من ذاكرة بعلبك.. “الكرنبول” لعبة الأمس المنسيّة

كانوا يسمّونها في بعلبك لعبة “البليار”، وهذه التسمية قريبة من الإسم الصحيح. فلعبة “البلياردو”، وهو اسمها ذو الأصل الإيطاليّ، يعود إلى قرون مضت. إذ يبدو أنّ لويس السادس عشر إفتتح لعبة البلياردو الإيطاليّة، في القرن الثامن عشر من أجل تقليل الجوانب السلبيّة لألعاب الكريكيت، وتقديم ألعاب جديدة. أمّا التسمية الفرنسيّة “كرنبول” Carambole فقد أتت في الأساس من فاكهة إستوائية ذات لون يميل إلى البرتقاليّ، في حين أنّ الأصل يعود إلى البرتغاليّة، ليترجم بعدها إلى الإسبانيّة، وأصبح قيد الإستعمال في القرن السابع عشر، إشارة إلى لون كرة الكرنبول الحمراء.

لم تكن لعبة البليارد الأميركي (كما تُعرف حالياً) هي الرائجة في بعلبك، بل كانت لعبة الكرنبول الأكثر شيوعاً. والفرق بين الإثنتين هو أنّ اللعبة الأميركيّة تتضمّن 15 طابة إضافة إلى الطابة البيضاء التي يمكن للاعب استعمالها، كما أنّ الطاولة مجهزة بـستّ فتحات – ثقوب في زواياها، وفي سط الضلع الطويل من المستطيل. هذا، بينما في الكرنبول فليس هناك من ثقوب، وعدد الطابات ثلاث، قد تكون اثنتان منهما باللون الأبيض والثالثة حمراء، أو تكون هناك طابة صفراء وأخرى بيضاء، واحدة منهما لكلّ لاعب.

وإذا كانت لعبة البليارد الأميركيّ أكثر شعبيّة، ولها محبّوها، فإنّ الكرنبول تعتبر لعبة شبه أرستقراطيّة، إذ لا يُسمع فيها قرقعة الطابات الكثيرة، والضربات القويّة التي يقوم بها اللاعبون الأميركيّون، وهم يحتسون شراب البيرة في الوقت نفسه، في بار مزدحم، معتمرين قبّعات الـ”كاوبوي”، وتتمختر حولهم فتيات جميلات، طويلات القامة، ورشيقات بـ”الشورت” والقبّعة كذلك، وهي الأجواء التي بقيت في ذهننا من خلال مشاهدة الأفلام، وما يتطابق عمليّاً مع الواقع.

في ما يخص لعبة الكرنبول، فإنّنا نتخيّل كيف أنّ مجرياتها تدور في قاعة مخصّصة لها، يلفّها الصمت الذي قد تخرقه أنغام موسيقى كلاسيكيّة. أمّا اللاعبون فنتصوّرهم يرتدون ثياباً لائقة، ويتنقّلون بهدوء حول الطاولة ذات القماش الأخضر أو الأزرق، الشبيه بقماشات طاولات “البوكر”، وفي يد أحدهم سيجار ذو جودة عالية، وعلى الطاولة المحاذية لطاولة اللعب كأس من الويسكي أو “الكونياك”.

في الواقع، إنّ معظم هواة اللعبة هم من كبار السنّ، كما تفيدنا الصور الفوتوغرافية الكثيرة. إلى ذلك، تعتمد لعبة الكرنبول على مهارات “هندسيّة” أحياناً، وربّما غالباً، لكون الـ”باند”، أيّ حافّة الطاولة، المكوّنة من مادّة مرنة، التي تصطدم بها الطابة، تلعب دوراً محوريّاً في اللعبة. وعلى اللاعب أن يرسم في ذهنه شكلاً – مسيراً هندسيّاً يمكن للطابة سلوكه، كي تصطدم بالطابتين الباقيتين، وليحقّق عندها نقطة في صالحه.

ذاكرة اللعبة في بعلبك

لكنّ الجوّ الأرستقراطيّ، الذي قد تجري في حماه اللعبة، لم يكن حاضراً تماماً في بعلبك في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة الزمنيّة التي شهدت انتشار اللعبة، وقد تكون قد اختفت من بعدها، أو تضاءلت إلى حدّ كبير. كان اللاعبون ينتسبون إلى مختلف طبقات المجتمع البعلبكيّ، وجلّهم من الرجال أو الشبّان، وقلّة قليلة من المراهقين، إذ إنّ اللعبة تحتاج إلى خبرة لا تُكتسب بسهولة، وقد لا تُكتسب بالمرّة في حال عدم نجاح اللاعب في التوفيق ما بين القدرات الذهنيّة، في حال توافرها، والتطبيق العمليّ.

