“من جارور لجارور” أحلام الشباب المجهضة والواقع المرير

كيف يتحوّل درج المكتب إلى مساحة تعجّ بالأحلام المجهضة والطموحات العالقة؟ في مسرحيّة “من جارور لجارور”، التي كتبها وأخرجها عصام أبو خالد، تتجلّى القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تثقل كاهل الشباب اللبنانيّ. جاء هذا العمل بالتعاون مع جمعية “مسار”، وهي منظّمة غير حكوميّة تُعنى بشؤون الشباب وتسعى إلى إحداث تغيير اجتماعيّ وسياسيّ من خلال الأنشطة الثقافيّة والمسرحيّة. شكّل هذا التعاون منصّة حيويّة لتسليط الضوء على واقع الشباب اللبنانيّ، مقدّمًا رؤية نقديّة عميقة تعكس همومهم وتطلّعاتهم.

في “من جارور لجارور”، برع كلّ ممثّل في تقديم دور مؤثّر يعكس القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تثقل كاهل المجتمع اللبنانيّ، مجسّدين تحدّيات الشباب وتناقضات الواقع الحياتيّ.

كانت جويل منصور ويارا زخور المحرّك الرئيس للمسرحيّة، حيث جسّدتا شخصيّتيّ موظّفتين في إحدى المنظّمات غير الحكوميّة (NGO) تحاولان باستمرار دفع القضيّة إلى الأمام وكسر الجمود البيروقراطيّ. تألّق أداؤهما بتفاعل حركيّ وجسديّ ديناميكيّ، عكس إصرارهما وحماسهما. طوال المسرحيّة، بدتا كصديقتين مقرّبتين تتشاركان الهدف نفسه، لكنّ المشاهد الأخيرة كشفت عن طبقات خفيّة من الغيرة والتنافس، وبخاصّة بعد انكشاف حصول جويل منصور على وظيفتها في الـNGO  عبر الواسطة. هذا التفصيل أضفى بُعدًا نقديًّا إضافيًّا، مسلّطًا الضوء على التمييز الاجتماعيّ وآليات التوظيف غير العادلة التي تتناولها المسرحيّة بجرأة.

مسرحيّة “من جارور لجارور”
شخصيّات وقضايا متناقضة

وسام بتدّيني قدّم شخصيّة مؤلمة وواقعيّة لشخص مقعد، ونقل ببراعة معاناة ذوي الاحتياجات الخاصّة في المجتمع اللبنانيّ، وركّز على غياب الحقوق الأساسيّة لهذه الفئة. كان أداؤه مؤثّرًا للغاية، إذ أظهر تحدّيات هذه الفئة في الحياة اليوميّة، بدءًا من قلّة الإمكانيّات في الأماكن العامّة إلى نقص الفرص في سوق العمل. كذلك سلّط الضوء على تأثير كلمة “معاق” التي تساهم في تعزيز الوصمة الاجتماعيّة، ممّا جعل شخصيّة وسام تجسّد قضيّة إنسانيّة مهمّة حول حقوق هذه الفئة في المجتمع.

أمّا علي بليبل فقدّم شخصيّة “شلمصطي”، وهو شخص يتّسم بالسلوك المزعج وغير المنضبط، ويواجه صعوبة في العثور على وظيفة. وعلى رغم أنّ الدور لم يُعطَ المساحة الكافية لتطويره بشكل كامل، إلّا أنّ أداءه نجح في إظهار الشخصيّة كفرد ضائع، يحاول التكيّف مع وضعه الاجتماعيّ المتأزّم بطرق غير مشروعة أو مؤذية للمجتمع. كان من الممكن أن يتمّ التوسّع في تفاصيل هذه الشخصيّة وتوضيح دوافعها الداخليّة بشكل أكبر، لتعكس بشكل أعمق معاناة فئات الشباب المحرومة من الفرص.

قدّمت تالا محمود وطوني فرح شخصيّتي زوجين شابّين يواجهان صعوبة في تأمين حياة مستقلّة بسبب الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة في لبنان. كان الاختلاف بين الزوجين في الرغبة بالمستقبل منطقيًّا؛ إذ كانت تالا ترغب في السفر والهجرة بحثًا عن فرصة أفضل، بينما كان طوني يفضّل البقاء في لبنان. هذا الاختلاف في الآراء كان يعكس الواقع الذي يعيشه عديد من الأزواج الشابّة في لبنان، إذ يسعى البعض إلى الهجرة بسبب الأزمات الاقتصاديّة، في حين يفضّل آخرون البقاء في الوطن على رغم التحدّيات. وعلى رغم أهمّيّة دورهما في توجيه الضوء على هذه التناقضات، كان من الأفضل التوسّع أكثر في توضيح كيفيّة تكيّف الزوجين مع التوتّر اليوميّ في حياتهما، ممّا كان سيضفي عمقًا أكبر على معاناتهما.

اتّسم النص المسرحيّ بترابط دراميّ محكم وحبكة متماسكة، إلّا أنّ الإفراط في الحسّ الفكاهي طغى على عمق الطرح الدرامي، ما حدّ من قدرته على تحفيز الوعي الجماعيّ حول وثيقة السياسات الشبابيّة الوطنيّة اللبنانيّة

مونير يحفوف جسّد شخصية إنسان غير متعلّم، وهو دور محوريّ في تسليط الضوء على الصعوبات التي يواجهها الأفراد ممّن يفتقرون إلى التعليم في المجتمع اللبنانيّ. من خلال أدائه، أبرز مونير التحدّيات في الحصول على وظيفة أو بناء مكانة اجتماعيّة بسبب نقص التعليم. كانت الشخصيّة تُظهر كيف أنّ الأشخاص غير المتعلّمين يعانون من التهميش في المجتمع ويجدون صعوبة في التفاعل بشكل إيجابيّ مع الفرص المتاحة. عزّزت هذه الشخصية الرسالة حول أهمّيّة التعليم كأداة أساسيّة لتحسين الوضع الاجتماعيّ.

ميشال فغالي جسّدت شخصيّة شابّة في الثامنة عشرة من عمرها، وهو دور كان من المفترض أن يكون له تأثير قويّ على الجمهور. في هذه المرحلة العمريّة، يُعتبر الشباب الأمل والتغيير في المجتمع، وكان من المفترض أن تُسلّط الأضواء على دور هذا الجيل في دفع التغيير والمساهمة في تحسين الوضع في لبنان. لكنّ الطريقة التي قدّمت هذه الشخصيّة جاءت خفيفة وغير مؤثّرة بما يكفي. كان من الأفضل أن تعكس شخصيّة ميشيل طاقة الشباب ورغبتهم في التغيير بشكل أقوى، لتكون أكثر جذبًا للجمهور وتدعم رسالة المسرحيّة حول أهمّيّة وعي الشباب في التأثير على واقعهم والمساهمة في إيجاد الحلول للمشاكل التي يعاني منها المجتمع.

ترابط دراميّ وحبكة متماسكة

اتّسم النص المسرحيّ بترابط دراميّ محكم وحبكة متماسكة تعكس جوهر القضيّة المطروحة، إذ لجأ الكاتب إلى السخرية كأداة نقديّة، ممّا أضفى على العرض بعدًا كوميديًّا عزّز تفاعل الجمهور. إلّا أنّ الإفراط في الحسّ الفكاهي طغى على عمق الطرح الدرامي، ما حدّ من قدرته على تحفيز الوعي الجماعيّ حول وثيقة السياسات الشبابيّة الوطنيّة اللبنانيّة. كان من الأجدى تعزيز البعد التحليليّ للنص وإثراء بنائه الدراميّ بمواقف أكثر جدّيّة، تتيح للجمهور الانخراط عاطفيًّا وفكريًّا مع القضيّة المطروحة، بدلًا من الاكتفاء بردود فعل ضاحكة.

إلى جانب ذلك، لم يكن الموضوع الرئيس للمسرحيّة، وهو وثيقة السياسات الشبابيّة الوطنيّة اللبنانيّة، واضحًا بشكل كافٍ في النصّ. فقد غاب التركيز المباشر عليه طوال العرض، ولم يدرك الجمهور وجود هذه الوثيقة إلّا خلال النقاش اللاحق، ما أدّى إلى بعض الالتباس. وبذلك، بدت الوثيقة وكأنّها عنصر مفاجئ لم يندمج بسلاسة مع مجريات المسرحيّة، ممّا جعل النقاش اللاحق منفصلًا عن السياق الدراميّ الذي سبق عرضه.

أمّا من ناحية الإخراج، فقد اعتمد العرض على بنية مشهديّة متسلسلة، حيث تمّ تنسيق العناصر السينوغرافيّة بطريقة تخدم السرد الدراميّ. ومع ذلك، بدا التوجيه البصريّ منحازًا إلى دعم الخطّ الكوميديّ أكثر من تعميق البنية الدراميّة. كان يمكن تعزيز اللحظات المسرحيّة بتركيبات بصريّة أكثر رمزيّة، تُضفي على العرض بعدًا نقديًّا أعمق. كذلك فإنّ توظيف الإضاءة والفضاء المسرحيّ بأسلوب أكثر دلالة كان ليمنح العرض طابعًا أقرب إلى المسرح التفاعليّ التحريضيّ، ما يعزّز تأثيره في المتلقّي.

‎ملاحظات لا بدّ منها

عند نهاية المسرحيّة، كان أمام المشاهدين خيار البقاء أو المغادرة للمشاركة في نقاش حول “وثيقة السياسات الشبابيّة الوطنيّة اللبنانيّة”. وكان من الأفضل دمج هذا النقاش ضمن العرض المسرحيّ نفسه. لو تمّ تفاعل النقاش داخل الحدث المسرحيّ، لكان جذب انتباه جميع الحضور، وشجّعهم على التعبير عن آرائهم بشكل جماعيّ. هذا التفاعل الحيّ كان سيسهم في إظهار تنوّع التجارب والمعاناة التي يمرّ بها الشباب اللبنانيّ، ممّا يفتح الباب لمناقشة أعمق حول القضيّة. بذلك، كان من الممكن أن تكتسب المسرحيّة تأثيرًا أكبر في المجتمع، وتحفّز التغيير الفعليّ الذي يحتاجه لبنان.

‎على رغم العروض العديدة التي تمّ تنظيمها في مختلف مناطق لبنان لمسرحيّة “من جارور لجارور”، لا يزال الواقع الشبابيّ في لبنان على حاله، دون أيّ تغيير ملموس. وعلى رغم دعم بعض المنظّمات غير الحكوميّة NGOs) ) لهذه العروض، لا يبدو أنّ هناك أيّ تحرّك فعليّ لتحسين وضع الشباب اللبنانيّ.

المسرحيّة اليوم بحاجة إلى إعادة تقييم حبكتها لتصبح أداة حقيقيّة لتحفيز الشباب، خصوصًا من خلال تسليط الضوء على “وثيقة السياسات الشبابيّة الوطنيّة اللبنانيّة” التي أُقرّت في العام 2012 ولم تُنفّذ حتّى الآن. يجب أن تتحوّل المسرحيّة إلى منصّة تدعو للتغيير الفعليّ، مع التركيز على فشل الحكومة في تطبيق هذه الوثيقة. بذلك، يمكن المسرحيّة أن تصبح صوتًا يعبّر عن واقع الشباب اللبنانيّ ويحثّهم على التحرّك ضدّ التهميش والفقر والبطالة، ما يضفي عليها طابعًا أكثر تأثيرًا ويشجّع الجمهور على العمل نحو التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى