من بيت ليف إلى حانين المنازل الناجية نادرة

لا نقول جديدًا عندما نعيد إنّ الحرب الإسرائيليّة على لبنان أدّت إلى خسائر هائلة في النواحي جميعها، وتحديدًا في معظم بلدات الجنوب والبقاع الشماليّ والضاحية الجنوبيّة وفي بيروت وغيرها، إلّا أنّ هذه الأضرار والخسائر لا يمكن مقارنتها بتلك التي شهدتها البلدات والقرى الحدوديّة أو ما يُعرف ببلدات الخطّ الأوّل والثاني والتي يكاد الدمار أن يصل فيها إلى نسبة 100 في المئة.
وخلال جولة “مناطق نت” في تلك القرى، وصلنا إلى بلدة بيت ليف، تلك البلدة في قضاء بنت جبيل تحولت ساحتها بأزقّتها الضيّقة، والتي تعتبر شريانها الاقتصاديّ والتجاريّ إلى مجرد ساحة كبيرة خالية من المباني، تنتشر على أطرافها أكوام كبيرة من الركام المتأتّي من المنازل والمحال التي تعرّضت للقصف والتدمير.
وعلى رغم ذلك، تبدو بيت ليف من أكثر البلدات التي عاد أهلها إليها، مقارنةً مع بقيّة البلدات في الخطّ الثاني من الحدود. ففي تلك الساحة، يجلس شاب ثلاثينيّ يدعى مازن بدّاح، في كوخٍ صغير أحاطه بـ “شوادر نايلون”، وإلى جانبه مجموعة من أبناء البلدة ممّن يقصدونه لاحتساء القهوة وتبادل الأحاديث، فالمكان بالنسبة إليهم “ملتقى الأحباب”، وفقًا لبدّاح.
يُسارع بدّاح، في حديثه لـ “مناطق نت”، بالإشارة إلى أنّه فور عودته إلى البلدة، وجد محلّه الذي يضمّ مقهاه مستهدفًا بالقصف الذي حوّله إلى ركام، فما كان منه سوى إنشاء هذا الكوخ الصغير والذي لا يتّسع إلى أكثر من خمسة إلى ستة أفراد، واضعًا في منتصفه “منقل فحم” لعلّه يخفّف من حدّة البرد، وعلى رغم ذلك يجزم بدّاح أنّه عازم على “إعادة المقهى أجمل ممّا كان”.

يؤكّد بدّاح أنّ “البلدة دخلت الحرب منذ الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 منذ أن استهدف الجيش الإسرائيليّ أطرافها، ومن ثمّ تطوّرت الحرب إلى حين استهداف أحد المنازل، ممّا دفع عددًا من الأهالي إلى مغادرتها نحو البلدات الخلفيّة، مثل قانا وكفرا وصدّيقين وغيرها”، مضيفًا “مع توسّع الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) 2024، عاش الأهالي نزوحهم الثاني من بلدات الخط ّالثاني والثالث نحو بيروت والشمال”.
مبادرات فرديّة
مقابل مقهى بدّاح، ثمّة مقهى آخر في الطرف المقابل من ساحة البلدة. يرحّب بنا حيدر علي حميّد، أحد أبناء البلدة وصاحب المقهى والذي يعمل أستاذًا أيضًا في مدرسة “الشهيد موسى بدّاح”. يُشير حميّد في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّه “فور عودة الأهالي شهدت البلدة عديدًا من المبادرات الفرديّة، فكلّ شخص يملك آليّة ما، ساهم على قدر استطاعته في إزالة جزء من الركام، والمنازل التي تحوي آبار مياه قام أصحابها بتوزيع المياه على جيرانهم، وجرى استقدام مولد كهربائيّ لمدّ شبكة كهرباء إلى المنازل”.
ويلفت حميّد إلى أنّ “الأضرار التي لحقت بالبلدة، لم تقتصر على تدمير المنازل بل شملت البُعد الاقتصاديّ من محال تجاريّة ومزارع نحل ومواشٍ”، مضيفًا “مع دخول فترة الـ 60 يومًا من الهدنة، شهدت البلدة مجزرة إسرائيليّة باستهداف منزل وقع ضحيتها شاب وامرأتان وطفل، ممّا دفع الأهالي للنزوح مجدّدًا ويعودوا مع نهاية المهلة”.
الأهالي يتقاسمون المنازل
تعتبر بيت ليف من القرى الواقعة ضمن الخطّ الثاني للبلدات الحدوديّة، إذ تبعد عن الحدود نحو أربعة كيلومترات، وتفصل بينهما بلدة راميا التي يقع عند أطرافها جبل بلاط، وهو من ضمن النقاط الخمس التي قرّر الجيش الإسرائيليّ بعد احتلالها عدم الانسحاب منها.
حميّد: فور عودة الأهالي شهدت البلدة عديدًا من المبادرات الفرديّة، فكلّ شخص يملك آليّة ما، ساهم على قدر استطاعته في إزالة جزء من الركام
من جانبه، يؤكّد عدنان حميّد، أحد أبناء البلدة، في حديث لـ “مناطق نت” أنّ “كلّ منزل غير مدمّر بات يأوي عددًا كبيرًا من العائلات، حيث يستضيف أصحابه جيرانهم أو أقاربهم ممّن دُمرت منازلهم أو لم تعد صالحة للسكن”.
يستذكر حميّد العودة الأولى للأهالي بعد انتهاء مهلة الـ 60 يومًا إذ “اتّخذنا قرار الدخول بأجسادنا العارية على رغم تمركز الجيش الإسرائيليّ في عدد من المنازل عند أطراف البلدة، وقد تعرّضنا لإطلاق نار وسقط منّا عددً من الشهداء”.
ويلفت حميّد إلى أن “البلدة تعرّضت للجرائم الإسرائيليّة على مدار سنوات طويلة، إلّا أنّها لا يمكن مقارنتها، بما جرى بحرب 2024 إذ إنّ هذه الحرب كانت همجيّة وكان حجم الدمار فيها كبيرًا جدًّا، وعلى رغم ذلك، نحن متمسّكون أكثر بالبقاء في أرضنا”.
120 مسكنًا دمّرت بالكامل
من ناحيته، يُشير رئيس بلديّة بيت ليف، محمّد حميّد، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “عدد الوحدات السكنيّة في البلدة يبلغ 1100 وحدة، من بينها نحو 120 مدمّرة بشكل كامل، وبين 400 إلى 500 وحدة مدمّرة جزئيًّا، ونحو 300 وحدة تعرّضت لأضرار مختلفة”. ويضيف أنّ “البلدة قدّمت 33 شهيدًا وشهيدة في هذه الحرب”.

ويوضح حميّد أنّ عدد “أبناء البلدة يبلغ حوالي 8500 نسمة، يقطن منهم قرابة خمسة آلاف بشكل دائم في البلدة، فيما يزداد عددهم في فصل الصيف ليصل إلى حوالي 6500 شخص”. ويؤكّد أنّ “أبناء البلدة فقدوا موسمين زراعيّين وهما الزيتون والتبغ، فضلًا عن تضرّر اليد العاملة بسبب غياب المغتربين الذين عادةً ما يقومون ببناء منازل عند قدومهم إلى البلدة”.
ويشير حميّد إلى أنّ “هناك عددًا كبيرًا من أهالي البلدة ما زالوا يقطنون في القرى المجاورة بانتظار إعادة الإعمار، خصوصًا أنّ الأسعار تضاعفت على صعيد الزجاج والأليمنيوم وغيرها”، مضيفًا أنّ “بعض الأهالي تقاضوا بدل الإيواء من حزب الله في حين أنّ البعض الآخر ما زال ينتظر”.
القوزح احترق معظم زيتونها
إلى القوزح جارة بيت ليف وتتبع القضاء عينه، توجّهنا، وهناك من الصعب جدًا أن تُصادف أحدًا في طرقاتها الضيّقة ومنازلها القديمة، لكن بعد بحثٍ شاق، اهتدينا إلى أحد المنازل تجمّع فيه أصحابه مع عدد من جيرانهم تتوسّطهم “صوبية حطب” فتساعدهم على مقاومة البرد الذي يخترق شبابيك المنزل المغطّاة بالنايلون.
في المنزل، يرحّب بنا ناسه رافضين الكشف عن أسمائهم، أو حتّى تسجيل المقابلة بالصوت. يبدأ أحد الحاضرين بوصف حجم الدمار الذي شهدته البلدة التي تضمّ 105 منازل، فيشير إلى أنّ 90 منزلًا تضرّرت، من بينها 20 منزلًا لم تعد صالحة للسكن، مع الإشارة إلى أنّ عدد القاطنين بشكل دائم في البلدة ما قبل الحرب، كان لا يتجاوز الـ 250 نسمة موزّعين على نحو 50 منزلًا، أمّا العائدون بعد انتهاء مهلة الهدنة فلم يتجاوزوا الـ 10 عائلات”.

لم تقتصر أضرار الحرب في القوزح على المنازل، وإنّما كذلك جرى تدمير البئر الارتوازيّة الوحيدة في البلدة، ممّا دفع الأهالي إلى شراء المياه. أمّا كهرباء “الدولة” فما زالت غائبة بشكل كامل عن البلدة.
شكا الحاضرون من الوضع الاقتصاديّ الذي خلّفته الحرب، “حتّى اللي مصمّد مصاري، صرلوا سنة ونص عم يصرف فيهن”، ويضيف بعضهم أنّ البلدة تعتمد في اقتصادها على زراعة التبغ والزيتون. مؤكّدين أنّ “أحدًا منهم لم يتلقَّ لغاية اليوم أيّ بدل مادّيّ سواء من حزب الله الذي كشف على الأضرار أو مجلس الجنوب الذي لم يحرّك ساكنًا بعد”.
وعلى رغم أنّ عددًا من الجمعيّات البيئيّة عمد إلى أخذ عيّنات من التربة بغية فحصها، إلّا أنّ الأهالي بدأوا بالتحضير لموسم التبغ، خصوصًا أنّ “نحو 80 في المئة من أشجار الزيتون احترقت، والجيش الإسرائيليّ عمد إلى حرقها عن سابق إصرار”. ولتبيان أثر ذلك على أهالي البلدة، يقول أحد الحاضرين إن “هناك كرمَ زيتون احترق خلال حرب العام 2006، ولم يعد إلى سابق عهده في المحصول سوى لغاية العام 2017”.
حانين نجت فيها سبعة منازل
من القوزح وصولًا إلى بلدة حانين، نعبر من بلدة رميش التي يستقبلك عند مدخلها حاجز للجيش اللبنانيّ، وبجولة سريعة داخل البلدة، تشعر بأنّ الحرب لم تمرّ من هنا، على خلاف بقيّة بلدات قضاء بنت جبيل والقرى الجنوبيّة. أمّا في حانين، فمن الصعب جدًّا إيجاد منزل غير مدمّر، وتكاد لا تصادف أحدًا فيها، باستثناء بعض السيارات التي تمّر من البلدة متّجهةً نحو بلدات أخرى.
شهاب: عدد الوحدات السكنيّة في البلدة يبلغ نحو 380 وحدة، تضرّرت جميعها باستثناء سبعة منازل، في حين أنّ نسبة التدمير الكلّي ّبلغت نحو 45 في المئة منها
أمام هذا المشهد، تواصلت “مناطق نت” مع رئيس البلديّة علي شهاب، فأوضح أنّ “عدد الوحدات السكنيّة في البلدة يبلغ نحو 380 وحدة، تضرّرت جميعها باستثناء سبعة منازل، في حين أنّ نسبة التدمير الكلّي ّبلغت نحو 45 في المئة منها”. ويُشير إلى أنّ “عدد أهالي البلدة يبلغ 4500 نسمة، ويقطنها على مدار العام من 800 إلى ألف شخص فيما يرتفع هذا العدد خلال فصل الصيف بمقدار 500 شخص إضافي”.
ويوضح شهاب أنّ “البلدة هي من القرى القريبة للشريط الحدوديّ الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلّة، ومنذ بداية حرب الإسناد بدأت تتعرّض إلى عدد من القذائف والضربات الإسرائيليّة، إلّا أنّ الأهالي لم يغادروها سوى بعد شهرين من الاعتداءات، حيمان استهدف الجيش الإسرائيليّ المواطنين بشكل مباشر، ممّا أدى إلى تهجير أهلها على غرار البلدات المحيطة”.
ويشرح شهاب أنّ “موقع البلدة الجغرافيّ البعيد نسبيًّا عن مدينة إنتاجيّة مثل صور أو بيروت دفع أبناءها إلى الاعتماد على الهجرة، فباتوا منتشرين في أستراليا وكندا وأميركا والدول العربيّة وغيرها”. مضيفًا أنّ “من بقي من أهلها في البلدة، اعتمد على الزراعة البعليّة التي لا تحتاج إلى ريّ، مثل اللوزيّات والزيتون والتبغ وغيرها، وذلك لأنّ مشروع الليطاني لم يصل إلى حانين والقرى الحدوديّة، كذلك فإنّ حجم المتساقطات المطريّة المحدودة، أدّت إلى افتقار هذه القرى للمياه”.
ويختم شهاب بأنّ “الجيش الإسرائيليّ استهدف أحراج البلدة وحرق قسمًا كبيرًا من بساتين الزيتون، وهذا جزء من السياسة الإسرائيليّة الهادفة إلى الإضرار قدر الإمكان على مختلف المستويات ومنها البيئيّة”.