دخل لاعبون عديدون “التاريخ البعلبكيّ” الخاصّ باللعبة. كثر منهم رحلوا عن دنيانا أمثال الدكتور جميل علي فيّاض، صاحب السلوك الهادىء والحركات الراقية، وأبو زكي اسماعيل الأحمر، وآخرون ما زالوا على قيد الحياة أمثال محمود عيّارة ورياض حليحل وعبد الوهاب خزعل وغازي النابوش وحسين قصاص. كان هؤلاء “حرّيفة” وفي استطاعة أحدهم تحقيق 20 نقطة متتالية بسهولة، وأحياناً أكثر، في حين لا يستطيع المبتدئ سوى تسجيل نقطة أو نقطتين، قبل أن يفشل وتنتقل اللعبة إلى خصمه.

دخل لاعبون عديدون “التاريخ البعلبكيّ” الخاصّ باللعبة. كثر منهم رحلوا عن دنيانا أمثال الدكتور جميل علي فيّاض، صاحب السلوك الهادىء والحركات الراقية، وأبو زكي اسماعيل الأحمر، وآخرون ما زالوا على قيد الحياة أمثال محمود عيّارة ورياض حليحل وعبد الوهاب خزعل وغازي النابوش وحسين قصاص

لا يخلو الأمر، عادة، من نصائح يطلقها بعض المتفرّجين المتحلّقين حول الطاولة، وهم عادة من اللاعبين الذين ينتظرون دورهم بعد انتهاء الـ”برتيّة” Partie . لكنّ هذه النصائح لا يتقبّلها إلّا المبتدئون فقط، أمّا اللاعبون الكبار فيؤثرون عدم إطلاق النصائح، وحتى مجرّد الكلام من قبل المتفرّجين، فاللعبة يجب أن تدور، بحسب وجهة نظرهم، في جوّ يشبه الأجواء الروحانيّة، أو الصوفيّة. كان هؤلاء من المزاجيّين، ويعتبرون الكرنبول أشبه بلعبة الشطرنج، لا تتقبل أجواؤها الضجيج. إلى ذلك، كانوا يقبلون على مكان معيّن يتضمّن طاولة ذات مواصفات جيّدة.

وفي حيث الأساس، أي بشكل عام، إنّ هذه المواصفات تتعلّق بمرونة الأشرطة المطّاطيّة المتقابلة (الباند)، المثبتة على إطار، بارتفاع 36 إلى 37 ملّيمتراً. ويجب أن يتراوح ارتفاع طاولة البليارد من الأرض إلى السطح العلويّ للإطار بين 0.85 متراً و0.87 متراً. ولا شكّ أنّ نوعيّة القماش الذي يغطّي الطاولة، إضافة إلى مرونة “الباند” المذكورة، تلعب دوراً في تحديد مستوى الطاولة من حيث الجودة.

صالات الكرنبول في بعلبك

كان عدد الطاولات الجيّدة في بعلبك، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. عُرفت طاولة الزهر (غاب عنا اسمه الصغير)، ومساعده عاطف الجمال بكونها من أفضل الطاولات. وقعت صالته بمحاذاة سينما أمبير، عند الزاوية الجنوبيّة منها، وكان يمكن الولوج مباشرة من مدخل السينما إلى المكان الذي كان عمليّاً ملكاً لصاحب السينما الراحل حبيب ملّوك. أمَّ هذه الصالة أفضل اللاعبين، وخصوصاً في ساعات المساء، وعمل بعضهم على توقيت زيارته إلى الصالة قبل بدء الحفلة المسائيّة في السينما، أملاً في أن يلعب برتيّة، ويشاهد بعدها فيلماً سينمائيّاً.

أّما الصالة الثانية، فكانت في محلّ المرحوم “أبو طوني قرابولاد”، الإنسان الكبير في السن، والشديد اللطافة، لكنّها لم تكن ذات نوعيّة جيّدة جدّاً، إذ كان الباند “ميت” ولا ترتدّ عنه الطابات كما يجب. الصالة الثالثة كانت كبيرة المساحة، واحتوت على طاولتين: واحدة كبيرة، والأخرى أصغر منها، وأدارها المرحوم حسن الجمّال، الذي استمتّع بالسخرية من اللاعبين الهواة، وكان يحاسب الزبائن على الوقت، دقيقة فدقيقة. وللمناسبة لا بدّ من ذكر أنّ أجرة الطاولة كان يتمّ من خلال حساب الوقت الذي تستغرقه اللعبة، ولم يكن من السهل أن يباشر اللاعبون أنفسهم في برتيّة أخرى بعد الأولى، إلاّ إذا لم يكن هناك من ينتظر دوره في اللعب.

قلنا إنّ أجرة الطاولة تتمّ تبعاً للوقت الذي تستغرقه اللعبة. يدوّن صاحب الصالة وقت بدء البرتيّة على دفتر مخصّص، وعند انتهاء اللعبة يحتسب الوقت والأجرة. فإذا كانت اللعبة “حبّيّة” يدفع الأجرة اللّاعبان الاثنان بالتساوي، وهذه من الحالات القليلة، إذ جرت العادة أن يدفع الخاسر المبلغ المطلوب. وكان من الممكن أن يلعب لاعبان ضدّ لاعبين، وحينها يتقاسم الخاسرون القيمة المطلوبة. كذلك عمل بعض اللاعبين المهرة على تعقيد اللعبة، من خلال وضع صحن صغير في منتصف الطاولة، يجب ألّا تلامسه إحدى الطابات، وإذا ما حدث ذلك، فعلى اللاعب أن يضع قطعة نقديّة هي عبارة عن ربع ليرة أو نصفها في الصحن. أمّا المبلغ الذي يجمعه الصحن فيذهب إلى الفائز عند نهاية اللعبة.

كنت شخصيّاً من محبّي لعبة الكرنبول، في سنّ المراهقة وما بعده، وبلغت شوطاً جيّداً في طريق الإحتراف، لكن من غير الممكن مقارنة مهاراتي المتواضعة مع مهارة المحترفين الحقيقيّين. كنت أتعمّد خوض مباراة مع أحدهم أحياناً، عالماً سلفاً بخسارتي، وبتسديد أجرة الطاولة، لكنّني أقدمت على ذلك من أجل اكتساب بعض الخبرة، ممّن لا أمل لي بمقارعتهم والتغلّب عليهم. إلّا أنّ ذكرياتي المتعلّقة باللعبة إرتبطت دائماً بذكرى أحد الأصدقاء في خلال تلك المرحلة.

كان محمّد رستم أقرب الأصدقاء إليّ. درسنا في المدرسة نفسها والتقينا كلّ يوم. عرفته دائماً مخلصاً، ودوداً، وهادىء الطباع. إفترقت سبلنا بعد سفري وغيابي الطويل، وتقابلنا لدى عودتي في بعض الأحيان، ثمّ تدنّت لقاءاتنا. لم يُكتب لمحمد أن يعيش حتّى سنوات الكهولة، تغلّب عليه المرض الخبيث، كما تغلّب على آخرين ممّن كنت أعرفهم من جيلنا.

معالم اختفت وصارت ذكرى

انتقل أصحاب الصالات معظمهم إلى العالم الآخر، كما ذكرنا. كنت أرى عاطف الجمال، الذي ما زال على قيد الحياة، وهو يسير في شوارع البلدة متّكئاً على عصاه، علماً أنّه لم يبلغ من العمر عتيًّا. لم يعرفني حين قابلته وجهاً لوجه، ولم ألفت نظره إلى ذلك. ذهبت صالته مع ذهاب سينما أمبير، واختفت معالمها ضمن البناء الذي تحوّل إلى مصرف. غادر آل قربولاد البلدة، شأنهم شأن مسيحيّين كثر. صار محلّ أبي طوني مكاناً لبيع الثياب، وبيته الواقع في ما يُسمّى الحيّ المسيحيّ بات مهجوراً. كذلك، لم يتعرّف إلي أحد اللاعبين الذي نازلته غير مرّة حين صادفته في الشارع، ولم أذكّره بنفسي.

إختفت ذكريات الكرنبول من أذهان الكثيرين كما يبدو، ولم يعد هناك أمكنة في المدينة تنتصب فيها الطاولات الخضراء الجميلة. احتلّت الألعاب الإلكترونيّة مكان قريناتها الكلاسيكيّة، لدى جيل جديد لم يرَ في حياته طاولة كرنبول، إلاّ في صور قد لا تثير اهتمامه، ولا يدري ماهيّتها.