منقوشة سيدة شاهين في الضنية.. تجربة امرأة صامدة في زمن الأزمة
منذ ربع قرن من الزمن، بدأت قصّة سيّدة شاهين مع المنقوشة، وقد أصبحت مع مرور الوقت “ماركة مسجلة” في وجدان أبناء الضنّيّة في شمال لبنان. داخل محلّها الصغير الواقع على الطريق العام، الرابط بين بخعون وسير، تواصل سيّدة روتينها اليوميّ برفقة زوجها سعد، ضاربةً موعدًا يوميًّا مع أبناء المنطقة، الآتين إليها بحثًا عن مذاق تقليدي.
صمدت سيدة خلال الأعوام الماضية، برغم “هجوم” الماركات المشهورة، والأسماء الأجنبيّة البرّاقة، وتبريرها الدائم هو الحفاظ على المعايير التي اعتاد عليها الزبائن، وعدم التهاون في نوعيّة البضائع وجودتها.
تؤكّد سيدة أنّ “الحرفي الصغير خاض تحدّيات كبيرة خلال الأعوام الماضية وفترة الأزمة، إذ أصبحت المواد الأوّليّة غالية جدًّا، وكان بين خيارات قليلة، إمّا الإغلاق، أو تخفيض جودة ونوعيّة المواد، أو الكلفة العالية للنوعيّة”، ولكن في المقابل، “لمست إصرارًا وتشجيعًا لي من الزبائن للحفاظ على الوصفات التقليديّة، وإن ارتفعت الأثمان قليلًا، حيث أصبح ثمن لوح جبن القشقوان ثمانية كيلوغرامات نحو عشرة ملايين ليرة لبنانية، وكذلك ارتفع سعر كيس الطحين إلى 24 دولارًا، وهو أمر سينعكس على الكلفة، وسيحتّم أعباء على الزبائن”.
بداية في كنف العائلة
تعود سيّدة في الذاكرة إلى يوم كانت تشارك أمّها بالعجن والخبز على “الطابونة”، وهو كناية عن مخبز تقليديّ، يتألف من طبقتين، في الطبقة الحجريّة الدنيا توضع عيدان الخشب لإيقادها، وفي الأعلى الصاج المغطّى بالطين، ويستخدم لإعداد الخبز المرقوق، والخبز المرفّخ”، مشيرةً إلى أنّه “كان يشكّل النمط المعتاد لصناعة الخبز قبل نصف قرن من الزمن، حيث لم يكن يأتي إلى القرى الخبز المعروف بالعربي”.
وتسترجع حقبة الأحداث اللبنانية- الحرب الأهليّة خلال الثمانينيات- عندما اضطرّت العوائل إلى إعادة بناء “الطابونة”، وصناعة خبز للبيوت ومنها المرقوق. استفادت سيّدة من تلك التقنيّات البدائيّة، وقرّرت نقلها إلى عالم صناعة المنقوشة اللبنانيّة بمعاونة زوجها سعد، الذي يغتنم كلّ فرصة سانحة لغناء أبيات من الزجل، أو إلقاء مقاطع من الشعر الشعبيّ المكلّل بالفخر.
استفادت سيّدة من التسويق الشخصيّ لها من خلال تأثير المذاق على الزبائن، وفق مبدأ من الفم إلى الأذن. وكانت تتفاجأ أحيانًا من قدوم زوّار من مختلف أنحاء البلاد، من دير القمر، وصيدا، وصور، والنبطية، وكذلك من بلاد الاغتراب حيث ينتشر اللبناني.
استفادت سيّدة من التقنيّات البدائيّة، التي راجت خلال الحرب الأهليّة عندما اضطرّت الناس إلى إعادة بناء “الطابونة”، وقرّرت نقلها إلى عالم صناعة المنقوشة اللبنانيّة بمعاونة زوجها سعد
وتعتقد إقبال هؤلاء عليها “لأن المنقوشة لديّ مدعومة بالمواد الجيّدة”. وتفتخر بأنّها بدأت مسيرتها بمبادرة شخصيّة وبمفردها، قبل أن تتحوّل إلى ورشة عائليّة صغيرة، حيث اقتنع زوجها سعد بترك مهنة العطور، والانضمام إليها في صناعة المناقيش، ناهيك عن قيام ابنتها مارينا بمساعدتها في خلال الموسم الصيفيّ”.
يوم طويل “من الفجر إلى النجر”
باكرًا جدًّا يبدأ نهار سيدة وورشتها “مع آذان الفجر عند سماع صوت الشيخ”، حيث تبدأ بعجن العجين، وتحضير المكوّنات المختلفة، لتكون حاضرة عند قدوم الزبائن صباحًا. ويطلب كثيرون منهم “منقوشة سبيسيال”، المتميّزة عندها بمنقوشة الجبنة، ويطلق عليها زوجها سعد تسمية “دوبل جنط”، وهي عبارة عن طبقتين من العجين، تتوسّطهما كمّيّة كبيرة من الجبن وتحديدًا القشقوان.
تخوض سيدة وسعد تحدّيات الصمود في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، إذ اضطرّا إلى استعادة تجربة العجن، ومدّ العجين يدويًّا، بسبب غلاء الاشتراك. ويشير سعد في هذا الإطار إلى “أنّنا في حال لجأنا إلى العجن والرقّ على الاشتراك، سندفع الرأسمال والمرْبَح إلى صاحب المولّد، وعندها ربّما نضطر إلى إغلاق المحل والعودة إلى المنزل”.
وتأسف سيدة من حال اليأس التي تسلّلت إلى نفوس كثيرين، عندما اضطرت شريحة واسعة من الحرفيّين إلى إغلاق أبواب مصالحها ومتاجرها، معبّرةً عن اعتقادها بأن ذلك “من حسنات عدم مسك دفتر حسابيّ، وترك كلّ شيء على بركة الله”. لذلك، فهي تستمرّ في العمل بصورة استثنائيّة. بيد أنها استفاقت أخيرًا على فكرة نيل عطلة أسبوعيّة ليومي الأحد والاثنين، انطلاقًا من قاعدة “لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها” وكذلك بسبب تراجع العزم والقدرة الجسديّة.
النياحة خبز المناسبات
تؤكد “الفرّانة” العريقة إغلاق أبواب الفرن في خلال شهر رمضان المبارك بسبب شعيرة الصوم، وعدم فتح الأبواب إلّا الجمعة والسبت، بغية تحضير الخبز والقربان للكنائس المتعاقدة معها في المنطقة.
إذاً، لا يقتصر إنتاج سيّدة على المنقوشة، وإنّما تنشط في مجال إعداد “القربانة” للكنائس، والتي يُضاف إلى عجينتها موادّ: المحلب، ماء الورد، وماء الزهر. تتعدّد أشكال وأحجام القربانة بحسب رغبة الزبون. وإلى جانب تفاوت أحجامها بين صغيرة ومتوسطة، تتقدّم “النياحة” كبيرة الحجم التي تعتبر لصيقة بمناسبة الموت، حيث تقدّمها العائلة الروم بعد مرور “الأسبوع” و”الأربعين”، وكذلك “السنة” على رحيل الفقيد وغيابه.
ترفض سيّدة شاهين الاقتراحات المنهمرة عليها لتوسيع دكّانها، أو تغيير الديكور ليصبح عصريًّا، لأنّها “تخشى ضياع البركة”. كما أنّها تؤثر الحفاظ على طابعه التقليديّ القرويّ الظاهر من وجود الحجر، واستبداله بطلاء الجدران كلّ مدة، حفاظًا على بياضها ونظافتها.