”.
وكذلك تعمل المؤسّسة على استضافة أعلام الفكر والأدب، وعقد أمسيات شعريّة، وكانت منها أمسية بعنوان “في العشر الأواخر”.
يتابع خليفة: “في ظلّ الصعوبات القائمة والنتائج المترتّبة على الحرب القائمة في الجنوب تعمل المؤسسة بما يتوافر من إمكانيّات لديها. النشاط السياسي والثقافيّ والاجتماعيّ نمط حياة، أكثر من كونه خيارًا تتوافر له المقوّمات والفرص، لذلك لا بدّ من المحافظة برأينا على هامش للحرّيّات الفرديّة على أنواعها واحترام الاختلاف كمصدر للتنوّع”.
“تكريم العطاء المميَز”: صامدون
انطلاقًا من مبدأ “تستمرّ الحياة وتستمرّ نشاطاتنا” تتابع هيئة تكريم العطاء المميّز برئاسة الدكتور كاظم نور الدين نشاطاتها التي تتنوّع في ميدان الثقافة والاجتماع والتكريم، من مؤتمرات وندوات وتكريم الشعر والشعراء.
يتحدّث الدكتور نور الدين إلى “مناطق نت” عن أربع أمسيات شعريّة أُقيمت هذا العام، تحت عنوان “منبر الشعر في ميزان العمل والإنسانيّة”، شارك فيها 52 شاعرة وشاعرًا. “تمّ جمع هذه القصائد وصدرت في ديوان شعريّ، تمّ التوقيع الأوّل في مدينة طرابلس مع “منتدى شاعر الكورة الخضراء” و”منتدى شواطئ الأدب” في بشامون، كما نُفّذ التوقيع الثاني في مدينة النبطيّة بالتزامن مع عيد المقاومة والتحرير”.
كذلك “تستمرّ الهيئة في إصدار مجلّتها نصف السنويّة الإلكترونيّة والتي أصدرت عددها الثامن في كانون الثاني من العام 2024، وسيصدر عددها التاسع في شهر تموز من العام الجاري”. يضيف نور الدين.
ويختم: “على الرغم من تعرّض المنطقة للقصف الهمجيّ الإسرائيليّ الذي يحصد الشهداء، هذا لا يثنينا عن متابعة عطاءاتنا”.
“هنا ولن نغادر”
ترى الدكتورة درّيّة فرحات، أستاذة الأدب العربيّ في الجامعة اللبنانيّة أنّ “الإنسان عادة يحاول أن يحصل على الاحتياجات الضّرورية أوّلًا، ثم يتدرّج الأمر بما يتعلّق بالأمور الكماليّة أو الأمور التي لا تؤثّر في وجوده والحفاظ على حياته، وعليه تنطبق هذه الحال في وقت الأزمات والظّروف الأمنيّة الصّعبة”.
وتضيف فرحات: “إنّ صعوبة ما يتعرّض له الجنوب من عدوان إسرائيليّ منذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تكمن في أنّه أشبه بعمليّة استنزافيّة وطويلة المدى. قد تمرّ أوقات يسود خلالها الهدوء لكنّنا نتوقع المفاجآت، وهذا حتمًا يؤثّر في سير الأنشطة الثقافيّة. فلا يخفى على الجميع أنّ بعض الأنشطة قد خفّ وقعها، خصوصًا مع بداية الأزمة، لكن هنا يبرز التحدّي بأنّنا وإن كنّا نبحث عن الأمان، فإنّ وجود بعض الأنشطة الثّقافيّة ضرورة، بل إنّه نوع من الصّمود”.
وتتابع فرحات: “نحن نقول للعدو إنّنا هنا ولن نغادر، وسنحرص على إقامة أنشطتنا المعتادة، ومن الطبيعيّ أنّ هدف هذه الأنشطة هو تعزير الثّقة عند أبناء المنطقة، وتنمية الوعي الوطنيّ في هذه الظّروف، من خلال إقامة أنشطة متضامنة ومؤيّدة للعمل المقاوم المناصر لغزّة”.
وتشير فرحات إلى “أنّ زخم الأنشطة وعددها يتفاوت بين الجنوب وبيروت حيث يستدعي الوضع الأمنيّ في الجنوب الحذر أكثر من بيروت حيث أقيمت كثير من الأنشطة الداعمة للعمل المقاوم”. وتذكر بعض الأنشطة التي أقيمت في الجنوب من أمسيات شعريّة وقصصيّة وتواقيع كتب، “إضافة إلى أنشطة ثقافيّة ترتبط بمسألة النّزوح الحاصل من القرى اللبنانيّة المحاذية لفلسطين المحتلّة، وارتبطت هذه الأنشطة بدورات تثقيفيّة اجتماعيّة تسهم في مساعدتهم على التّخلّص من أزمة النّزوح” تختم فرحات.
في الجنوب يبدو حضور الثقافة وجهًا من وجوه التمسّك بالحياة وجهادًا لا بدّ منه. في حين أن الأنشطة الثقافيّة في الجنوب لم تكن بأفضل حال قبل السابع من تشرين الأول الماضي، إلّا إنّه لم يتراجع بجهود من يحرص على المتابعة والاستمرار في سبيل خلق جوّ ثقافيّ في المنطقة، إن كان فردًا أم مجموعة أم جمعيّة أم منتدى، ولو إنّه مشروع يحتاج إلى الخروج من قوقعة المركزيّة والنُخب ليصير منهج حياة، لعلّ ذلك يُصلح ما تهدّمه الحرب.