من دير قانون النهر إلى الكونغو… سندباد الخيبات والانتصارات
يُلقّب بـ “أسمر” نسبة إلى لون بشرته الذي اكتسبه من زواج والديه، علي سكيكي ابن بلدة دير قانون النهر وآغاتا ابنة تياساليه في ساحل العاج. زواج انتهى بمأساة مبكرة إذ قتل الزوج سنة 1977 في لبنان على يد إحدى الميليشيات، ولم يكن قد أنهى أعوامه الـ 24 بعد، نتيجة للاحتقان بين حزبين محلّيّين، وهو الذي سافر بغية الابتعاد عن وحول الحرب اللبنانيّة بعدما كانت قد انطلقت منذ سنتين. كان علي سكيكي في زيارة عاديّة إلى بيروت، بينما آغاتا في ابيدجان كانت حاملًا بابنها، وهي في الـ 17 من عمرها.
ولد الصبيّ بعد أشهر قليلة، يتيمًا يحمل اسم والده علي، فعاش في كنف والدته مدّة سنتين، قبل أن يقرّر جدّاه في لبنان رعايته وتربيته في بلدته دير قانون النهر. تمّ الأمر بعد عمليّة تفاوض جرت في ساحل العاج بين جدّه اللبنانيّ وجدّته الافريقيّة التي وافقت مشترطة عليه بأن يدفع جميع كلف تربية الطفل طوال سنتين عاشهما مع أمّه التي ارتضت بهذه التسوية. من هنا بدأت حكاية أسمر في ضيعة والده دير قانون النهر وراح ينادي جدّيه بـ: أبي وأمّي.
مشاغب صغير
في البداية تعلّم علي في “مدرسة العامليّة” في بلدة العباسيّة، ثم “مبرّة السيّدة زينب” في جبشيت، التي عاش فيها تلميذًا في القسم الداخلي ليلًا ونهارًا لخمسة أيام، على أن يزور بيت العائلة في نهاية الاسبوع. وعلي في الحالتين كان طفلًا كثير الحركة، يشاغب ويتمرّد، ويلعب كرة القدم، ويتورّط في أيّ مجهول، طالما يرضي غريزة الاستكشاف بداخله. ولكثرة مشاكساته اتّخذت إدارة المبرّة قرارًا بطرد ذلك الصبيّ الذي لم تنفع معه المسايسة والمهادنة، فأكمل دراسته في صيدا، حيث نال الشهادة المهنيّة.
حكاية التلفاز
لم يتعرّف علي على “غرندايزر” و”سندباد” و”جونغر”، مثل بقيّة أترابه في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، ذلك لأنّ بيت الجدّة لم يكن يحتوي على جهاز تلفاز، فنظر الجدّة كان قد شحّ في وقت مُبكر، وارتأت ألّا ضرورة لوجود ذلك الجهاز وهي لن تراه. لكن علي كان يلجأ إلى منزل عمّته، كي يشاهد التلفاز عندها، بحسب مزاج زوج العمّة، فكانت نشرات الأخبار و”داينستي” و”سفينة المرح”. مسلسلات الكبار التي يشاهدها الصغير كغنيمة بصريّة لا يستطيع أن يتّخذ فيها قرارًا.
أمّا في “مبرّة السيدة زينب” فكانوا يخصّصون للتلامذة مشاهدات مقنّنة أيّام العطل لمسلسل كرتون “عدنان ولينة”، وفيلم هنديّ يكرّرون عرضه حتّى حفظه الأولاد مشهدًا مشهدًا. كانت هذه أسبابًا كافية كي يشتري “أسمر” تلفازًا من مصروفه الخاص، وهو في عزّ مراهقته، بعد أن اشتغل في وِرَش البناء أيّام العطلات.
رياضيّ في الدرك
انضمّ علي إلى سلك الدرك بعد نصائح الجميع حول أهمّيّة “وظيفة الدولة”، لما فيها من ضمان وثبات وترقيات، فارتدى البزّة مدّة خمس سنوات، قضى معظمها رياضيًّا مميّزًا في منتخبي قوى الأمن لكرتيّ القدم والسلّة، إذ حقّق عديدًا من البطولات مع تلك الفرق، دون أن يهمل شغفه بالقراءة التي بدأت لديه باكرًا بأمّهات الكتب والموسوعات، إرث والده وعمّه الذي كان مركونًا في صناديق على “التتخيتة”، فكانت قراءات متنوّعة من “كليلة ودمنة”، إلى “يوميّات الحرب الأهليّة”، و”موسوعة جبران خليل جبران”، و”مذكّرات شارل ديغول”.
في أثر والدته
اقتطع علي مساحة من خدمته في سلك الدرك كي يسافر إلى ساحل العاج، متقفّيًا أثر والدته التي لا يعرف عنها شيئًا، سوى خبر يتيم وصله من أحد المغتربين بأنّ آغاتا ماتت في العام 1996، ولم يجد أحدًا يحسم صحّة هذا الخبر لعدم وجود قنوات اتّصال. التقى علي بأخواله فأكّدوا له الخبر، مضيفين أنّ الوفاة تمّت في بوركينا فاسو. أمّا السبب فبرّروه بالحسد والسحر، أو “التسميم” كما جلّ الوفيات في إفريقيا حيث يبحثون عن أسباب خفيّة مرتبطة بالمعتقدات الشعبيّة.
حين سأل “أسمر” عن قبر والدته، لم يفده أحد باجابة شافية. هكذا عاد إلى لبنان بيتم إضافيّ، من دون أيّ اتصال حسّيّ أو صوتيّ بأبيه وأمّه. الأب مات في العشرينيّات من عمره، والأم في الثلاثينيّات.
منزل بلا ماء
بنصيحة من عمّه، استقال علي سكيكي من سلك الدرك وسافر إلى الكاميرون دون أن تكون هناك فرصة عمل محدّدة، فكانت مشقّة ومكابدة، أجبرَت علي على التحمّل والمثابرة، اتقاءً للشامتين ممّن اعتبروا قراره مغامرة غير محسوبة.
حين سأل “أسمر” عن قبر والدته، لم يفده أحد باجابة شافية. هكذا عاد إلى لبنان بيتم إضافيّ، من دون أيّ اتصال حسّيّ أو صوتيّ بأبيه وأمّه. الأب مات في العشرينيّات من عمره، والأم في الثلاثينيّات.
في الكاميرون اشتغل في شركة نقل أخشاب، لينتقل بعدها إلى الكونغو سنة 2007، ويعمل في كراج للإطارات وزيت السيّارات، ولم يكن الأمر بسيطًا إذ عاش في منزل بلا ماء ولا كهرباء. بعدها توجّه إلى ساحل العاج حيث عمل في مستودع ضخم لتوزيع المواد الغذائيّة، وراح يتشعّب في المكان بأدوار عديدة، إلى أن نشبت حرب داخليّة هناك، فتعثّرت أحوال الشركة، ولم تعد أجواء العمل إلى سابق طبيعتها، فانتقل علي إلى الغابون سنة 2017، ليعمل في شركة تحويل أموال مع شريك له. هناك تعرّض علي لعمليّة احتيال بمبلغ ضخم من قبل “صديق” كان محلّ ثقة، ثم عاد هذا الأخير وظهر بعد أشهر مقدّمًا سرديّة عمّا حصل، وقدّم أرضًا عليها مبنى صغير، لا يساويان ربع المبلغ المسروق.
الجدّة تبارك العائلة
في هذا الوقت كان عليّ قد تزوّج، مكوّنًا أسرة من ابنتين هما ليلى وشيماء، وابن وحيد هو فيدال. جميعهم لا يتكلّمون العربيّة. يكبرون بأمان لا يشبه تعرّجات وعثرات سيرة الأب، التي لا يعرفون عنها سوى عناوين قليلة. في الموازاة، عاد الوالد ليستكمل دراسته، حاصدًا شهادة جامعيّة باختصاص تقنيّ، من إحدى جامعات ابيدجان. منذ سنوات، وقبيل وفاتها، طلبَت الجدّة من علي بأن يعطيها صورة عائلته، فقال لها ما نفع ذلك وأنتِ لا تستطيعين مشاهدتها بسبب شحّ نظركِ؟ فردّت عليه: “بدّي ملّس عليها”. أرادت تحسّس وجوههم بأصابعها، فتباركهم على طريقة الجدّات الجنوبيّات.
شجرة “الباولونيا”
في العام 2021 استقلّ “أسمر” بعمله، متّخذًا من الكونغو مركزًا لنشاطه، بين تحويل الأموال وبيع وشراء الذهب والماس الخام. إيقاع متسارع واتصالات بين بلدان كثيرة، بينما يخطّط لمشروع ضخم عن زراعة شجرة “الباولونيا” في الكونغو، بهدف استثمارها في إنتاج الفحم بطريقة شرعيّة، وبالتنسيق مع الوزارات المعنيّة في الدولة.
جامع “الانتيك”
في موازاة كلّ هذا، اتّخذ “أسمر” من هواية جمع التحف، هدفًا واستراحة، فهو اليوم يهتمّ بالمزادات التي تعنى بأنواع المقتنيات القديمة “الآنتيك”، مراكمًا القطع دون أيّ نيّة لإعادة بيعها أو المتاجرة بها، فيركنها في منزله. هنا راديو خشبيّ ضخم، وهناك بيانو عتيق، وكاميرا بفلاش كبير، وآلة حاسبة تشبه الآلة الكاتبة، وكثير الكثير من النوادر التي يتفنّن بكسب مزاداتها قبل أن “يتورّط” بسبل حفظها.
مع كلّ هذا، بقيت الرياضة حليفته الدائمة، ليتدرّب كملاكم من دون خوض مباريات، ثمّ لاعب كرة مضرب بشكل شبه يوميّ. أمّا أخبار البلد فيتابعها عن بعد، محاولًا اقناع نفسه بأنه غير معنّي بما يجري في لبنان.