من يأمر بهدم الأطلال التراثيّة في النبطية؟

موجعة كانت مشاهد طائرات الموت الاسرائيلية طوال فترة الحرب وهي تدكّ معالمنا التراثيّة والتاريخيّة في مختلف مناطق الجنوب، وتحديدًا في الوسط القديم لمدينة النبطية. الوجع جعلنا نصرخ بالكلمة وندبّ الصوت ونكتب على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ونتّهم إسرائيل بأنّها تحاول تدمير ذاكرتنا وحنيننا ومحو رائحة الراحلين من أهلنا، وكلّ ما يجعلنا نرتبط بما بناه الجدود وحافظ عليه الأحفاد؛ وكنّا فرحين بأنّه قاوم الزمن وأعاصير الاعتداءات الإسرائيليّة التي كانت تتكرّر على النبطية منذ مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، وساهمت بشكل كبير في تقويض البنية المعماريّة التراثيّة وفي تلاشي معظمها لاحقاً.

الوجع تفاقم أمس، مع مشاهد الجرّافات وهي تأكل أسنانها من دون مبالاة ما تبقّى من عقود وخانات وأطلال العمارة العتيقة في الوسط الذي بكينا لفقدانه وما زلنا، فيما ينصرف من ينصرف بحثًا عن استثمار جديد يتعلّق بكيفيّة البناء والدور التي سترتفع، والحجارة التي ستباع وتجارة الرمول والبحص وغيرها من أفكار يبدو أنّها ستتحوّل إلى مصدر رزق لمجموعة تغتنم مثل هذه الظروف و”الفرص”، لترتفع بمكاسبها الماليّة وتطوي صفحة العمارة والذاكرة تحت أقدام الجرّافات.

الجرافات تمعن هدمًا في معالم النبطية التراثية (تصوير كامل جابر)

قولوا لنا: من أمر بهدم ما تبقّى من خانات وعقود في وسط المدينة؟ اسم المهندس الذي سمح بذلك، أو المرجعيّة التي أطلقت أيادي المستعجلين على إزالة الوسط المعماريّ لساحة النبطية، إن كانت بلديّة أم وزارة ما، أو أيّ جهة بعينها؟ من قال إنّه لا يمكن الاستفادة من أطلال التراث والتاريخ في إنشاء عمارة جديدة تجمع بين القديم والحديث وهذا يحدث في مختلف الدول التي تحترم تراثها وذاكرتها؟

منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار الذي بدأ في الـ27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وبعد زيارتنا لقبور الشهداء من أبناء المدينة في الحرب الضروس، وجلّهم من الأصدقاء الذين تمسّكوا بشرايين المدينة كي تبقى ممتدّة عميقًا في جذور الذاكرة والتراب، رفعنا صوتنا وقلنا: قبل أن تمعن الجرّافات في إزالة البيوت القديمة وبقاياها وما تحمله من معان سامية وذاكرة فوّاحة، تعالوا لنقيّم هذا الأمر وندرسه ونسارع إلى الحفاظ على ما يمكن حفظه، أو الاستفادة منها في الوجهة المعماريّة التراثيّة المقبلة لمدينة النبطية كي تبقى متمسّكة بدلالاتها المختلفة، وبما يذكّر الأجيال القادمة أنّ ثمّة من دمّر لنا إرثنا التراثيّ ذات عدوان، ففتك بالبشر والحجر والشجر ومصادر الرزق، لكنّنا أبينا إلّا أن نحافظ على ما تبقّى من هذا الإرث، لكي نتذكّر ويبقى عالقًا في أذهاننا، أنّ عدوًا لنا لا يمكن أن تمتدّ أيدينا إلى مصافحته أو الاعتراف به يومًا، بعدما أمعن في قتلنا وتدمير بيوتنا وورودنا وحيّز من ذاكرتنا!

راجعنا بلديّة النبطية ورئيسها، وأتت وفود وجمعيّات من العاصمة بيروت ومناطق أخرى وعرضت أن تساعد في حماية الإرث التراثيّ وترميمه إذا أمكن، ووضع دراسات للاستفادة من الأطلال التي بقيت. لكن، ماذا ترانا نفعل نحن؟ أنكمل ما فعله الإسرائيليّون أم نستفيد ممّا تبقى لنا؟ ومن قرّر أن يمسح ما تبقّى لنا من الذاكرة؟

قولوا لنا: من أمر بهدم ما تبقّى من خانات وعقود في وسط المدينة؟ اسم المهندس الذي سمح بذلك، أو المرجعيّة التي أطلقت أيادي المستعجلين على إزالة الوسط المعماريّ لساحة النبطية، إن كانت بلديّة أم وزارة ما، أو أيّ جهة بعينها؟

تذكير بالذاكرة

في هذا المكان بالذات شهدنا نحو العام 1982 هدم ما تبقّى من أعلاه، وتكرّس ذلك بدك أقدم الفنادق في النبطية “فندق زهرة الجنوب” بعدما أصيب بقذائف إسرائيليّة في العام 1979، وتحوّل الفندق هذا إلى تجمّع تجاريّ يضمّ باعة وخيّاطين وحرفيّين، بنى لاحقاً ذاكرته الجديدة التي تنامت سنة تلو سنة على الدرج القديم من أرث الفندق، وبقي صامداً على رغم غارات الـ 12 من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي التي دكّت الوسط التجاريّ بأكمله، مُعلَّقاً بأثواب الحجارة المربّعة والمشذّبة والعتبات الطويلة، التي لو أتيح لها أن تشهد على الذاكرة لقالت كثيراً وكثيراً.

يتردّد أنّ هذا الفندق بناه الراحل الحاج كامل وهبي مثلما بنى عديداً من دكاكين السوق، منها على نفقته وباعها لاحقاً، ومنها لمصلحة مالكين من أبناء النبطية. كان حيدر حسن جابر من النبطية صاحب الملك الذي تقع تحته مجموعة من الخانات الضخمة ودمرتها الغارات الأخيرة. وكانت هذه الخانات تستخدم في مبيت الخيول والدواب، أمّا أعلاها فكناية عن فندق قديم يعتمره القرميد الأحمر، كان يبيت فيه التجّار أو الزبائن القادمون من مناطق بعيدة عشيّة سوق الإثنين في النبطية.

في العام 1958 استأجره نجيب أسعد كلوت من رضا حيدر جابر “أبو عزّو” وأعاد ترخيصه وتجهيزه ليكون في استقبال القادمين من العاصمة بيروت ومناطق أخرى إلى الجنوب، أو العكس، فيبيتون ليلتهم قبل الانتقال إلى وجهتهم التالية. وعندما تقدّم كلوت في العمر أداره ابنه محمّد الملقب بـ “أبو الزوز”. وقبل رحيله في العام 1985 تنازل أسعد كلوت عن الاستثمار سنة 1981 لمصلحة أبناء حسين رامز ياسين في النبطية فحوّلوه إلى مجمّع تجاريّ.

“فندق زهرة الجنوب”

كانت تحت الفندق دكاكين مبنيّة من حجارة مقصّبة على نمط العقد، أيّ نصف دائريّة من أعلاها. وفي سنة 1962 أنشأ عبد الحسن شعبان (أبو رائف) وحسن شريف بدر الدين (أبو أحمد) في إحداها مكتباً وأطلقا عليه تسمية “موقف النبطيّة”، لإدارة مواصلات سيّارات الأجرة التابعة لأبناء النبطيّة، من المدينة نحو صيدا وبيروت وغيرها من المناطق اللبنانيّة. وكانت تتبدّل أنواع التجارة في هذه المحال المتواضعة ذات الوجهة التراثيّة بتبدّل المالكين أو المستأجرين.

استثمار في الوجع

ماذا سنقول غداً لكلّ من عبروا في ذاكرة المدينة ومقاومتها للزمن وما تعرضّت له على مدى أكثر من نصف قرن من قصف وتدمير، ممّن تمسّكوا بالتراب حتّى الدم الأخير لتحقيق ملحمة الحفاظ على بنيتنا الاجتماعيّة والثقافيّة وفي طليعتها العمارة التي ورثناها من الأهل على مدى عقود طويلة تتراكم في قرن ونصف القرن من الزمن على الأقلّ؟

فلتتوقّف هذه المهزلة وهذا الاستثمار في الوجع. إنّ ما يجري يعيد إلى ذاكرتنا كيف فقدت النبطية الحيّز الأوسع من عمارتها التقليديّة، نتيجة الاهمال المتعمّد، إذ كان يعمد “المتعهّدون” والمستثمرون بعد كلّ عدوان كان يتكرّر منذ عقود بعيدة، إلى هدمها بحجّة أن ترميمها صعب، لتنشأ على أطلالها عمارات وبنايات، لم تصمد هي الأخرى أمام ثقل الصواريخ التي أطلقها العدو الإسرائيلي على مدينتنا النبطية لكي يشوّهها ويفقدها رونقها وذاكرتها وأغلى ما فيها، تمامًا مثلما فعل في بيروت والبقاع وفي القرى الحدودّية والداخليّة، إذ قتل من قتل ودمّر مجمل العمارات والبيوت العتيقة الحلوة وما تحمله من ألق الذاكرة وعذوبها…

أوقفوا هذه المجزرة… بل أوقفوا هذه المهزلة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى