منجز العكّاريّة بلدة نموذجيّة تحتذى بالعمل البلديّ

تأخذك بلدة منجز العكّارية شمالي لبنان أثناء الزيارة إليها في رحلة عبر الزمن، فالضيعة النائية التي تحاكي طبيعتها الخلابة جمال منازلها، تحوّلت إلى بلدة نموذجية سياحيًّا وبيئيًّا، وذلك بفضل أبنائها وبلديتها، إضافة إلى مهتمين وعلماء آثار حطت رحالهم وأبحاثهم في البلدة.

اسم البلدة المشتق من السريانيّة، يعني الكنز المفقود، وهو يتطابق مع ما تحتويه البلدة من آثار مهمّة مدفونة تحت الأرض. فالتجوال في البلدة يكشف 11 منشأة أثريّة “ميغاليتيّة” تعود إلى أواخر عصور ما قبل التاريخ وعصور المعادن، وتضمّ نحو مئة ضريح بُنيت من كتل حجريّة تُسمى القبور “الميغاليتية”،  تمّ اكتشافها في أربعينيّات القرن الماضي على يد الأب اليسوعيّ موريس تالون، حيث عُثر في داخل القبور على عدد كبير من الآثار، حُفظ بعضها في متحف الجامعة اليسوعيّة.

يراوح ارتفاع منجز ما بين 300 متر و450 مترًا فوق مستوى سطح البحر، وهي مبنيّة على هضبة تعلو مئة متر عن النهر الكبير الجنوبيّ الذي يشكّل الحدود الفاصلة مع سوريّا. يعبر عديد من الأنهار في أوديتها مثل وادي فزع ووادي الدورات ووادي منجز.

جانب من بلدة منجز في عكار
اكتفاء ذاتيّ للبلدة

تحاول منجز تطوير نفسها، من خلال مشاريع عديدة مع شركاء محلّيّين وخبراء في مجال التنمية المستدامة، منها ما يتعلّق بتعزيز التراث الثقافيّ والطبيعيّ، ومنها ما يتّصل بتنمية السياحة وتطوير البنية التحتيّة، وتأمين الاحتياجات الأساسيّة، ومساعدة السكّان على بيع منتجاتهم.

إنمائيًّا، تعدّ منجز بلدة نموذجيّة، ولديها اكتفاء ذاتيّ وبيئيّ، وذلك بفضل بلديّتها التي أنشئت في العام 2012. يتحدّث رئيس بلدية منجز جورج يوسف لـ”مناطق نت”، عن المشاريع التي جعلت البلدة تتمتّع باكتفاء ذاتيّ فيقول: “وضعنا خططًا استراتيجيّة لمكافحة التغيّر المناخي، والانتقال إلى الطاقة البديلة، وخططًا للتنمية السياحيّة الريفيّة. وتمّ تركيب طاقة شمسيّة تؤمّن الكهرباء على مدار الساعة للبلدة. وعلى صعيد المياه، تحتوي البلدة على  بحيرة لتجميع مياه الأمطار تبلغ سعتها 50 ألف متر مكعب، إضافة إلى محطّة لتكرير مياه الصرف الصحّيّ”.

رئيس بلدية منجز جورج يوسف

يتابع يوسف: “على صعيد الريّ والمياه، طوّرنا شبكة المياه وتمّ تأهيلها لتكون مياهها صالحة للشرب، فالمياه متوافرة 24/24 ساعة”. عن تمويل الأعمال في ظلّ الأزمة التي تعصف بلبنان حيث تعاني البلديّات من شحّ الأموال، ممّا يجعل أعمالها شبه معلّقة يقول يوسف: “نعتمد في تمويل المشاريع على الجهات المانحة، وفي السياحة والإنماء على الشركاء الأجانب، فيما هناك خدمات تشغيليّة تُدفع كرسوم بلديّة من قبل السكّان لمعالجة النفايات، ورسوم مقابل الحصول على مياه الشفة”.

بيئة وأحراج

على الصعيد البيئيّ تمّ إنشاء معمل بيئيّ للحطب، يشرح يوسف: “فالمزراعون الذين يقومون بتشحيل أشجار كرومهم، ومنعًا لحرقها في أراضيهم وإلحاق الضرر وتلويث الأرض والهواء، تمّ إنشاء المعمل الذي يحوّلها إلى حطب للتدفئة، ويشتريها سكّان البلدة”.

تعتبر منجز غنيّة بالأحراج، أهمّها الحرج الأسود الذي يمتدّ على مساحة ثلاثين هكتارًا بمحاذاة ضفاف النهر الجنوبيّ الكبير، وهو يعتبر من أهمّ المعالم الطبيعيّة في البلدة. أطلق عليه هذا الاسم لغزارة أشجاره، الأمر الذي يؤدّي إلى حجب نور الشمس عن داخله.

تنتشر في منجز أشجار السنديان والصنوبر، لكن الشجر الأكثر انتشارًا هو الغار، حيث تمّ إنشاء مصنع لاستخراج الزيت من ورق الغار، وذلك بالتعاون مع جامعة البلمند والاتّحاد الأوروبّيّ، ويعدُّ زيت الغار من أهمّ الزيوت المستعملة في المُنتجات التجميليّة، وفق ما قاله رئيس بلدية منجز جورج يوسف.

حرش الأسود في منجز
من أجمل بلدات لبنان

بفضل الجهود الحثيثة التي تبذلها البلديّة، ومنها وضع خطّة إنمائيّة شاملة للبلدة، صُنّفت منجز “من أجمل بلدات لبنان”، وتمّ تسجيلها في الدليل السياحيّ الذي أنجزته وزارة السياحة للمدارس، كما أدرجت البلدة على الطريق الفينيقيّ لمجلس أوروبّا، نظرًا لآثارها الميغاليتيّة، الأمر الذي عزّز السياحة الداخليّة فيها.

وفي نيسان الماضي، اختيرت منجز كواحدة من 101 مدينة من قبل مؤسّسة بلومبيرغ الخيريّة للشباب والعمل المناخيّ، وعليه ستتلقّى البلدة المساعدة الفنّيّة لتمويل مشاريع تتعلّق بالمبادرات المناخيّة، يقودها شبّان من البلدة تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا.

زيارة منجز لا تكتمل من دون زيارة معبد بيت جعلوك، ومن ثمّ دير سيّدة القلعة الرابض فوق تلّ يُشرف على مجرى النهر الكبير الفاصل بين لبنان وسوريّا، وبين بلدة منجز في لبنان وبلدة حزير على الضفّة السوريّة من النهر. يطلّ الدير على موقع قلعة صليبيّة غير واضحة المعالم، يعمل فيها فريق من البحّاثة.

في ذلك الدير تلقّى عديد من أبناء المنطقة علومهم الأولى على أيدي الآباء اليسوعيّين. آنذاك لم يكن هناك مدارس سواء في القبيّات أو غيرها من القرى العكّاريّة. أمّا الآن فقد أسّس الرهبان الموارنة فيه مدرسة وديرًا ومستوصفًا مخصّصًا لأبناء البلدة، إضافة إلى مركز تعليميّ تخصّصي للأشخاص ذوي الإعاقة، إذ أنّه الوحيد في منطقة عكّار الذي يستقبل أفرادًا من ذوي الإعاقة.

البازلت الأسود الشهير

تشتهر منجز بحجر “البازلت” الأسود الذي يحافظ أبناء البلدة على تشييد منازلهم منه، وهو بحسب ما قاله مختار البلدة إميل الخوري لـ”مناطق نت”: “إنّ هذه الأحجار هي نتيجة عوامل بركانيّة حصلت قبل آلاف السنين”. وينقل الخوري عن أجداد أجداده، “أنّ تحلّل أحجار البازلت على مرّ السنين، جعل التربة خصبة، ومناسبة للزراعة والتنوّع البيولوجيّ الغنيّ والمميّز، وهذا ما جعل من هذه العوامل الطبيعيّة ملاذًا للاستيطان البشريّ في منجز وذلك منذ 7000 سنة على الأقلّ”.

زيارة منجز لا تكتمل من دون زيارة معبد بيت جعلوك، ومن ثمّ دير سيّدة القلعة الرابض فوق تلّ يُشرف على مجرى النهر الكبير الفاصل بين لبنان وسوريّا، وبين بلدة منجز في لبنان وبلدة حزير على الضفّة السوريّة من النهر

ويلفت المختار، “إلى أنّ أبناء منجز تعرّضوا للتهجير والموت خلال الحرب الأهليّة اللبنانية”. ويشير إلى “أنّ قرابة 500 شخص يسكنون البلدة حاليًّا، فيما الآخرون يقطنون في بيروت والبترون، وغالبية شبابها التحقوا بالجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة، والقسم الآخر بدأ يفكّر في مواكبة العمل الزراعيّ والمشاريع البيئيّة السياحيّة، حيث الجهود البلديّة منذ العام 2012، جعلتها موضوع اهتمام لعديد من الدول المهتمّة بعلوم الآثار”.

تحتوي منجز على عدد من بيوت الضيافة يقصدها السيّاح، حيث تهتمّ النساء بتحضير وجبات الطعام من المؤونة البلديّة. وعلى عكس بيوت الضيافة الباهظة الثمن، تتميّز الخدمة في منجز بأسعارها الزهيدة، فقضاء ليلة واحدة مع وجبة فطور تراوح بين 15 و25 دولارًا أميركيًّا.

مختار بلدة منجز إميل الخوري

عن التاريخ الزراعيّ للبلدة، فهو يعود إلى أشجار التوت وصناعة الحرير، حيث تحتفظ الذاكرة الجماعيّة لأبناء منجز بحكايات عن تلك الزراعة. أمّا عن الحرف، فتلك المصنوعة من القشّ هو ما كانت تشتهر به منجز، وقد امتدّت تلك الشهرة إلى الخارج قبيل الحرب الأهليّة. وفي الوقت الحالي يتمّ الاهتمام بأشجار الخرّوب الموسميّة، وقد أنشأ رئيس البلديّة جورج يوسف، معملًا لصناعة الخرّوب ودبسه.

بلدة أثريّة بامتياز

تعدّ البلدة مقصدًا لعلماء الآثار الذين يحطّون رحالهم فيها للقيام بأبحاث تاريخيّة، لذلك خصّها المجلس الثقافيّ البريطانيّ بمشروع يتعلّق بآثارها، حيث تولّت عالمة الآثار تارا شتامير المشروع تحت عنوان “تثمين وحماية المقابر الميغاليتيّة في منجز”.

المشروع بدأ في العام 2019 ويمتدّ لخمس سنوات، وهو لا يقتصر على الناحية الأثريّة، بل يأخذ بعين الاعتبار توعية المواطن على أهمّيّة الإرث، وتدريب السكّان المحلّيّين على تطوير قدراتهم والاعتماد على الإنتاج المحلّيّ والسياحيّ.

عشرات المواقع الأثريّة

كشفت الحفريّات التي أجريت في منجز، عن عشرات المواقع الأثريّة التي تعود إلى عصور مختلفة، تمثّل تسلسلًا زمنيًّا طويلًا، وهي تُشير إلى أنّ وجود الإنسان في منجز يعود إلى العصر الحجريّ الحديث الفخّاريّ والعصر الحجريّ النحاسيّ والعصر البرونزيّ، أيّ الفترة الزمنيّة الممتدّة من 7000 إلى 1200 ق.م. وقد عثر علماء الآثار على أدوات حجريّة وبقايا فخّار في مواقع مثل هضبة جزّ ونبع الجعلوك وأيلوت. وتضمّ منجز ومحيطها المجاور مواقع أثريّة أخرى مشهورة مثل القلعة الصليبيّة فيليكس والمعبد الرومانيّ المعروف باسم مقام الربّ. وعلى الرغم من اكتشاف عديد من معالمها منذ نصف قرن، لم تكشف عن كلّ أسرارها حتّى الآن.

تعريفًا للبلدة وتاريخها، أنشأت بلديّة منجز “بيت التراث”، وهو متحف صغير يقع عند مدخل البلدة، ويتضمّن شرحًا تاريخيًّا لمنجز وأهمّ الاكتشافات فيها، وأيضًا نسخًا من الآثار التي وجدت في المقابر.

بقايا المعبد الروماني في منجز

تشرح ابنة البلدة سامية كرم  لـ”مناطق نت”، حكاية العقود التاريخيّة لرحلة استكشاف “الميغاليت” التي قام بها الأب اليسوعيّ موريس تالون بين أعوام 1906 و1982 في المواقع الأثريّة للبلدة، فتقول: “معظم الدولمنات “الميغاليتيّة” كانت عُرضة للنهب وللتنقيب غير الشرعيّ. ومن خلال عمليّة الإحصاء التي خضعت لها المواقع، تبيّن أنّ الأب اليسوعي قام بحفريات أثريّة استمرّت مدّة زمنيّة طويلة، حيث أجرى أعمال تنظيف سطحيّة لإزالة النباتات من أجل رؤية أوضح، وعمل على إبراز حدود المواقع ومن ثمّ شرع في عمليّات التنقيب، إذ كان يغربل الطبقات الأثريّة بطريقة منهجيّة، بغية الحصول على البقايا الصغيرة”.

تتابع كرم: “كان يدرس الأشكال الهندسيّة لهذه المعالم المبنيّة ويحلّلها، وقد عاونه عديد من سكّان البلدة. وكلّ ما كان يدوّنه من ملاحظات على “كرّاسات” صغيرة، ما زالت موجودة ضمن محفوظات الآباء اليسوعيّين في بيروت، وهذه الوثائق تعتبر الوحيدة التي تضمّنت ملاحظات عن مواقع تضرّرت أو اختفت مع مرور الزمن”.

المعبد الرومانيّ

الدولمنات “الميغاليتية” ليست الآثار الوحيدة في البلدة التي تضمّ معبدًا رومانيًّا قديمًا، حيث تعدّدت تسمياته من معبد نيميسيس إلى بيت الجعلوك، ودرب الربّ. المعبد تمّ تشييده في القرن الأول للميلاد، وتُنسب تسميته  إلى آلهة الانتقام، حيث كان يرمز إليها بدولاب لا يزال منقوشًا على أحد حجارته. وشهد المعبد حقبات عديدة، إذ تحوّل إلى كنيسة في العصر البيزنطيّ.

تعرّض القسم الأكبر من المعبد المبنيّ من حجر البازلت، للتدمير بسبب الحروب والعوامل الطبيعيّة، لكن بالرغم من ذلك، ما زالت حجارته السوداء والنقوش، شاهدة على تاريخ حافل للعصور المتعاقبة على البلدة. يقع المعبد بالقرب من نبع مياه، شأنه شأن كلّ المعابد الرومانيّة، وقد بُني على مراحل عدّة كانت الأخيرة فيه لعبادة الإلهة نمزنس التي تُشكّل إلهة العدالة والانتقام لديهم.

يقول حارس المعبد فوّاز سحمراني لـ”مناطق نت”: “إنّ الموقع اكتشف في الستينيّات عندما أراد صاحب الأرض في هذه النقطة المسمّاة بيت جعلوك حراثتها، ما جعله يكتشف أعمدة وحجارة استدعت تدخّل القوى الأمنيّة، ومن ثمّ مديريّة الآثار التي استملكت المكان وعملت على حمايته والتنقيب فيه”.

يكمل سحمراني، “مع غياب الدولة، وبسبب الحرب ما بين الأعوام 1975 و1990، عانى الموقع الأمرّين، إذ توقّفت أعمال التنقيب فيه، وزادت أعمال السرقة لحجارته المنقوشة المزيّنة برسومات”. يتابع سحمراني شارحًا عن تاريخ المعبد فيقول: “تحوّل هذا المعبد إلى كنيسة بيزنطيّة في العصر البيزنطيّ، وفي جوار الموقع كنيسة صغيرة من تلك الحقبة ما زالت قائمة، وتُعرف بسيّدة المعين التي يقصدها كثيرون من مختلف المناطق طالبين شفاعتها وراجين الشفاء لمرضاهم”.

“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.

بقايا الكنيسة الأثرية في منجز
معمل الغاز في منجز
القبور الميغاليتية في منجز
أحجار البازلت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى