من حلب إلى بعلبك.. لاجئون ثم نازحون على قارعة الطريق

حين تسرّب إلينا الخبر، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، على لسان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ، ويفيد بأن مدينة بعلبك بكاملها سوف تكون هدفًا لعمليّات هذا الجيش، بدا الأمر أشبه بمزاح من النوع الثقيل. اللون الأحمر الذي يُحدّد عادة للأماكن التي ينوي العدو استهدافها، انسحب على أحياء المدينة كلّها. كان الخبر صاعقًا. كيف تكون المدينة التي تضمّ حوالي مئة ألف نسمة مهدّدة بقصف أعمى، كنّا قد رأينا مفاعيله في مناطق لبنانية أخرى؟

عائلتنا المكوّنة من والدي ووالدتي وأبناء خمسة، والتي كانت قد نزحت من سوريّا بعد اندلاع الحرب هناك، ولجأت إلى لبنان. أطلقت على أفرادها صفة لاجئين، كما تُطلق هذه الصفة عادة على من يغادروا بلدهم لدواع مختلفة، وتسوقهم الأقدار إلى بلد آخر. استقرّ بنا المقام في بعلبك، وصار لنا فيها معارف وأصدقاء، بحيث تحوّلت إلى ما يشبه مدينتنا الثانية، الموقّتة بطبيعة الحال، بعد ضواحي حلب، حيث غدا منزلنا هناك كومة ركام.

إلى أين سيقودنا القدر، نحن الأفراد السبعة،  وليس هناك مكان محدّد نقصده؟ لاجئون ونازحون. كيف؟ جميعًا، على ما يقول مظفّر النواب في موقع وظرف مختلفين.

نزوح على عجل

جمعنا ما تيسّر من ثياب بسرعة فائقة، إذ تبيّن لنا لاحقًا أنّنا أهملنا أشياء ضروريّة، وحملنا معنا ما لا فائدة منه. في لحظات الهلع، لا يعمل دماغ الإنسان على نحو صائب، هكذا تبيّن لنا، وتغطي عينيه غشاوة ينسجها القلق الشديد، وتصبح حركاته خارجة عن الـ “كونترول”، كما هي الحال في الأيّام العاديّة.

إلى أين سيقودنا القدر، نحن الأفراد السبعة،  وليس هناك مكان محدّد نقصده؟ لاجئون ونازحون. كيف؟ جميعًا، على ما يقول مظفّر النواب في موقع وظرف مختلفين.

تواصل معي أحد الاصدقاء الذي كان عارفًا بوضعنا، وأبلغني أنّ بيته مفتوح لعائلتي. شعرتُ أنّ همًّا ثقيلًا انزاح عن صدري، لكنّ منسوب القلق ما فتئ أن ارتفع من جديد، إذ عندما هممنا بشدّ الرحال إلى المكان الذي أشار إليه، تلقّى صديقنا خبرًا صاعقًا يفيد بأنّ أحد أقاربه دُمّر منزله بغارة عنيفة، وليس من مكان يأوي إليه. اعتذر صديقنا عن عدم إمكانه استقبالنا، فالمنزل – المأوى- مساحته صغيرة، ومن الصعب، بل المستحيل، أن يتّسع لعائلتين عديدي الأفراد.

وقفنا من جديد أمام المجهول، ولم يعد أمامنا سوى الركوب في “فان”، بعدما حُشرنا فيه مع عدد من الأفراد بشكل يفوق طاقة الآليّة، واعترانا قلق من نوع آخر، من أن يتعطّل الفان بسبب الحمل الثقيل، الذي يفوق طاقته.

على قارعة الطريق

ذهب بنا الفان في طريقه المعتاد باتّجاه العاصمة بيروت، وكان علينا أن نختار مكانًا نترجّل فيه من الآليّة وننهي رحلتنا، قبل الوصول إلى العاصمة، لعلمنا أو تقديرنا، أنّ بيروت صارت متخمة بالنازحين. وبما أنّ هدفنا لم يكن واضحًا، فقد ترجلنا من الآليّة قرب دوّار مدينة عاليه، وجلسنا هناك على قارعة الطريق. بقينا على هذه الحال عدة ساعات ونحن في حيرة من أمرنا، إلى أن رأتنا فتاة وتقدّمت منّا، معرّفة عن نفسها بأنّها كريمة أحد رجال الدين. لم يكن هناك من ضرورة لشرح وضعنا، إذ كان من الواضح أنّنا في انتظار الفرج للخروج من هذه المحنة بأيّ طريقة ممكنة.

وقفنا من جديد أمام المجهول، ولم يعد أمامنا سوى الركوب في “فان”، بعدما حُشرنا فيه مع عدد من الأفراد بشكل يفوق طاقة الآليّة، واعترانا قلق من نوع آخر، من أن يتعطّل الفان بسبب الحمل الثقيل، الذي يفوق طاقته.

اقتادتنا الفتاة إلى أحد المراكز الحزبيّة، العائدة إلى إحدى الجهات السياسيّة النافذة في المنطقة. وبعد مرور وقت ليس بقصير، انشغل خلاله عديد من الشبّان في البحث عن مركز إيواء مناسب، تمّ العثور على مدرسة رسميّة في قضاء بعبدا في وقت متأخر، إذ كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلًا.

ذاكرة “عازف البيانو”

وصلنا إلى المحلّة المقصودة، ودخلنا إلى المكان المحدّد، لنجد أنّه لا يستوفي الحدّ الأدنى من شروط الراحة، ولو بنسبة متواضعة، لكنّنا كنّا راضين بما تأمّن لنا، بعد جهد واضح كان بذله أولئك الشبّان.

جمعنا ما تبقّى لنا من قوّة، وشرعنا في تنظيف المكان. لكّن المهمّة لم تكن سهلة على الإطلاق، إذ إنّ المبنى كان مهجورًا لمدّة طويلة. تذكرت مشهد البيوت الفارغة في إبّان الحرب في فيلم “عازف البيانو” من بطولة أدريين برودي، حين لجأ إلى بيت فارغ إثر هروبه من ملاحقة النازيّين له، وذلك على الرغم من الظروف المختلفة في الحالتين.

من فيلم “the pianist”

لم يكن في المكان الذي نحن فيه آلة بيانو كالتي عثر عليها بطل الفيلم، إضافة إلى أنّ أحدًا منّا لا يحسن العزف على هذه الآلة “البورجوازيّة”. هذا، علمًا أنّ والدتي كانت تتّهمني دائمًا بأنّني أتقن العزف على أعصاب الأشخاص الآخرين، عندما تكون الفرصة متاحة، وحين أتيّقن أنّ لدى الشخص المستهدف رحابة صدر، وهذه مسألة شخصيّة لا علاقة لها  في الوضع الراهن.

لكن، وفي الظروف التي نحن فيها، ينبغي على المرء أن يتخلّى عن كلّ ما يمتّ بصلة إلى عاداته الخاصّة، وإلى نزواته الشخصيّة، لينصبّ اهتمام الجميع على كيفيّة التعامل مع ظروف مستجدّة ومفاجئة، لم يكن لدينا استعداد لمواجهتها.

إلفة البيوت المنكوبة

كنت أراقب والدتي من دون أن تشعر بذلك، فأراها مختلفة عن تلك التي أعرفها. فقد كان لها دائمًا طقوسها التي كرّستها مع مرور الزمن. صحيح أنّنا تركنا منزلنا الأساس في سوريّا، لكنّنا اعتدنا على المنزل الذي استأجرناه في بعلبك، وصار بيننا وبينه ذاك النوع من الإلفة بين الكائن الحيّ والجماد.

وها نحن الآن في غرفة واحدة لا يمكن أن نطلق عليها صفة بيت، بل عبارة عن ملجأ لفترة زمنيّة يصعب تقدير امتدادها. وخلال هذه الفترة ليس لديك من أشياء كثيرة تفعلها سوى الجلوس والانتظار. أمّا وصول وجبة الطعام التي ستُحمل إليك فلا يعدّ انتظارًا، بل يأتي كجزءٍ من روتين الإقامة الموقّتة. تذكّرت الصور التي كنت أراها على جهاز التلفاز لنساء جالسات في باحات المدارس على مقاعد مخصّصة عادة للتلامذة، ورؤوسهنّ مُتّكئة على راحات أيديهنّ، وبالقرب منهنّ أطفال صغار يلعبون، وكأنّهم خلال فترة “الفرصة”، التي تفصل بين ساعات الدراسة، ولكن في مدرسة لا تشبه مدرستهم الأصليّة التي صارت، ربّما، أطلالًا تتبعثر فيها أكوام من الحجارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى